البحث
فصل في الفتح الأعظم
فصل في الفتح الأعظم
الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس به في دين الله أفواجا وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا خرج له رسول الله بكتائب الإسلام وجنود الرحمن سنة ثمان لعشر مضين من رمضان واستعمل على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري وقال ابن سعد بل استعمل عبدالله بن أم مكتوم وكان السبب الذي جر إليه وحدا إليه فيما ذكر إمام أهل السير والمغازي والأخبار محمد بن إسحاق بن يسار أن بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة عدت على خزاعة وهم على ماء يقال له الوتير فبيتوهم وقتلوا منهم وكان الذي هاج ذلك أن رجلا من بني الحضرمي يقال له مالك بن عباد خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه فعدت خزاعة على بني الأسود وهم سلمي وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم هذا كله قبل المبعث فلما بعث رسول الله وجاء الإسلام حجز بينهم وتشاغل الناس بشأنه فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله وبين قريش وقع الشرط أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده فعل ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ودخلت خزاعة في عقد رسول الله وعهده فلما استمرت الهدنة اغتنمها بنو بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم الثأر القديم فخرج نوفل ابن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر فبيت خزاعة وهم على الوتير فأصابوا منهم رجالا وتناوشوا واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفيا ليلا ذكر ابن سعد منهم صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص حتى حازوا خزاعة إلى الحرم فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك فقال كلمة عظيمة لا إله له اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه فلما دخلت خزاعة مكة لجؤوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له رافع ويخرج عمرو بن سالم الخزاعى حتى قدم على رسول الله المدينة فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني أصحابه فقال
( يا رب إني ناشد محمدا % حلف أبينا وأبيه الأتلدا )
( قد كنتم ولدا وكنا والدا % ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا )
( فانصر هداك الله نصرا أبدا % وادع عباد الله يأتوا مددا )
( فيهم رسول الله قد تجردا % أبيض مثل البدر يسمو صعدا )
( إن سيم خسفا وجهة تربدا % في فيلق كالبحر يجري مزبدا )
( إن قريشا أخلفوك الموعدا % ونقضوا ميثاقك المؤكدا )
( وجعلوا لي في كداء رصدا % وزعموا أن لست تدعو أحدا )
( وهم أذل وأقل عددا % هم بيتونا بالوتير هجدا )
( وقتلونا ركعا وسجدا % )
يقول قتلنا وقد أسلمنا فقال رسول الله نصرت يا عمرو ابن سالم ثم عرضت سحابة لرسول الله فقال إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم رجعوا إلى مكة فقال رسول الله للناس كأنكم بأبي سفيان وقد جاء ليشد العقد ويزيد في المدة ومضى بديل بن ورقاء في أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان وقد بعثته قريش إلى رسول الله ليشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا الذي صنعوا فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء قال من أين أقبلت يا بديل فظن أنه أتى النبي فقال سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي قال أو ما جئت محمدا قال لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيها النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه فقال يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني قالت بل هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجس فقال والله لقد أصابك بعدي شر ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه فلم يرد عليه شيئا ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله فقال ما أنا بفاعل ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال أنا أشفع لكم إلى رسول الله فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ثم جاء فدخل على علي ابن أبي طالب وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديهما فقال يا علي إنك أمس القوم بي رحما وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا اشفع لي إلى محمد فقال ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة فقال هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر قالت والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس وما يجبر أحد على رسول الله قال يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني قال والله ما أعلم لك شيئا يغي عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا قال لا والله ما أظنه ولكني ما أجد لك غير ذلك فقام أبو سفيان في المسجد فقال يا أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ثم ركب بعيره فانطلق
فلما قدم على قريش قالوا ما وراءك قال جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أعدى العدو ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم قد أشار علي بشيء صنعته فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا قالوا وبم أمرك قال أمرني أن أجير بين الناس ففعلت فقالوا فهل أجاز ذلك محمد قال لا قالوا ويلك والله إن زاد الرجل على أن لعب بك قال لا والله ما وجدت غير ذلك وأمر رسول الله الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها وهي تحرك بعض جهاز رسول الله فقال أي بنية أمركن رسول الله بتجهيزه قالت نعم فتجهز قال فأين ترينه يريد قالت لا والله ما أدري ثم إن رسول الله أعلم الناس أنه سائر إلى مكة فأمرهم بالجد والتجهيز وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها فتجهز الناس فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله