البحث
عجب الذنب
عجب الذنب
أ.د./ حنفى مدبولى
أستاذ علم الفيروسات جامعة بني سويف، ليسانس أصول الدين– جامعة الأزهر 1999، جائزة الدولة فى العلوم البيولوجية 2002 / براءة اختراع فى تحضير اللقاحات الفيروسية 2008 ، وعضو الهيئة العالمية للكتاب والسنة، ورئيس اللجنة الطبية بالمركز العالمي للإعجاز العلمي للبحوث والتدريب بالقاهرة
أحاديث عجب الذنب: فيها من الإشارات العلمية الدقيقة التى حار أمامها كبار علماء الطب والأجنة والبيولوجيا الجزيئية ، وعلماء الوراثة الجينية حيث قد أشار المصطفي ﷺ إلى كل هذه العلوم بكلمات بسيطة موجزة ومنجزة ومعجزة لمضمونها مثل قوله ﷺ : (... ليسَ مِنَ الإنْسانِ شَيءٌ إلَّا يَبْلَى، إلَّا عَظْمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ ). وفى رواية أخرى قوله ﷺ: (... ثم يرسل الله أو ينزل الله قطراً كأنه الطل () ، وفى رواية: (منه خُلِقَ وفيهِ يُرَكَّبُ.()، وفى رواية مسلم:(.. ثم يُنْزِل الله من السماء ماء فينبتون ، كما ينبت البقل ...). وفى رواية الإمام أحمد عن أبي سعيد قوله ﷺ: ( يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجبَ ذنبه ، قيل : وما هو يا رسول الله ؟ قال: مثل حبة خردل منه تَنْبُتون ).
ويُعَرِّف علماء الأجنة عَجبُ الذنَبِ أنه : بقايا خلايا من الشريط الأولي (Primitive Streak)والعقدة الأولية التى يبدأ تخلق الجنين بعد تكوينهما، وإن لم يتكونا لا يتم تخليق أعضاء الجنين.
التوجيه العلمى:
وقوله ﷺ :عظما واحدا: وفيها من الإعجاز البيانى والإعجاز العلمى ما يبهر العقول أن عجم الذنب فى عظمة واحدة ، وبهذا يتحقق قوله علميا أنه عظما واحدا فى مرحلة (منه خلق). أما مع تقدم السن فوجد العلماء أن فقرات العصص تلتحم لتكون عظما واحدا ، وهذا من جوامع الكلم الذى أوتيه النبى محمد ﷺ .
شكل (1) تبين شكل العصعص من الخلف والأمام وموقعه فى نهاية العمود الفقرى
منه خُلِقَ: وتكلم النبى ﷺ عن بداية نشأة الجنين من عجب الذنب فقال:(منه خُلِقَ) ، وعملية تخليق الجنين تبدأ بعد تلقيح البويضة بالحيوان المنوى ، ثم تنقسم هذه البويضة المخصبة انقساما ثنائيا إلى مرحلة التوتة أو الموريولا (Morula)، ثم يتكون سائل يفصل هذه الكتلة من الخلايا إلى طبقتين وهما طبقة الخلايا الخارجية (Trophoblasts) ، والتى تسمى بالترفوبلاست وهى التى تساعد الكيسة الأرومية او البلاستيولا لتنغرس فى جدار الرحم وتكون المشيمة فيما بعد ، وطبقة الخلايا الداخلية (inner cell mass) وهى التى تكون الجنين فيما بعد (شكل 2) وعملية التخصص والتمايز هذه هى التي تؤدي إلى تكوين الدماغ والقلب وجميع الأنسجة الأخرى من خلية الزيجوت أحادي الخلية.
ما الذي يؤدي إلى تمايز الخلايا:
اكتشف العلماء جينات فى جميع الكائنات الحية مثل الحشرات والأسماك والبرمائيات والنباتات والحيوانات والطيور والإنسان، تساعدها على التخليق من الحمض النووى الخاص بكل كائن حى. وسماها العلماء جينات الصندوق ، وهى عبارة عن بروتينات مسجلة على الحمض النووى ، والتي تخبر الخلايا في كافة مراحل نمو الجنين ماذا تكوّن من أعضاء وأجهزة ، أي يرسل التعليمات للخلايا لتخليق أجزاء الجنين ().
