1. المقالات
  2. الجزء الثالث_زاد المعاد
  3. فصل في هدية في حفظ الصحة

فصل في هدية في حفظ الصحة

4712 2007/11/27 2024/12/11

 
فصل في هدية في حفظ الصحة


لما كان البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاومة للحرارة فالرطوبة مادته والحرارة تنضجها وتدفع فضلاتها وتصلحها وتلطفها وإلا أفسدت البدن ولم يمكن قيامه وكذلك الرطوبة هي غذاء الحرارة فلولا الرطوبة لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته فقوام كل واحدة منهما بصاحبتها وقوام البدن بهما جميعا وكل منهما مادة للأخرى فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة والرطوبة مادة للحرارة تغذوها وتحملها ومتى مالت إحدهما إلى الزيادة على الأخرى حصل لمزاج البدن الانحراف بحسب ذلك فالحرارة دائما تحلل الرطوبة فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة لضرورة بقائه وهو الطعام والشراب ومتى زاد على مقدار التحليل ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته فاستحالت مواد رديئة فعاثت في البدن وأفسدت فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها وقبول الأعضاء واستعدادها وهذا كله مستفاد من قوله تعالى (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطعام والشراب عوض ما تحلل منه وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمية والكيفيفة

 

 

فمتى جاوز ذلك كان إسراف وكلاهما مانع من الصحة جالب للمرض أعنى عدم الأكل والشرب أو الإسراف فيه فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين ولا ريب أن البدن دائما في التحليل والاستخلاف وكلما كثر التحلل ضعفت الحرارة لفناء مادتها فإن كثرة التحليل تفني الرطوبة وهي مادة الحرارة وإذا ضعفت الحرارة ضعف الهضم ولا يزال كذلك حتى تفنى الرطوبة وتنطفىء الحرارة جملة فيستكمل العبد الأجل الذي كتب الله له أن يصل إليه فغاية علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة لا أنه يستلزم بقاء الحرارة والرطوبة اللتين بقاء الشباب والصحة والقوة بهما فإن هذا مما لم يحصل لبشر في هذه الدار وإنما غاية الطبيب أن يحمي الرطوبة عن مفسداتها من العفونه وغيرها ويحمي الحرارة عن مضعفاتها ويعدل بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدن الإنسان كما أن به قامت السماوات والأرض وسائر المخلوقات إنما قوامها بالعدل ومن تأمل هدي النبي وجده أفضل هدي يمكن حفظ الصحة به فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم والمشرب والملبس والمسكن والهواء والنوم واليقظة والحركة والسكون والمنكح والاستفراغ والاحتباس فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسن والعادة وكان أقرب إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل ولما كانت الصحة والعافية من أجل نعم الله على عبده وأجزل عطاياه وأوفر منحه بل العافية المطلقة أجل النعم على الإطلاق فحقيق لمن رزق حظا من التوفيق مراعاتها وحفظها وحمايتها عما يضادها وقد   روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس قال قال رسول الله نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ،،

 

 

 وفي الترمذي وغيره من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري قال قال رسول الله من أصبح معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ،، وفي الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعم أن يقال له ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد ومن هاهنا قال من قال من السلف في قوله تعالى ( ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم ) قال عن الصحة وفي مسند الإمام أحمد أن النبي قال للعباس يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة وفيه عن ابي بكر الصديق قال سمعت رسول الله يقول سلو الله اليقين والمعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خيرا من العافية    فجمع بين عافيتي الدين والدنيا ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه ،، وفي سنن النسائي من حديث أبي هريرة يرفعه سلو الله العفو والعافية والمعافاة فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة وهذه الثلاثة تتضمن إزالة الشرور الماضية بالعفو والحاضرة بالعافية والمستقبلة بالمعافاة فإنها تتضمن المداومة والاستمرار علىالعافية وفي الترمذي مرفوعا ما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية ،، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابي الدرداء قلت يا رسول الله لأن أعافي فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر فقال رسول الله ورسول الله يجب معك العافية وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي الدرداء قلت يا رسول الله لأن أعافي فأشكر احب إلي من أن أبتلى فأصبر فقال رسول الله ورسول الله يحب معك العافية ويذكر عنابن عباس أن أعرابيا جاء إلى رسول الله فقال له ما أسأل الله بعد الصلوات الخمس فقال سل الله العافية فأعاد عليه فقال له في الثالثة سل الله العافية في الدنيا والآخرة وإذا كان هذا شان العافية والصحة فنذكر من هديه في مراعاة هذه الأمور ما يتبين لمن نظر فيه أنه أكمل هدي على الإطلاق ينال به حفظ صحة البدن والقلب وحياة الدنيا والآخرة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله  

 

 

 