إليهم ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته في قرون في رأسها ثم خرجت به وأتى رسول الله الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث عليا والزبير وغير ابن إسحاق يقول بعث عليا والمقداد والزبير فقال انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش فانطلقا تعادى بهما خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان فاستنزلاها وقالا معك كتاب فقالت ما معي كتاب ففتشا رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي رضي الله عنه أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد منه قالت أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليهما فأتيا به رسول الله فإذا فيه من حاطب بن أبي بلعتة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله إليهم
فدعا رسول الله حاطبا فقال ما هذا يا حاطب فقال لا تعجل علي يا رسول الله والله إني لمؤمن بالله ورسوله وما ارتددت ولا بدلت ولكني كنت امرءا ملصقا في قريش لست من أنفسهم ولي فيهم أهل وعشيرة وولد وليس لي فيهم قرابة يحمونهم وكان من معك لهم قرابات يحمونهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي فقال عمر بن الخطاب دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله وقد نافق فقال رسول الله إنه قد شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فذرفت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم ثم مضى رسول الله وهو صائم والناس صيام حتى إذا كانوا بالكديد وهو الذي تسميه الناس اليوم قديدا أفطر وأفطر الناس معه ثم مضى حتى نزل مر الظهران وهو بطن مر ومعه عشرة آلاف وعمى الله الأخبار عن قريش فهم على وجل وارتقاب وكان أبو سفيان يخرج يتحسس الأخبار فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا فلقي رسول الله بالجحفة وقيل فوق ذلك وكان ممن لقيه في الطريق ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية لقياه بالأبواء وهما ابن عمه وابن عمته فأعرض عنهما لما كان يلقاه منهما من شدةالأذى والهجو فقالت له أم سلمة لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك وقال علي لأبي سفيان فيما حكاه أبو عمر ائت رسول الله من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف ( تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ) ( يوسف 91 ) فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) ( يوسف 92 ) فأنشده أبو سفيان أبياتا منها
( لعمرك إني حين أحمل راية % لتغلب خيل اللات خيل محمد )
( لكا لمدلج الحيران أظلم ليله % فهذا أواني حين أهدى فأهتدي )
( هداني هاد غير نفسي ودلني % على الله من طردت كل مطرد )
فضرب رسول الله صدره وقال أنت طردتني كل مطرد وحسن إسلامه بعد ذلك ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله منذ أسلم حياء منه وكان رسول الله يحبه وشهد له بالجنة وقال أرجو أن يكون خلفا من حمزة ولما حضرته الوفاة قال لا تبكوا علي فوالله ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت فلما نزل رسول الله مر الظهران نزله عشاء فأمر الجيش فأوقدوا النيران فأوقدت عشرة آلاف نار وجعل رسول الله على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه وركب العباس بغلة رسول الله البيضاء وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحدا يخبر قريشا ليخرجوا يستأمنون رسول الله قبل أن يدخلها عنوة قال والله إني لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا قال يقول بديل هذه والله خزاعة حمشتها الحرب فيقول أبو سفيان خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها قال فعرفت صوته فقلت أبا حنظلة فعرف صوتي فقال أبا الفضل قلت نعم قال مالك فداك أبي وأمي قال قلت هذا رسول الله في الناس واصباح قريش والله قال فما الحيلة فداك أبي وأمي قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك فركب خلفي ورجع صاحباه قال فجئت به فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا من هذا فإذا رأوا بغلة رسول الله وأنا عليها قالوا عم رسول الله على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال من هذا وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله وركضت البغلة فسبقت فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله ودخل عليه عمر فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه قال قلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله فأخذت برأسه فقلت والله لا يناجيه الليلة أحد دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا قال مهلا يا عباس فوالله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب فقال رسول الله اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به فذهبت فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله فلما رآه رسول الله قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا فقال له العباس ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فأسلم وشهد شهادة الحق
