البحث
ذكر حكمة في العدد
ذكر حكمه في العدد
هذا الباب قد تولى الله سبحانه بيانه في كتابه أتم بيان وأوضحه وأجمعه بحيث لا عنه معتدة فذكر أربعة أنواع من العدد وهي جملة أنواعها النوع الأول عدة الحامل بوضع الحمل مطلقا بائنة كانت أو رجعية مفارقة في الحياة متوفى عنها فقال ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) الطلاق 4 وهذا فيه عموم ثلاث جهات أحدها عموم المخبر عنه وهو أولات الأحمال فإنه يتناول جميعهن الثاني عموم الأجل فإنه أضافه إليهن وإضافة اسم الجمع إلى المعرفة يعم فجعل وضع جميع أجلهن فلو كان لبعضهن أجل غيره لم يكن جميع أجلهن
الثالث أن المبتدأ والخبر معرفتان أما المبتدأ فظاهر وأما الخبر وهو قوله تعالى ( أن يضعن حملهن ) الطلاق 4 ففي تأويل مصدر مضاف أي أجلهن وضع حملهن والمبتدأ إذا كانا معرفتين اقتضى ذلك حصر الثاني في الأول كقوله ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) فاطر 15 وبهذا احتج جمهور الصحابة أن الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها وضع حملها ولو وضعته والزوج على المغتسل أفتى به النبي الأسلمية وكان هذا الحكم والفتوى منه مشتقا من كتاب الله مطابقا له
فصل
النوع الثاني عدة المطلقة التي تحيض وهي ثلاثة قروء كما قال الله تعالى ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) البقرة 228 النوع الثالث عدة التي لا حيض لها وهي نوعان صغيرة لا تحيض وكبيرة قد يئست من فبين الله سبحانه عدة النوعين بقوله ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) الطلاق 4 أي فعدتهن كذلك النوع الرابع المتوفى عنها زوجها فبين عدتها سبحانه بقوله ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) البقرة 234 فهذا يتناول المدخول وغيرها والصغيرة والكبيرة ولا تدخل فيه الحامل لأناها خرجت بقوله ( وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فجعل وضع حملهن جميع أجلهن وحصره فيه بخلاف قوله في عنهن ( يتربصن ) فإنه فعل مطلق لا عموم له وأيضا فإن قوله ( أجلهن أن يضعن )
4 متأخر في النزول عن قوله ( يتربصن ) وأيضا فإن قوله (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) البقرة 234 في غير الحامل بالإتفاق فإنها لو تمادى حملها فوق تربصته فعمومها مخصوص اتفاقا وقوله ( أجلهن أن يضعن حملهن ) الطلاق 4 غير مخصوص هذا لو لم تأت السنة الصحيحة بذلك ووقعت الحوالة على القرآن فكيف والسنة موافقة لذلك مقررة له فهذه أصول العدد في كتاب الله مفصلة مبينة ولكن اختلف في فهم المراد من القرآن في مواضع من ذلك وقد دلت السنة بحمد الله على مراد الله منها ونحن نذكرها أولى المعاني وأشبهها بها ودلالة السنة عليها فمن ذلك اختلاف السلف في المتوفى عنها إذا كانت حاملا فقال علي وابن عباس وجماعة الصحابة أبعد الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشرا وهذا أحد القولين في مالك رحمه الله اختاره سحنون
قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب عنه علي بن طالب وابن عباس يقولان في المعتدة الحامل أبعد الأجلين وكان ابن مسعود يقول من باهلته إن سورة النساء القصرى نزلت بعد وحديث سبيعة يقضي بينهم إذا وضعت حلت وابن مسعود يتأول القرآن ( أجلهن أن يضعن حملهن ) الطلاق 4 هي في المتوفى والمطلقة مثلها إذا وضعت فقد حلت وانقضت عدتها ولا تنقضي عدة الحامل إذا حتى يتبين خلقه فإذا بان له يد أو رجل عتقت به الأمة وتنقضي به العدة وإذا ولدا وفي بطنها آخر لم تنقض العدة حتى تلد الآخر ولا تغيب عن منزلها الذي فيه زوجها أربعة أشهر وعشرا إذا لم تكن حاملا والعدة من يوم يموت أو يطلق هذا أحمد