ويتكون القرص الجنينى من طبقات الخلايا الإكتودرم (الأديم الخارجى) والميزودرم (الأديم الأوسط) والإندودرم (الأديم الداخلى) ويتكون أخدود من خلايا الإيبيبلاست نتيجة علو الخلايا على جانبى هذا الأخدود من أسفل إلى أعلى القرص الجنينى ، وتنكون حفرة فى نهاية هذا الأخدود ، وبعد تكون هذا الأخدود وهذه الحفرة تهاجر بعض الخلايا من خلايا الميزودرم (الأديم الأوسط) إلى هذا الأخدود وهذه الحفرة لتشكل الشريط الأولى والعقدة الأولية .
شكل (2) يبين طبقات خلايا القرص الجنينى وتكون الكيس الأمنيوسى الذى يحافظ على الجنين ، وكيس المح الذى يغذى الجنين حتى تتكون المشيمة الأمية ثم يتغذى بعد ذلك على الغذاء الوارد مع دم الأم
ولا تبدأ مرحلة تكون الأعضاء (Organogenesis) إلا بعد تكون الشريط الأولي والميزاب العصبي والكتل البدنية، وينتهي الشريط الأولى من مهمته تلك في الأسبوع الرابع ، ويبدأ في الاندثار ويبقي كامنا في المنطقة العصعصية في الجنين ، ويندثر ما عدا ذلك الأثر الضئيل (شكل 3).
شكل (3) يبين الشريط الأولى (Primitive Streak) ، والذى يبدأ تكوينه فى اليوم 17 من عمر الجنين من أسفل القرص الجنينى والتى يبدأ منها تكوين سالفة العمود الفقرى (notochord) والحبل الشوكى (neural plate )، والحفرة الأولية (Primitive Pit) ، والتى تتجمع فيها الخلايا لتكون العقدة الأولية (Primitive node) والتى منها يتكون الرأس والدماغ والمخ ، ويبدأ الجنين تكوين هذه الأعضاء من اليوم 17 حتى الأسبوع الرابع ثم يبقى منه مجموعة من الخلايا ، والغشاء الممهد لتكوين الفم والبلعوم .
وهذا الشريط الدقيق قد أعطاه الله تعالى القدرة على تحفيز الخلايا على الانقسام والتخصص والتمايز والتجمع في أنسجة وأعضاء متخصصة ، ويبقى من أصول نشأة هذا الجسم مجموعة من الخلايا كاملة القدرة (Totipotent cells) تبقى في نهاية العمود الفقري فى الفقرة الأولى من عظم العصعص. ومن أهم العلماء الذين أثبتوا هذه الحقيقة العلمية هو العالم الالماني : هانز سبيمان Hans Spemann) ) والعالم فوجيت() Vogt حيث أكتشفا أن الخيط الأولي والعقدة الأولية هما اللذان ينظمان خلق الجنين وأطلق عليهما أسم المنظم الأولي أو المخلق الأولي() (Primary Organizer) وقام بقطع هذا الجزء (الخيط الأولي والعقدة الأولية) وزرعه في جنين أخر في المراحل الجنينية المبكرة في الأسبوع الثالث والرابع فأدى ذلك إلى نمو جنين ثانوي من هذه القطعة المزروعة في الجنين المضيف (شكل 4). وفي عام 1891 ، فصل دريش Driesch أول اثنين من الأريوميرات من جنين قنفذ البحر sea urchin ، ووجد أن كل منهما كان قادرا على التنظيم الذاتي ويؤدي إلى أجنة كاملة ، وإن كانت أصغر. ونشر ذلك هانز سبيمن فى كتاب له .
