البحث
وَاللَّه مَا أبْدلَني اللَّه خيْرًا مِن خَدِيجَة
( محمد رسول الله ﷺ )
حَبِيبَة النبِي ﷺ الأُولى خَدِيجَة بِنْت خُويْلد.
أَوَّل مِن صَدّقَت بِالرَّسول ﷺ وآمنتْ بِه وآوته يَوْم البعْثة، شاركتْ النبِي ﷺ آلامه وآماله، وقالتْ مُطَمئِنَة لَه يَوْم نُزُول الوحْي عليْه:
"لَا يُخْزِيك اللَّه أبدًا؛ إِنَّك لَتَصل الرحِم..."؛ أي تُحسِن إِلى أَقارِبك بِالمَال، والخدْمة، والزِّيارة، والسَّلَام.
"وتَصدُقُ الحدِيث..."؛ وقد كان مَعرُوفا فِي الجاهليَّة بِالصَّادق الأمِين، وَقَال لَه قَومِه:
"مَا جرَّبْنَا عليْك كذبًا قطّ!"
"وتَحمِل الكَلَّ..."؛ أيْ تَتَحمَّل أَثقَال الفقراء والضُّعفاء والأيْتام بِالإنْفاق عَليهِم وإعانتهم بِالمَال.
"وتَقرِي الضَّيْف..."؛ أيْ تُعْطِيه القَرَاء وَهُو مَا يُقدّم لِلضَّيْف مِن الكرامة، فَكَان الرَّسول ﷺ حتّى قَبْل أن يُوحَى إِلَيه مِضْيافًا، يُقَري الضُّيوف.
"وَتُعِين على نَوائِب الحَق."؛ أي مَا يَنُوب النَّاس مِن الأُمور إِذَا كَانَت حقًّا فَإنَّه يُعيِن عليْهَا وَإِن كَانَت باطلا فَإنَّه ضِدُّهَا. (1)
تأمَّلوا كَيْف وَصفَت زوْجهَا!
مَن عَاشَت معه وكانتْ مُشَاهدَة له وَعالِمة بِحقيقة أخْلاقه وتعاملاته أَكثَر مِن أيِّ أحد آخر.
فكَان النبِي ﷺ يُعَامِل خَدِيجَة رَضِي اللَّه عَنهَا فِي حَياتِها بِغاية الإحْسان والاحْترام والتَّقْدير والوفاء، وبعْد موْتهَا إِذَا ذكرهَا ﷺ لَم يَكُن لِيسأم مِن الثَّنَاء عليْهَا والاسْتغْفار لَهَا وتعْدَاد فضائلهَا لِدرجة أنَّ أُم المؤْمنين عَائِشة كَانَت تَغَار مِنهَا فَتقُول:
"مَا غِرت على امرأَة لِلنَّبيِّ ﷺ كمَا غِرت على خَدِيجَة، هَلكَت - مَاتَت - قَبْل أن يتزوَّجني، لِمَا كُنْت أَسمَعه يَذكُرها..." (2)
فَفِي يَوْم مِن الأيَّام بَعْد أن أَكثَر النبِي ﷺ مِن ذِكْر خَدِيجَة رضي اللَّه عَنهَا غَارَت أُم المؤْمنين عَائِشة رَضِي اَللَّه عَنهَا وغضبتْ وقَالَت:
"يَا رَسُول اَللَّه خَدِيجَة، خَدِيجَة، خَدِيجَة، وَكأَن اللَّه لَم يَخلُق لَك إِلَّا خَدِيجَة؟ عَجُوز مِن عَجائِز قُرَيش، حَمْراء الشّدق!" - حَمْراء الشّدق يَعنِي تَظهر حُمرَة لَثتهَا لِعَدم وُجُود أسْنانهَا - وقالتْ وَهِي تُشير إِلى نفْسهَا:"لَقد أَبدَلك اللَّه خيْرًا مِنهَا." (3)
رَغْم أنَّ خَدِيجَة رَضِي اللَّه عَنهَا كَانَت فِي القبْر، تَحْت التُّرَاب؛ إِلَّا أنَّ أُم المؤْمنين عَائِشة غَارَت وَبشِدة لِكثْرة ذِكْر النبِي ﷺ لَهَا.
المتوقّع الآن، أن يَتَدارَك النبِي ﷺ الموْقِف ولَا يُحزِن عَائِشة ويُراضيهَا، ولَا يَذكُر خَدِيجَة مَرَّة أُخرَى فَمَن مات قد مات...
وَلكِن فِي الحقيقة أنَّ عَكْس ذَلِك تمامًا قد حصل، وَغضِب مِن كَلَام عَائِشة وَقَال لَهَا ﷺ:
"لَا يا عَائِشة، وَاللَّه مَا أبْدلَني اللَّه خيْرًا مِن خَدِيجَة، آمنتْ بِي حِين كَفَر النَّاس، وصدّقتْني إِذ كَذّبَنِي النَّاس، وواستْني بِمالِهَا إِذ حَرمَنِي النَّاس، ورزقَني مِنهَا الولد دُون غيْرهَا مِن النِّسَاء." (4)
وَعَاهدَت عَائِشة نفْسهَا أَلَّا تَذكُر خَدِيجَة بِسوء أبدًا مَا بَقيَت!
حَافَظ النبِي ﷺ على وَفائِه لِخديجة سَيدَة قَلبِه الأُولى، المرْأة العظيمة التِي وَفّرَت لِلنَّبيِّ ﷺ الحيَاة الهانئة، وهدأتْ مِن رَوعِه يَوْم نُزُول الوحْي عليْه، وآمنتْ بِه يَوْم حَمْل الرِّسالة، ودعَمَتْه فِي تَوصِيل هَذِه الأمانة.