وقد تناظر في هذه المسألة ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما فقال أبو هريرة وضع الحمل وقال ابن عباس تعتد أقصى الأجلين فحكما أم سلمة رضي الله عنها لأبي هريرة واحتجت بحديث سبيعة وقد قيل إن ابن عباس رجع وقال جمهور الصحابة ومن بعدهم والأئمة الأربعة إن عدتها وضع الحمل ولو كان الزوج مغتسله فوضعت حلت قال أصحاب الأجلين هذه قد تناولها عمومان وقد أمكن دخولها كليهما فلا تخرج من عدتها بيقين حتى تأتي بأقصى الأجلين قالوا ولا يمكن تخصيص إحداهما بخصوص الأخرى لأن كل آية عامة من وجه خاصة من وجه قالوا فإذا أمكن بعض الصور في عموم الآيتين يعني إعمالا للعموم في مقتضاه فإذا اعتدت أقصى الأجلين دخل أدناهما في أقصاهما والجمهور أجابوا عن هذا بثلاثة أجوبة أحدها أن صريح السنة يدل على اعتبار الحمل فقط كما في الصحيحين أنة سبيعة الأسلمية عنها زوجها وهي حبلى فوضعت فأرادت أن تنكح فقال لها أبو السنابل ما أنت بناكحة تعتدي آخر الأجلين فسألت النبي فقال كذب أبو السنابل قد حللت فانكحي من شئت
الثاني أن قوله ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) الطلاق 4 نزلت بعد قوله ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) البقرة 234 جواب عبدالله بن مسعود كما في صحيح البخاري عنه أتجعلون عليها التغليظ ولا لها الرخصة أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى ( وأولات الأحمال أن يضعن حملهن ) الطلاق 4 وهذا الجواب يحتاج إلى تقرير فإن ظاهره أن آية الطلاق مقدمة على آية البقرة عنها فكانت ناسخة لها ولكن النسخ عند والسلف أعم منه عند المتأخرين فإنهم يريدون به ثلاثة معان أحدها رفع الحكم الثابت بخطاب الثاني رفع دلالة الظاهر إما بتخصيص وإما بتقييد وهو أعم مما قبله الثالث بيان المراد باللفظ الذي بيانه من خارج وهذا أعم من المعنيين الأولين فابن رضي الله عنه أشار بتأخر نزول سورة الطلاق إلى أن آية الإعتداد بوضع الحمل لآية البقرة إن كان عمومها مرادا أو مخصصة لها إن لم يكن عمومها مرادا أو للمراد منها أو مقيدة لإطلاقها وعلى التقديرات الثلاث فيتعين تقديمها على تلك وإطلاقها وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه ورسوخه في العلم ومما يبين أن الفقه سجية للقوم وطبيعة لا يتكلفونها كما أن العربية والمعاني والبيان لهم كذلك فمن بعدهم فإنما يجهد نفسه ليتعلق بغبارهم وأنى له الثالث أنه لو لم تأت السنة الصريحة باعتبار الحمل ولم تكن آية الطلاق متأخرة تقديمها هو الواجب لما قررناه أولا من جهات العموم الثلاثة فيها وإطلاق قوله ( يتربصن ) وقد كانت الحوالة على هذا الفهم ممكنة ولكن لغموضه ودقته على كثير من أحيل في ذلك الحكم على بيان السنة وبالله التوفيق
فصل
ودل قوله سبحانه ( أجلهن أن يضعن حملهن ) الطلاق 4 على أنها إذا كانت حاملا لم تنقض العدة حتى تضعهما جميعا ودلت على أن من عليها الإستبراء فعدتها الحمل أيضا ودلت على أن العدة تنقضي بوضعه على أي صفة كان حيا أو ميتا تام أو ناقصها نفخ فيه الروح أو لم ينفخ ودل قوله ( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر ) البقرة 234 على الإكتفاء بذلك وإن لم تحض وهذا قول الجمهور وقال مالك إذا عادتها أن تحيض في كل سنة مرة فتوفي عنها زوجها لم تنقض عدتها حتى تحيض حيضتها من عدتها فإن لم تحض انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم وفاته وعنه رواية ثانية الجمهور أنه تعتد أربعة أشهر وعشرا ولا تنتظر حيضها
فصل
ومن ذلك اختلافهم في الأقراء هل هي الحيض أو الأطهار فقال أكابر الصحابة إنها هذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وعبادة بن الصامت الدرداء وابن عباس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم وهو قول أصحاب عبدالله بن كلهم كعلقمة والأسود وإبراهيم وشريح وقول الشعبي والحسن وقتادة وقول أصحاب عباس سعيد بن جبير وطاووس وهو قول سعيد بن المسيب وهو قول أئمة الحديث بن إبراهيم وأبي عبيد القاسم والإمام أحمد رحمه الله فإنه رجع إلى القول به مذهبه عليه فليس له مذهب سواه وكان يقول إنها الأطهار فقال في رواية الأثرم الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف والأحاديث عمن قال إنه أحق بها حتى تدخل الحيضة الثالثة أحاديث صحاح قوية وهذا النص وحده هو الذي ظفر به أبو عمر بن فقال رجع أحمد إلى أن الأقراء الأطهار وليس كما قال بل كان يقول هذا أولا توقف فيه