شكل (4) زراعة الشريط الأولى والعقدة الأولية لجنين برمائيات فى جنين آخر فأدى إلى تكوين جنين ثانوى
كما يمكن للبرمائيات أيضا أن تنظم نفسها وتؤدي إلى جنين كامل من نصف بيضة ().وتم التأكد من أن كلا النصفين يحتويان على جزء من منطقة المنظم الظهري ، ويتم الحصول على توأمين متطابقين تماما () . وبرهنوا على ذلك بالتوائم فى الأجنة البشرية. وقام العالم فيكتور هامبورجر (Viktor Hamburger) فى عام 1988 بأخذ جزء من الخلايا من جنين السلمندر وزرعها فى جنين آخر مما أدى إلى تكوين جنين ثانوى فى الجنين المضيف مما يؤكد أن الخلايا من مرحلة البلاستيولا قادرة على تشكيل جنين بمساعدة جنين آخر () كما فى الشكل (5)
شكل (5) يبين زرع قطع من أجنة فى مرحلة البلاستيولا فى أجنة مضيفة فتعطي أجنة ثانوية من نفس قطع الجنين
ويتكون من خلايا الأديم الخارجى(ectoderm) خلايا الجلد والخلايا العصبية للمخ والخلايا الملونة وعلى جانبى هذه الطبقة تتكون الخلايا الجنسية. بينما تتكون من خلايا الأديم الأوسط (mesoderm) خلايا القلب ، وخلايا العضلات ، وخلايا الكليتين ، وخلايا الدم الحمراء ، والخلايا العضلية الناعمة فى جدار الأمعاء. ويتكون من خلايا الأ ديم الداخلى (endoderm) خلايا حويصلات الرئة ، وخلايا غدة البنكرياس ، وخلايا الغدة الدرقية. كما فى الشكل (6). وتمايز الخلايا هو نتيجة لدمج وسائل التحفيز المختلفة بطريقة مكانية زمنية.
شكل (6) يبين تمايز الخلايا من الطبقات الثلاث (طبقة الخلايا الخارجية (اكتودرم ectoderm) والمتوسطة (ميزودرم mesoderm ) والداخلية (اندودرم (endoderm وتكوين أعضاء جسم الجنين من كل طبقة
وبين ﷺ أنه مثل حبة الخردل: هذا التشبيه لعجب الذنب أنه مثل حبة الخردل - فى حجمها ووزنها ولونها وفى كونها حقيقية النواة كخلايا عجب الذنب - غاية فى الروعة البيانية والعلمية.
شكل(7) يبين لون وحجم ووزن حبة الخردل والخلايا حقيقية النوى
وبين ﷺ أنه لا يبلى: هذه أيضا معجزة علميا فى حد ذاتها ، حيث قام العالم الألماني (سبيمان) عام 1931م بسحق المنظم الأولي ، وزرعه مرة أخرى فلم يؤثر السحق حيث نما وكون محورا جنينياً ثانوياً ، وفي عام 1933م قاموا بزراعة المنظم الأولي بعد غليه فشاهدوا نمو محور جنين ثانوي بعد غليه ولم تتأثر خلاياه بالغليان(). وفى تجارب بعد تعرضه للإشعاع وتبين لهم عدم موت الخلايا بداخله() ، وما تم اكتشافه من قبل الباحثين -منهم يوهانس هولتفريتر, أوتو مانجولد, دوروثى نيدهام, سى إتش وادنجتون و آخرون كثيرون- أن المنظمات التى يتم تدميرها بالغلى أو التجميد أو التثبيت قادرة على تكوين أنسجة الجنين. وأثبت مجموعة من علماء الصين استحالة إفناء عجب الذنب كيميائيا بالإذابة في أقوى الأحماض، أو فيزيائيا بالحرق، أو بالسحق، أو بالتعريض للأشعة الفوق بنفسجية ، وكلوريد الليثيوم.
وقوله ﷺ: "منه ينبتون كما ينبت البقل": هذه حقيقة علمية أخرى حيث تبين لعلماء الزراعة والأجنة أن هناك تشابه بين انبات البقل وبين عجب الذنب حيث أن خلايا كلا منهما حقيقى النوى ، وأن النمو يكون من أسفل لأعلى ، وأن بخلايهما جينات الصندوق التحفيزية لاتمايز الخلايا (شكل 8).