حَتَّى لَمّا حُوصر بَنُو هَاشِم فِي الشّعْب ثَلَاث سَنَوات مَا تَخلَّت عَنْه أبدًا وَهِي مخْزوميَّة وَثَريَّة وَصاحِبة مَنصِب وباستطاعتها الذَّهَاب إِلى بَيْت أَهلِها والجلوس عِنْدهم مُرتاحَة! ويكون لَديْهَا المال والطَّعام الذِي يكْفيهَا لأَعوَام، إِلَّا أَنهَا فَضلَت البقَاء مع النبِي ﷺ، وظلت معه فِي الحصار حَتَّى أَكلُوا ورق الشَّجر!
العَهْدُ الَّذي لا يَنكسِر
كَان لَهَا مَكانَةٌ وَحُبٌّ خاصٌّ فِي قَلْب النبِي ﷺ، لِذَلك قام بِالوفاء لَهَا فِي حَياتِها وبعْد مَماتِها، حَتَّى أَنَّه كان مِن شِدَّة وَفائِه لَهَا يَتَفقَّد صديقاتهَا، وَيرسِل لَهُم مِن الذَّبائح التِي يذْبحهَا.
فعن عَائِشة رَضِي اللَّه عَنهَا قَالَت:
"وَإِن كان لَيذْبح الشَّاة فَيهدِي فِي خلائلهَا - يَعنِي صديقاتهَا - مِنهَا مَا يَسعُهن - أيْ مَا يَسُد حاجتَهنَّ -" (5)
وعن أنس بْن مَالِك رَضِي اللَّه عَنْه قال: كان النبِي ﷺ إِذَا أتى بِالشَّيْء يَقُول:
"اذْهبوا بِه إِلى فُلَانَة، فَإِنهَا كَانَت صَدِيقَة خَدِيجَة، اذْهبوا بِه إِلى بَيْت فُلَانَة، فَإِنهَا كَانَت تُحِب خَدِيجَة..."(6)
فَقَال:"اللَّهمَّ هَالَة بِنْت خُويْلِد." - وهي أُخْت خَدِيجَة رَضِي اللَّه عَنهَا -؛ تَذَكّرهَا مِن صَوْت اسْتئْذان أُختِها لِشَبه اسْتئْذانهَا بِهَا. بل فِي مَرَّة جَاءَت عَجُوز إِلى النبِي ﷺ، فهشَّ وبش (يَعنِي اسْتفَاق وابْتَسم) وَفرِح واسْتبْشر بِقدومهَا وأقْبل عليْهَا!
وَبدَأ يسْألهَا عن حالهَا بِلهْفة فَقَال لَهَا:"كَيْف أَنتُم؟ كَيْف حَالُكم؟ كَيْف كُنتُم بَعْدنَا؟"
فَردَّت عليْه العجوز:"خيْرًا بِأَبي أَنْت وَأُمي يَا رَسُول اللَّه!"
فَلمَّا خَرجَت، قَالَت عَائِشة:"يَا رَسُول اَللَّه! تُقْبِل على هَذِه العجوز هذَا الإقْبال؟"
فَقَال لَهَا النبِي ﷺ:
"يَا عَائِشة! إِنَّها كَانَت تأْتينَا زَمَان خَدِيجَة، وإنَّ حُسْن العهْد مِن الإيمان." (7)
وفاءُ النبيِّ ﷺ في قلبِ المعركة
لَم تَكُن هَذِه القصص تَحدُث مَرةً أو مرَّتيْنِ!
بل حتَّى فِي خِضَمّ المعْركة، وَفِي عِظم البلَاء، وَفِي قِمَّة انشِغال النبِي ﷺ فِي أُمُور الحرْب والإفْراج عن الأسْرى مُقَابِل فِدْيَة، تَذكّر خَدِيجَة!
تَذكّرَها ورقّ قَلبُه لَهَا عِنْدمَا رأى قِلادتهَا التِي بعَثتهَا زَينَب ابْنتَهَا فِي فِدَاء زوْجهَا أَبي العاص بْن الربِيع الذِي كان أسيرًا كافرًا لَديهِم آنذاك فِي مَعْرَكة بَدْر، وكانتْ هَذِه القلادة قِلادة خَدِيجَة التِي أهْدتْهَا لِابْنتهَا زَينَب فِي يَوْم زَواجِها!
فلم يَستَطِع النبِي التَّفْريط بِتلْك القلادة؛ فَوقَف واسْتأْذن أصْحابه وَقَال:
"إِن رأيْتم أن تُطْلقوا لَهَا أسيرهَا وتردوا عليْهَا قِلادتهَا..." (8)
فوافق الصَّحابة وفعلوا؛ فَأَعاد ﷺ القلادة الغالية عليْه إِلى صاحبتهَا.
لَم يَقتَصِر وَفاؤه على زوْجته فقط بل كَذلِك على حاضنَاته ومُرْضعَاته..
المراجع
- الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 6982 https://dorar.net/hadith/sharh...
- الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 3818 https://dorar.net/hadith/sharh...
- الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم | الصفحة أو الرقم : 2437 https://dorar.net/hadith/sharh...
- الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج المسند لشعيب | الصفحة أو الرقم : 24864 https://dorar.net/hadith/sharh...
- الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 6004 https://dorar.net/hadith/sharh...
- رواه ابنُ حبان (7007)، والطبراني (23/12) (20)، والحاكم (7339) واللفظ له. https://dorar.net/alakhlaq/295...
- االراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة الصفحة أو الرقم: 1/424 https://dorar.net/hadith/sharh...
- الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : ابن القيم | المصدر : أحكام أهل الذمة | الصفحة أو الرقم : 673/2 https://dorar.net/hadith/sharh...