فقال في رواية الأثرم أيضا قد كنت أقول الأطهار ثم وقفت كقول الأكابر جزم أنها الحيض وصرح بالرجوع عن الأطهار فقال في رواية ابن هانيء كنت أقول إنها وأنا اليوم أذهب إلى أن الأقراء الحيض قال القاضي أبو يعلى وهذا هو الصحيح أحمد رحمه الله وإليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالأطهار ثم ذكر نص رجوعه من ابن هانيء كما تقدم وهو قول أئمة أهل الرأي كأبي حنيفة وأصحابه وقالت طائفة الأقراء الأطهار وهذا قول عائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبدالله عمر ويروى عن الفقهاء السبعة وأبان بن عثمان والزهري وعامة فقهاء المدينة وبه قال والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه وعلى هذا القول فمتى طلقها في أثناء طهر فهل تحتسب ببقيته قرءا على ثلاثة أقوال أحدها تحتسب به وهو المشهور والثاني لا تحتسب به وهو قول الزهري كما لا تحتسب ببقية عند من يقول القرء الحيض اتفاقا الثالث إن كان قد جامعها في ذلك الطهر لم تحتسب ببقيته وإلا احتسبت وهذا قول أبي
فإذا طعنت في الحيضة الثالثة أو الرابعة على قول الزهري انقضت عدتها وعلى قول لا تنقضي العدة حتى تنقضي الحيضة الثالثة وهل يقف انقضاء عدتها على اغتسالها منها على ثلاثة أقوال أحدها لا تنقضي عدتها تغتسل وهذا هو المشهور عن أكابر الصحابة قال الإمام أحمد وعمر وعلي وابن مسعود له رجعتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة انتهى وروي ذلك عن أبي بكر وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم في مصنف وكيع عن عيسى الخياط عن الشعبي عن ثلاثة عشر من أصحاب النبي الخير منهم أبو بكر وعمر وابن عباس أنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وفي مصنفه أيضا عن محمد بن راشد عن مكحول عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء مثله وفي مصنف عبدالرزاق عن معمر عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود قال عثمان إلى أبي بن كعب في ذلك فقال أبي بن كعب أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الثالثة وتحل لها الصلاة قال فما أعلم عثمان إلا أخذ بذلك
وفي مصنفه أيضا عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير أن عبادة بن الصامت قال لا حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل لها الصلاة فهؤلاء بضعة عشر من الصحابة وهو قول سعيد بن المسيب وسفيان الثوري وإسحاق بن قال شريك له الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة وهذا إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله والثاني أنها تنقضي بمجرد طهرها من الحيضة الثالثة ولا تقف على الغسل وهذا قول بن جبير والأوزاعي والشافعي في قوله القديم حيث كان يقول الأقراء الحيض وهو الروايات عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطاب والثالث أنها في عدتها بعد انقطاع الدم ولزوجها رجعتها حتى يمضي عليها وقت الصلاة طهرت في وقتها وهذا قول الثوري والرواية الثالثة عن أحمد حكاها أبو بكر عنه قول أبي حنيفة رحمه الله لكن إذا انقطع الدم لأقل الحيض وإن انقطع الدم لأكثره العدة عنها بمجرد انقطاعه وأما من قال إنها الأطهار اختلفوا في موضعين أحدهما هل يشترط كون الطهر مسبوقا قبله أو لا يشترط ذلك على قولين لهم وهما وجهان في مذهب الشافعي وأحمد أحدهما لأنه طهر بعده حيض فكان قرءا كما لو كان قبله حيض والثاني لا يحتسب وهو ظاهر الشافعي في الجديد لأنها لا تسمى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدم
الموضع الثاني هل تنقضي العدة بالطعن في الحيضة الثالثة أو لا تنقضي حتى تحيض وليلة على وجهين لأصحاب أحمد وهما قولان منصوصان للشافعي ولأصحابه وجه ثالث حاضت للعادة انقضت العدة بالطعن في الحيضة وإن حاضت لغير العادة بأن كانت ترى الدم في عاشر الشهر فرأته في أوله لم تنقض حتى يمضي عليها يوم وليلة ثم هل يكون هذا الدم محسوبا من العدة على وجهين تظهر فائدتهما في رجعتها في فهذا تقرير مذاهب الناس في الأقراء قال من نص إنها الحيض الدليل عليه وجوه أحدها أن قوله تعالى ( يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) البقرة 228 إما أن يراد به فقط أو الحيض فقط أو مجموعهما والثالث محال إجماعا حتى عند من يحمل اللفظ على معنييه وإذا تعين حمله على أحدهما فالحيض أولى به لوجوه أحدها أنها لو كانت الأطهار فالمعتدة بها يكفيها قرآن ولحظة من الثالث وإطلاق على هذا مجاز بعيد لنصيه الثلاثة في العدد المخصوص فإن قلتم بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل قيل جوابه من ثلاثة أوجه أحدها أن هذا مختلف فيه كما تقدم فلم تجمع الأمة على أن بعض القرء قرء قط فدعوى يفتقر إلى دليل الثاني أن هذا دعوى مذهبية أوجب حمل الآية عليها إلزام كون الأقراء الأطهار المذهبية لا يفسر بها القرآن وتحمل عليها اللغة ولا يعقل في اللغة قط أن من الطهر تسمى قرءا كاملا ولا الأمة على ذلك فدعواه لا تثبت نقلا ولا إجماعا وإنما هو مجرد الحمل ولا ريب الحمل شيء والوضع شيء آخر وإنما يفيد ثبوت الوضع لغة أو شرعا أو عرفا الثالث أن القرء إما أن يكون اسما لمجموع الطهر كما يكون اسما لمجموع الحيضة أو أو مشتركا بين الأمرين اشتراكا لفظيا أو اشتراكا معنويا والأقسام الثلاثة فتعين الأول أما بطلان وضعه لبعض الطهر فلأنه يلزم أن يكون الطهر الواحد عدة ويكون استعمال لفظ القرء فيه مجازا وأما بطلان الإشتراك المعنوي فمن وجهين أنه يلزم أن يصدق على الطهر الواحد أنه عدة أقراء حقيقة والثاني أن نظيره الحيض لا يسمى جزؤه قرءا اتفاقا ووضع القرء لهما لغة لا يختلف وهذا لا خفاء به
فإن قيل نختار من هذه الأقسام أن يكون مشتركا بين كله وجزئه اشتراكا لفظيا ويحمل على معنييه فإنه أحفظ وبه تحصل البراءة بيقين قيل الجواب من وجهين أحدهما لا يصح اشتراكه كما تقدم الثاني أنه لو صح اشتراكه لم يجز حمله على مجموع أما على قول من لا يجوز حمل المشترك على معنييه فظاهر وأما من يجوز حمله فإنما يجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معا فإذا لم يدل الدليل وقفوه يقوم الدليل على إرادة أحدهما أو إرادتهما وحكى المتأخرون عن الشافعي والقاضي بكر أنه إذا تجرد عن القرائن وجب حمله على معنييه كالإسم العام لأنه أحوط إذ أحدهما أولى به من الآخر ولا سبيل إلى معنى ثالث وتعطيله غير ممكن ويمتنع البيان عن وقت الحاجة فإذا جاء وقت العمل ولم يتبين أن أحدهما المقصود بعينه علم أن الحقيقة غير مرادة إذ لو أريدت لبينت فتعين المجاز وهو المعنيين ومن يقول إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول لما لم يتبين أن المراد علم أنه أراد كليهما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الحكاية عن الشافعي والقاضي نظر أما فمن أصله الوقف في صيغ العموم وأنه لا يجوز حملها على الإستغراق إلا بدليل يقف في ألفاظ العموم كيف يجزم في الألفاظ المشتركة بالإستغراق من غير دليل الذي ذكره في كتبه إحالة الإشتراك رأسا وما يدعى فيه الإشتراك فهو عنده من المتواطيء وأما الشافعي فمنصبه في العلم أجل من أن يقول مثل هذا وإنما استنبط من قوله إذا أوصى لمواليه تناول المولى من فوق ومن أسفل وهذا قد يكون قاله أن المولى من الأسماء المتواطئة وأن موضعه القدر المشترك بينهما فإنه من المتضايفة كقوله من كنت مولاه فعلي مولاه ولا يلزم من هذا أن يحكى عنه عامة في الأسماء التي ليس من معانيها قدر مشترك أن تحمل عند الإطلاق على معانيها ثم الذي يدل على فساد هذا القول وجوه أحدها أن استعمال اللفظ في معنييه إنما هو مجاز إذا وضعه لكل واحد منهما على سبيل هو الحقيقة واللفظ المطلق لا يجوز حمله على المجاز بل يجب حمله على