شكل (8) نمو نبات البقل، ونمو الجنين ونشاهد التشابه بين نمو نبات البقل ونمو الجنين يكونا من أسفل إلى أعلى
وقوله ﷺ : "منه يركب الخلق": فقد عزل العلماء المتخصصون ثلاثة صفوف من الخلايا الجذعية من ثلاثة أنواع من الأورام العصعصية ، واستخدامها فى علاج الأنسجة التالفة . كما وردت تقارير طبية من أماكن متفرقة من دول العالم لأطفال ولدوا بسرطان فى منطقة العصص: تقرير من فنزويلا ()، وتقرير من المغرب()، وحالات كثيرة من دول العالم ومنشورة فى مجلات عالمية بهذه التكونات السرطانية والتى فى بعضها يظهر رِجْلا كاملة () لطفل عمره 10 أيام وبه أثر مختزل للأعضاء التناسلية الخارجية والأسنان كما فى (شكل 9) . ومن دولة الهند () تشير إلى طفل مولود بقدم وفخذ كاملين ويد مختزلة وأسنان وأصابع قدم مختزلة من منطقة العصص.
شكل(9) يبين أورام مسخ من منطقة العصعص مما يشير إلى وجود الخلايا الكاملة القدرة على تكون أعضاء متباينة
أوجه الإعجاز العلمى:
تكلم النبى محمد ﷺ عن بدء خلق الجنين ومما يتخلق - فى وقت لم تتوفر فيه أدوات العلم للكشف عن حقائق علم الأجنة- قبل أن تكلم عنه العلماء المتخصصون فى علم الأجنة سواء فى الحيوانات أو الطيور أو البرمائيات أو فى الإنسان أو غيرها من المخلوقات الحية بما يقرب من 13 قرنا من الزمان ، مما يدل على أن هذا الكلام المعجز هو كلام إله عظيم وهو العليم الخبير ، وأن النبى محمد ﷺ لا يتكلم عن هوى ، وأن هذا يدل على صدق الرسالة وصدق الرسول. والسؤال المهم: هل اطلع النبى ﷺ على حجم بقايا الخلايا من الخيط الأولى والتى تكون فى العظمة الأولى من العصعص ومثل حبة الخردل حتى يقول ذلك ؟ أو أنه ﷺ اكتسب هذا العلم من أهل بلدته أو من الحضارات المجاورة كحضارة الفرس أو حضارة الروم أو غيرهما من الحضارات المجاورة آنذاك ؟ أو من حضارات أخرى بعيدة عن بلدته ثم نقلت بهجرة أهلها؟ الإجابة بالطبع لا ، وما كان هذا متوفرا فى بيئته ، ولا فى الحضارات المجاورة لبلدته آنذاك ، ولو كان هذا العلم متوفرا لديهم لنقلوه إلينا كما نقلت علوم الحضارات الأخرى كالحضارة البابلية والآشورية والفينيقية والمصرية القديمة والصينية ، ولكن بانتفاء هذا العلم (وهو علم الأجنة وتخليق الجنين) فى مثل هذه الحضارات ليدل دلالة قطعية أن هذا سبق علمى من كلام نبى عربى أمى لا ينطق عن الهوى بل هو كلام العليم الخبير. ولقد أخبر النبي ﷺ عن هذه الحقائق العلمية قبل أربعة عشر قرناً أن من عجب الذنب يخلق الإنسان ومنه يركب يوم القيامة. وأنه هو الذي يبقى بعد وفاته وفناء جسده ، ومنه يعاد خلقه مرة أخرى إذا أراد الله بعث العباد للحساب والجزاء ، حيث ينزل الله عز وجل مطراً من السماء فينبت كل فرد من عجْب ذنبه ، كما تنبت نبتة البقل من بذرتها. وهذا يشير إلى صدق رسالته ﷺ وأنه لا ينطق عن الهوى
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)
سورة النجم