 

فصل

فأما المطعم والمشرب فلم يكن من عادته حبس النفس على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى ما سواه فإن ذلك يضر بالطبيعة جدا وقد يتعذر عليها أحيانا فإن لم يتناول غيره ضعف أو هلك وإن تناول غيره لم تقبله الطبيعة استضر به فقصرها على نوع واحد دائما ولو أنه افضل الأغدية خطر مضر بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره مما ذكرناه في هدية في المأكول فعليك بمراجعته هناك وإذا كان في أحد الطعامين كيفية تحتاج إلى كسر وتعديل كسرها وعدلها بضدها إن إمكن كتعديل حرارة الرطب بالبطيخ وإن لم يجد ذلك تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف فلا تتضرر به الطبيعة وكان إذا عافت نفسه الطعام لم يأكله ولم يحملها إياه على كره وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ولا يشتهيه كان تضرره به أكثر من انتفاعه قال أبو هريرة ما عاب رسول الله طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه ولم يأكل منه ولما قدم إليه الضب المشوي لم يأكل منه فقيل له أهو حرام    قال لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافة فراعى عادته وشهوته فلما لم يكن يعتاد أكله بأرضه وكانت نفسه لا تشتهيه أمسك عنه ولم يمنع من أكله من يشتهيه ومن عادته أكله

 


وكان يحب اللحم وأحبه إليه الذراع ومقدم الشاة ولذلك سم فيه،،  وفي الصحيحين أتي رسول الله بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه
وذكر أبو عبيدة وغيره عن ضباعة بنت الزبير أنها ذبحت في بيتها شاة فارسل إليها رسول الله أن أطعمينا من شاتكم فقالت للرسول ما بقى عندنا إلا الرقبة وإني لأستحي أن أرسل بها إلى رسول الله فرجع الرسول فأخبره فقال ارجع إليها فقل لها أرسلي بها فإنها هادية الشاة وأقرب إلى الخير وأبعدها من الأذى
،، ولا ريب أن اخف لحم الشاة لحم الرقبة ولحم الذراع والعضد وهو أخف على المعدة وأسرع انهضاما وفي هذا مراعاة الأغذية التي تجمع ثلاثة أوصاف احدها كثرة نفعها وتأثيرها في القوى الثاني خفتها على المعدة وعدم ثقلها عليها الثالث سرعة هضمها وهذا أفضل ما يكون من الغذاء والتغذي باليسير من هذا أنفع من الكثير من غيره  وكان يحب الحلواء والعسل وهذه الثلاثة أعني اللحم والعسل والحلواء من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء وللاغتذاء بها نفع عظيم في حفظ الصحة والقوة ولا ينفر منها إلا من به علة وآفة

 

 


وكان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما فتارة يأدمه باللحم ويقول هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة رواه ابن ماجه وغيره وتارة بالبطيخ وتارة بالتمر فإنه وضع تمرة على كسرة شعير وقال هذا إدام هذه وفي هذا من تدبير الغذاء أن خبز الشعير بارد يابس والتمر حار رطب على أصح القولين فادم خبز الشعير به من احسن التدبير لا سيما لمن تلك عادتهم كأهل المدينة وتارة بالخل ويقول نعم الإدام الخل وهذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر لا تفضيل له على غيره كما يظن الجهال وسبب الحديث أنه دخل على أهله يوما فقدموا له خبزا فقال هل عندكم من إدام قالوا ما عندنا إلا خل فقال نعم الإدام الخل والمقصود أن أكل الخبز مأدوما من أسباب حفظ الصحة بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده وسمى الأدام أدما لإصلاحه الخبز وجعله ملائما لحفظ الصحة ومنه قوله في إباحته للخاطب النظر إنه  أحرى أن يؤدم بينهما أي أقرب إلى الالتئام والموافقة فإن الزوج يدخل على بصيرة فلا يندم وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئتها بلده ولا يحتمى عنها وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة فإن الله سبحانه بحكمته جعل في كل بلدة من الفاكهة ما ينتفع به اهلها في وقته فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم ويغني عن كثير من الأدوية وقل من احتمى عن فاكهة بلدة خشية السقم إلا وهو من أسقم الناس جسما وأبعدهم من الصحة والقوة وما في تلك الفاكهة من الرطوبات فحرارة الفصل والأرض وحرارة المعدة تنضجها وتدفع شرها إذا لم يسرف في تناولها ولم يحمل منها الطبيعة فوق ما تحتمله ولم يفسد بها الغذاء قبل هضمه ولا أفسدها بشرب الماء عليها وتناول الغذاء بعد التحلي منها فإن القولنج كثيرا ما يحدث عند ذلك فمن أكل منها ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي كانت له دواء نافعا


 

المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day