الثاني أنه لو قدر أنه موضوع لهما منفردين ولكل واحد منهما مجتمعين فإنه يكون له ثلاثة مفاهيم فالحمل على أحد مفاهيمه دون غيره بغير موجب ممتنع الثالث أنه حينئذ يستحيل حمله على جميع معانيه إذ حمله على هذا وحده وعليهما معا للجمع بين النقيضين فيستحيل حمله على جميع معانيه وحمله عليهما معا حمل له بعض مفهوماته فحمله على جميعها يبطل حمله على جميعها الرابع أن ها هنا أمورا أحدها هذه الحقيقة وحدها والثاني الحقيقة الأخرى وحدها مجموعهما والرابع مجاز هذه وحدها والخامس مجاز الأخرى وحدها والسادس معا والسابع الحقيقة وحدها مع مجازها والثامن الحقيقة مع مجاز الأخرى الحقيقة الواحدة مع مجازهما والعاشر الحقيقة الأخرى مع مجازها والحادي عشر مجاز الأخرى والثاني عشر مع مجازهما فهذه اثنا عشر محملا بعضها على سبيل وبعضها على سبيل المجاز فتعيين معنى واحد مجازي دون سائر المجازات ترجيح من غير مرجح وهو ممتنع
الخامس أنه لو وجب حمله على المعنيين جميعا لصار من صيغ العموم لأن حكم الإسم وجوب حمله على جميع مفرداته عند التجرد من التخصيص ولو كان كذلك لجاز أحد المعنيين منه ولسبق إلى الذهن منه عند الإطلاق العموم وكان المستعمل في أحد معنييه بمنزلة المستعمل للإسم العام في بعض معانيه فيكون متجوزا في غير متكلم بالحقيقة وأن يكون من استعمله في معنييه غير محتاج إلى دليل وإنما إليه من نفى المعنى الآخر ولوجب أن يفهم منه الشمول قبل البحث عن التخصيص من يقول بذلك في صيغ العموم ولا ينفي الإجمال عنه إذ يصير بمنزلة سائر الألفاظ وهذا باطل قطعا وأحكام الأسماء المشتركة لا تفارق أحكام الأسماء العامة مما يعلم بالإضطرار من اللغة ولكانت الأمة قد أجمعت في هذه الآية على حملها خلاف ظاهرها ومطلقها إذ لم يصر أحد منهم إلى حمل القرء على الطهر والحيض معا يتبين بطلان قولهم حمله عليهما أحوط فإنه لو قدر حمل الآية على ثلاثة من والأطهار لكان فيه خروج عن الإحتياط وإن قيل نحمله على ثلاثة من كل منهما فهو خلاف نص القرآن إذ تصير الأقراء ستة قولهم إما أن يحمل على أحدهما بعينه أو عليهما إلى آخره قلنا مثل هذا لا يجوز أن عن دلالة تبين المراد منه كما في الأسماء المجملة وإن خفيت الدلالة على بعض فلا يلزم أن تكون خفية عن مجموع الأمة وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث إذا لم يكن مطلقة يدل على المعنى المراد فلا بد من بيان المراد وإذا تعين المراد بالقرء في الآية أحدهما لا كلاهما فإرادة الحيض أولى لوجوه منها ما تقدم أن استعمال القرء في الحيض أظهر منه في الطهر فإنهم يذكرونه تفسيرا للفظه يردفونه بقولهم
وقيل أو قال فلان أو يقال على الطهر أو وهو أيضا الطهر فيجعلون بالحيض كالمستقر المعلوم المستفيض وتفسيره بالطهر قول قيل وهاك حكاية قال الجوهري القرء بالفتح الحيض والجمع أقراء وقروء الحديث لا صلاة أيام أقرائك والقرء أيضا الطهر وهو من الأضداد وقال أبو عبيد الأقراء الحيض ثم قال الأقراء الأطهار وقال الكسائي والفراء أقرأت إذا حاضت وقال ابن فارس القروء أوقات يكون للطهر مرة وللحيض مرة والواحد قرء ويقال القرء الطهر ثم قال وقوم يذهبون إلى أن القرء الحيض فحكى قول من جعله مشتركا بين الطهر والحيض وقول من جعله لأوقات الطهر وقول من جعله لأوقات الحيض وكأنه لم واحدا منهما بل جعله لأوقاتهما قال وأقرأت المرأة إذا خرجت من حيض إلى طهر طهر إلى حيض وهذا يدل على أنه لا بد من مسمى الحيض في حقيقته يوضحه أن من قال الطهر تسمى قروءا فإنما يريد أوقات الطهر التي يحتوشها الدم وإلا فالصغيرة لا يقال لزمن طهرها أقراء ولا هما من ذوات الأقراء باتفاق أهل اللغة الدليل الثاني أن لفظ القرء لم يستعمل في كلام الشارع إلا للحيض ولم يجيء عنه في واحد استعماله للطهر فحمله في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى متعين فإنه قال للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك وهو المعبر عن الله تعالى قومه القرآن فإذا ورد المشترك في كلامه على أحد معنييه وجب حمله في سائر كلامه عليه لم تثبت إرادة الآخر في شيء من كلامه ألبتة ويصير هو لغة القرآن التي خوطبنا وإن كان له معنى آخر في كلام غيره ويصير هذا المعنى الحقيقة الشرعية في تخصيص بأحد معنييه كما يخص المتواطيء بأحد أفراده بل هذا أولى لأن أغلب أسباب تسمية أحد القبيلتين الشيء باسم وتسمية الأخرى بذلك الإسم مسمى آخر ثم الإستعمالات