فقال العباس يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ففعل فمرت القبائل على راياتها كلما مرت به قبيلة قال يا عباس من هذه فأقول سليم قال فيقول مالي ولسيلم ثم تمر به القبيلة فيقول يا عباس من هؤلاء فأقول مزينة فيقول مالي ولمزينة حتى نفذت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها فإذا أخبرته بهم قال مالي ولبني فلان حتى مر به رسول الله في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال سبحان الله يا عباس من هؤلاء قال قلت هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار قال ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ثم قال والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما قال قلت يا أبا سفيان إنها النبوة قال فنعم إذا قال قلت النجاء إلى قومك وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة فلما مر بأبي سفيان قال له اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا فلما حاذى رسول الله أبا سفيان قال رسول الله ألم تسمع ما قال سعد قال وما قال فقال كذا وكذا فقال عثمان وعبدالرحمن بن عوف يا رسول الله ما نأمن ان يكون له في قريش صولة فقال رسول الله بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة اليوم يوم أعز الله فيه قريشا ثم أرسل رسول الله إلى سعد فنزع منه اللواء ودفعه إلى قيس ابنه ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار إلى ابنه قال أبو عمر وروي أن النبي لما نزع منه الراية دفعها إلى الزبير ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قريشا صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت اقتلوا الحميت الدسم الأحمش الساقين قبح من طليعة قوم قال ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن قالوا قاتلك الله وما تغني عنا دارك قال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد وسار رسول الله فدخل مكة من أعلاها وضربت له هنالك قبة وأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يدخلها من أسفلها وكان على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب وكان أبو عبيدة على الرجالة والحسر وهم الذين لا سلاح معهم وقال لخالد ومن معه إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا فما عرض لكم أحد إلا أناموه وتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين وكان حماس ابن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحا قبل دخول رسول الله فقالت له امرأته لماذا تعد ما أرى قال لمحمد وأصحابه قالت والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء قال إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم ثم قال
( إن يقبلوا اليوم فمالي عله % هذا سلاح كامل وأله )
( وذو غرارين سريع السله % )
ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل بن عمرو فلما لقيهم المسلمون ناوشوهم شيئا من قتال فقتل كرز بن جابرالفهري وخنيس ابن خالد بن ربيعة من الملسمين وكانا في خيل خالد بن الوليد فشذا عنه فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا وأصيب من المشركين نحو اثنى عشر رجلا ثم انهزموا وانهزم حماس صاحب السلاح حتى دخل بيته فقال لامرأته أغلقي علي بابي فقالت وأين ما كنت تقول فقال
( إنك لو شهدت يوم الخندمه % إذ فر صفوان وفر عكرمه )
( واستقبلتنا بالسيوف المسلمه % يقطعن كل ساعد وجمجمه )
( ضربا فلا نسمع إلا غمغمه % لهم نهيت حولنا وهمههه )
( لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه )
وقال أبو هريرة أقبل رسول الله فدخل مكة فبعث الزبير على إحدى المجنبتين وبعث خالد بن الوليد على المجنبة الأخرى وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسر وأخذوا بطن الوادي ورسول الله في كتيبته قال وقد وبشت قريش أوباشا لها فقالوا نقدم هؤلاء فإن كان لقريش شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا فقال رسول الله يا أبا هريرة فقلت لبيك رسول الله وسعديك فقال اهتف لي بالأنصار ولا يأتيني إلا أنصاري فهتف بهم فجاؤوا فأطافوا برسول الله فقال أترون إلى أوباوش قريش وأتباعهم ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم إلا شاء وما أحد منهم وجه إلينا شيئا وركزت راية رسول الله بالحجون عند مسجد الفتح ثم نهض رسول الله والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله حتى دخل المسجد فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بالقوس ويقول ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ( الإسراء 81 ) ( جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد ) ( سبأ 49 ) والأصنام تتساقط على وجوهها وكان طوافه على راحلته ولم يكن محرما يومئذ فاقتصر على الطواف فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة فأمر بها ففتحت فدخلها فرأى فيها الصور ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام فقال قاتلهم الله والله إن استقسما بها قط ورأى في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده وأمر بالصور فمحيت ثم أغلق عليه الباب وعلى أسامة وبلال فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلى هناك ثم دار في البيت وكبر في نواحيه ووحد الله ثم فتح الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) ( الحجرات 13 )
ثم قال يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم قالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم قال فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء ثم جلس في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول الله أين عثمان بن طلحة فدعي له فقال له هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء وذكر ابن سعد في الطبقات عن عثمان بن طلحة قال كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل رسول الله يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظت له ونلت منه فحلم عني ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت فقال بل عمرت وعزت يومئذ ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قالة فلما كان يوم الفتح قال يا عثمان ائتني بالمفتاح فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إلي وقال خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف قال فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال ألم يكن الذي قلت لك قال فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت فقلت بلى أشهد أنك رسول الله وذكر سعيد بن المسيب أن العباس تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم فرده رسول الله إلى عثمان بن طلحة وأمر رسول الله بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة وأبو سفيان ابن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث أما والله لو أعلم أنه حق لا تبعته فقال أبو سفيان أما والله لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء فخرج عليهم النبي فقال لهم قد علمت الذي قلتم ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب نشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك
فصل
ثم دخل رسول الله دار أم هانىء بنت أبي طالب فاغتسل وصلى ثمان ركعات في بيتها وكانت ضحى فظنها من ظنها صلاة الضحى وإنما هذه صلاة الفتح وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا حصنا أو بلدا صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة اقتداء برسول الله وفي القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكرا لله عليه فإنها قالت ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها وأجارت أم هانىء حموين لها فقال لها رسول الله قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء
فصل
ولما استقر الفتح أمن رسول الله الناس كلهم إلا تسعة نفر فإنه أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة وهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح وعكرمة بن أبي جهل وعبد العزى بن خطل والحارث بن نفيل بن وهب ومقيس بن صبابة وهبار بن الأسود وقينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب فأما ابن أبي سرح فأسلم فجاء به عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله فقبل منه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر ثم ارتد ورجع إلى مكة
وأما عكرمة بن أبي جهل فاستأمنت له امرأته بعد أن فر فأمنه النبي فقدم وأسلم وحسن إسلامه وأما ابن خطل والحارث ومقيس وإحدى القينتين فقتلوا وكان مقيس قد أسلم ثم ارتد وقتل ولحق بالمشركين وأما هبار بن الأسود فهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله حين هاجرت فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ففر ثم أسلم وحسن إسلامه واستؤمن رسول الله لسارة ولإحدى القينتين فأمنهما فأسلمتا فلما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله في الناس خطيبا فحمد لله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما حلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ولما فتح الله مكة على رسوله وهي بلده ووطنه ومولده قال الأنصار فيما بينهم أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها وهو يدعو على الصفا رافعا يديه فلما فرغ من دعائه قال ماذا قلتم قالوا لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال رسول الله معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم وهم فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله وهو يطوف بالبيت فلما دنا منه قال له رسول الله أفضالة قال نعم فضالة يا رسول الله قال ماذا كنت تحدث به نفسك قال لا شيء كنت أذكر الله فضحك النبي ثم قال استغفر الله ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه وكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه قال فضالة فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت هلم إلى الحديث فقلت لا وانبعث فضالة يقول
( قالت هلم إلى الحديث فقلت لا % يأبى عليك الله والإسلام )
( لو قد رأيت محمدا وقبيله % بالفتح يوم تكسر الأصنام )
( لرأيت دين الله أضحى بينا % والشرك يغشى وجهه الإظلام )
وفر يومئذ صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل فأما صفوان فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله فأمنه وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فرده فقال اجعلني فيه بالخيار شهرين فقال أنت بالخيار فيه أربعة أشهر وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت واستأمنت له رسول الله فأمنه فلحقت به باليمن فأمنته فردته وأقرهما رسول الله هو وصفوان على نكاحهما الأول ثم أمر رسول الله تميم بن أسيد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم وبث رسول الله سراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة فكسرت كلها منهان اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونادى مناديه بمكة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره فبعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان ليهدمها فخرج إليها في ثلاثين فارسا من أصحابه حتى انتهوا إليها فهدمها ثم رجع إلى رسول الله فأخبره فقال هل رأيت شيئا قال لا قال فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها فرجع خالد وهو متغيظ فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ناشرةالرأس فجعل السادن يصيح بها فضربها خالد فجزلها باثنتين ورجع إلى رسول الله فأخبره فقال نعم تلك العزى وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا وكانت بنخلة وكانت لقريش وجميع بني كنانة وكانت أعظم أصنامهم وكان سدنتها بني شبيان ثم بعث عمرو بن العاص إلى سواع وهو صنم لهذيل ليهدمه قال عمرو فانتهيت إليه وعنده السادن فقال ما تريد قلت أمرني رسول الله أن أهدمه فقال لا تقدر على ذلك قلت لم قال تمنع قلت حتى الآن أنت على الباطل ويحك فهل يسمع أو يبصر قال فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم نجد فيه شيئا ثم قلت للسادن كيف رأيت قال أسلمت لله ثم بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليهاوعندها سادن فقال السادن ما تريد قلت هدم مناة قال أنت وذاك فأقبل سعد يمشي إليها وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها فقال لها السادن مناة دونك بعض عصاتك فضربها سعد فقتلها وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدمه وكسروه ولم يجدوا في خزانته شيئا