بل قال المبرد وغيره لا يقع الإشتراك في اللغة إلا بهذا الوجه والواضع لم يضع لفظا مشتركا ألبتة فإذا ثبت استعمال الشارع لفظ القروء في علم أن هذا لغته فيتعين حمله على ما في كلامه ويوضح ذلك ما في سياق الآية من ( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) البقرة 228 وهذا هو الحيض عند عامة المفسرين والمخلوق في الرحم إنما هو الحيض الوجودي ولهذا قال والخلف هو الحمل والحيض وقال بعضهم الحمل وبعضهم الحيض ولم يقل أحد قط إنه ولهذا لم ينقله من عني بجمع أقوال أهل التفسير كابن الجوزي وغيره وأيضا فقد سبحانه ( واللائي يئسن من من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) الطلاق 4 فجعل كل شهربإزاء حيضة الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر من الحيض وأيضا فحديث عائشة رضي الله عنها عن طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث مظاهر ابن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا وفي لفظ للدارقطني فيه طلاق العبد ثنتان وروى ابن ماجة من حديث عطية العوفي ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان قال ابن ماجة في سننه حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض وفي المسند عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي خير بريرة فاختارت نفسها أن تعتد عدة الحرة
وقد فسر عدة الحرة بثلاث حيض في حديث عائشة رضي الله فإن قيل فمذهب عائشة رضي الله عنها أن الأقراء الأطهار قيل ليس هذا بأول حديث فأخذ بروايته دون رأيه وأيضا ففي حديث الربيع بنت معوذ أن النبي أمر امرأة بن قيس بن شماس لما اختلعت من زوجها أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها رواه وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من فأمرها النبي أن تعتد بحيضة وفي الترمذي أن الربيع بنت معوذ اختلعت على عهد رسول الله فأمرها النبي أو أن تعتد بحيضة قال الترمذي حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة وأيضا الإستبراء هو عدة الأمة وقد ثبت عن أبي سعيد أن النبي قال في سبايا أوطاس لا حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة رواه أحمد وأبو داود فإن قيل لا نسلم أن استبراء الأمة بالحيضة وإنما هو بالطهر الذي هو قبل الحيضة قال ابن عبدالبر وقال قولهم إن استبراء الأمة حيضة بإجماع ليس كما ظنوا بل لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة واستيقنت أن دمها دم حيض كذلك قال بن إسحاق بن أكثم حين أدخل عليه في مناظرته إياه قلنا هذا يرده قوله لا توطأ الحامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة
وأيضا فالمقصود الأصلي من العدة إنما هو استبراء الرحم وإن كان لها فوائد أخر الحرة المنكوحة وخطرها جعل العلم الدال على براءة رحمها ثلاثة أقراء فلو كان هو الطهر لم تحصل بالقرء الأول دلالة فإنه لو جامعها في الطهر ثم طلقها ثم كان ذلك قرءا محسوبا من الأقراء عند من يقول الأقراء الأطهار ومعلوم أن هذا يدل على شيء وإنما الذي يدل على البراءة الحيض الحاصل بعد الطلاق ولو طلقها في لم يصبها فيه فإنما يعلم هنا براءة الرحم بالحيض الموجود قبل الطلاق والعدة لا قبل الطلاق لأنها حكمه والحكم لا يسبق سببه فإذا كان الطهر الموجود بعد لا دلالة له على البراءة أصلا لم يجز إدخاله في العدد الدالة على براءة وكان مثله كمثل شاهد غير مقبول ولا يجوز تعليق الحكم بشهادة شاهد لا شهادة يوضحه أن العدة في المنكوحات كالإستبراء في المملوكات وقد ثبت بصريح السنة أن الإستبراء بالحيض لا بالطهر فكذلك العدة إذ لا فرق بينهما بتعدد العدة والإكتفاء بالإستبراء بقرء واحد وهذا لا يوجب اختلافهما في حقيقة وإنما يختلفان في القدر المعتبر منهما ولهذا قال الشافعي في أصح القولين عنه استبراء الأمة يكون بالحيض وفرق أصحابه بين البابين بأن العدة وجبت قضاء لحق فاختصت بأزمان حقه وهي أزمان الطهر وبأنها تتكرر فتعلم معها البراءة بتوسط بخلاف الإستبراء فإنه لا يتكرر والمقصود مجرد البراءة فاكتفى فيه بحيضة وقال في القول الآخر تستبرأ بطهر طردا لأصله في وعلى هذا فهل تحتسب ببعض الطهر على وجهين لأصحابه فإذا احتسبت به فلا بد من حيضة كاملة إليه فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن لم تحتسب به فلا بد من ضم كامل إليه ولا تحتسب ببعض الطهر عنده قرءا قولا واحدا
والمقصود أن الجمهور على أن عدة الإستبراء حيضة لا طهر وهذا الإستبراء في حق كالعدة في حق الحرة قالوا بل الإعتداد في حق الحرة بالحيض أولى من الأمة من أحدهما أن الإحتياط في حقها ثابت بتكرير القرء ثلاث استبراءات فهكذا ينبغي أن الإعتداد في حقها بالحيض الذي هو أحوط من الطهر فإنها لا تحتسب ببقية الحيضة وتحتسب ببقية الطهر قرءا الثاني أن استبراء الأمة فرع على عدة الحرة وهي الثابتة بنص القرآن والإستبراء ثبت بالسنة فإذا كان قد احتاط له الشارع بأن جعله بالحيض فاستبراء الحرة أولى الحرة استبراء لها واستبراء الأمة عدة لها وأيضا فالأدلة والعلامات والحدود والغايات إنما تحصل بالأمور الظاهرة المتميزة عن والطهر هو الأمر الأصلي ولهذا متى كان مستمرا مستصحبا لم يكن له حكم يفرد به الشريعة وإنما الأمر المتميز هو الحيض فإن المرأة إذا حاضت تغيرت أحكامها من وتحريم العبادات عليها من الصلاة والصوم والطواف واللبث في المسجد وغير ذلك الأحكام ثم إذا انقطع الدم واغتسلت فلم تتغير أحكامها بتجدد الطهر لكن لزوال المغير الذي الحيض فإنها تعود بعد الطهر إلى ما كانت عليه قبل الحيض من غير أن يجدد لها حكما والقرء أمر يغير أحكام المرأة وهذا التغيير إنما يحصل بالحيض دون الطهر الوجه دال على فساد قول من يحتسب بالطهر الذي قبل الحيضة قرءا فيما إذا طلقت أن تحيض ثم حاضت فإن من اعتد بهذا الطهر قرءا جعل شيئا ليس له حكم في الشريعة من الأقراء وهذا فاسد
فصل
قال من جعل الأقراء الأطهار الكلام معكم في مقامين أحدهما بيان الدليل على أنها الأطهار
الثاني في الجواب عن أدلتكم أما المقام الأول فقوله تعالى
( أفي كل عام أنت جاشم غزوة % تشد لأقصاها عزيم عزائكا )
( مورثة عزا وفي الحي رفعة % لما ضاع فيها من قروء نسائكا )
فالقروء في البيت الأطهار لأنه ضيع إطهارهن في غزاته وآثرها عليهن قالوا ولأن الطهر أسبق إلى الوجود من الحيض فكان أولى بالإسم قالوا فهذا أحد وأما المقام الآخر وهوالجواب عن أدلتكم فنجيبكم بجوابين مجمل ومفصل أما المجمل فنقول من أنزل عليه القرآن فهو أعلم بتفسيره وبمراد المتكلم به من كل سواه وقد فسر النبي العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء بالأطهار فلا بعد ذلك إلى شيء خالفه بل كل تفسير يخالف هذا فباطل قالوا وأعلم الأمة بهذه أزواج رسول الله وأعلمهن بها عائشة رضي الله عنها لأنها فيهن لا في ولأن الله تعالى جعل قولهن في ذلك مقبولا في وجود الحيض والحمل لأنه لا إلا من جهتهن فدل على أنهن أعلم بذلك من الرجال فإذا قالت أم المؤمنين رضي عنها إن الأقراء الأطهار
( فقد قالت حذام فصدقوها % فإن القول ما قالت حذام )
قالوا وأما الجواب المفصل فنفرد كل واحد من أدلتكم بجواب فهاكم الأجوبة أما قولكم إما أن يراد بالأقراء في الآية الأطهار فقط أو الحيض فقط أو مجموعهما آخره فجوابه أن نقول الأطهار فقط لما ذكرنا من الدلالة قولكم النص اقتضى ثلاثة إلى قلنا عنه جوابان أحدهما أن بقية الطهر عندنا قرء كامل فما اعتدت إلا بثلاث كوامل الثاني أن العرب توقع اسم الجمع على اثنين وبعض الثالث كقوله تعالى ( الحج أشهر ) البقرة 197 فإنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة أو تسع أو ثلاثة عشر لفلان ثلاث عشرة سنة إذا دخل في السنة الثالثة عشر فإذا كان هذا معروفا في وقد دل الدليل عليه وجب المصير إليه وأما قولكم إن استعمال القرء في الحيض أظهر منه في الطهر فمقابل بقول منازعيكم قولكم إن أهل اللغة يصدرون كتبهم بأن القرء هو الحيض فيذكرونه تفسيرا للفظ ثم بقولهم بقيل أو وقال بعضهم هو الطهر قلنا أهل اللغة يحكون أن له مسميين في اللغة ويصرحون بأنه يقال على هذا وعلى هذا من يجعله في الحيض أظهر ومنهم من يحكي إطلاقه عليهما من غير ترجيح فالجوهري الحيض والشافعي من أئمة اللغة وقد رجح أنه الطهر وقال أبو عبيد القرء يصلح والحيض
وقال الزجاج أخبرني من أثق به عن يونس أن القرء عنده يصلح للطهر وقال أبو عمرو بن العلاء القرء وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر وإذا كانت هذه نصوص أهل اللغة فكيف يحتجون إن الأقراء الحيض قولكم إن من جعله الطهر فإنه يريد أوقات الطهر التي يحتوشها الدم وإلا فالصغيرة ليستا من ذوات الأقراء وعنه جوابان أحدهما المنع بل إذا طلقت الصغيرة التي لم تحض ثم حاضت فإنها تعتد بالطهر الذي فيه قرءا على أصح الوجهين عندنا لأنه طهر بعده حيض وكان قرءا كما لو كان قبله الثاني إنا وإن سلمنا ذلك فإن هذا يدل على أن الطهر لا يسمى قرءا حتى يحتوشه دمان نقول فالدم شرط في تسميته قرءا وهذا لا يدل على أن مسماه الحيض وهذا كالكأس لا يقال على الإناء إلا بشرط كون الشراب فيه وإلا فهو زجاجة أو قدح والمائدة لا تقال للخوان إلا إذا كان عليه طعام وإلا فهو خوان والكوز الذي لا يقال إلا إذا كان ذا عروة وإلا فهو كوب والقلم الذي يشترط في صحة إطلاقه على كونها مبرية وبدون البري فهو أنبوب أو قصبة والخاتم شرط إطلاقه أن يكون ذا منه أو من غيره وإلا فهو فتخة والفرو شرط إطلاقه على مسماه الصوف وإلا فهو جلد شرط إطلاقها على مسماها أن تكون قطعة واحدة فإن كانت ملفقة من قطعتين فهي والحلة شرط إطلاقها أن تكون ثوبين إزار ورداء وإلا فهو ثوب والأريكة لا تقال السرير إلا إذا كان عليه حجلة وهي التي تسمى بشخانة وخركاه وإلا فهو سرير لا تقال للجمال إلا إذا كان فيها طيب وإلا فهي عير والنفق لا يقال إلا له منفذ وإلا فهو سرب والعهن لا يقال للصوف إلا إذا كان وإلا فهو صوف والخدر لا يقال إلا لما اشتمل على المرأة وإلا فهو ستر لا يقال للعصا إلا إذا كان محنية الرأس وإلا فهي عصا والركية لا تقال على إلا بشرط كون الماء فيها وإلا فهي بئر والوقود لا يقال للحطب إلا إذا كانت فيه وإلا فهو حطب ولا يقال للتراب ثرى إلا بشرط نداوته وإلا فهو تراب ولا للرسالة مغلغلة إلا إذا حملت من بلد إلى بلد وإلا فهي رسالة ولا يقال للأرض إلا إذا هيئت للزراعة ولا يقال لهروب العبد إباق إلا إذا كان هروبه من غير ولا جوع ولا جهد وإلا فهو هروب
والريق لا يقال له رضاب إلا إذا كان في الفم فارقه فهو بصاق وبساق والشجاع لا يقال له كمي إلا إذا كان شاكي السلاح وإلا بطل وفي تسميته بطلا قولان أحدهما لأنه تبطل شجاعته قرنه وضربه وطعنه والثاني تبطل شجاعة الشجعان عنده فعلى الأول فهو فعل بمعنى فاعل وعلى الثاني فعل مفعول وهو قياس اللغة والبعير لا يقال له راويه إلا بشرط حمله للماء والطبق يسمى مهدي إلا أن يكون عليه هدية والمرأة لا تسمى ظعينة إلا بشرط كونها في هذا في الأصل وإلا فقد تسمى المرأة ظعينة وإن لم تكن في هودج ومنه في فمرت ظعن يجرين والدلو لا يقال له سجل إلا ما دام فيه ماء ولا يقال لها إلا إذا امتلأت به والسرير لا يقال له نعش إلا إذا كان عليه ميت والعظم لا له عرق إلا إذا اشتمل عليه لحم والخيط لا يسمى سمطا إلا إذا كان فيه خرز ولا للحبل قرن إلا إذا قرن فيه اثنان فصاعدا والقوم لا يسمون رفقة إلا إذا انضموا إلى مجلس واحد وسير واحد فإذا تفرقوا زال هذا الإسم ولم يزل عنهم اسم الرفيق لا تسمى رضفا إلا إذا حميت بالشمس أو بالنار والشمس لا يقال لها غزالة عند ارتفاع النهار والثوب لا يسمى مطرفا إلا إذا كان في طرفيه علمان والمجلس يقال له النادي إلا إذا كان أهله فيه والمرأة لا يقال لها عاتق إلا إذا كانت في أبويها
ولا يسمى الماء الملح أجاجا إلا إذا كان مع ملوحته مرا ولا يقال للسير إلا إذا كان معه خوف ولا يقال للفرس محجل إلا إذا كان البياض في قوائمها أو أكثرها وهذا باب طويل لو تقصيناه فكذلك لا يقال للطهر قرء إلا إذا كان دم وبعده دم فأين في هذا ما يدل على أنه حيض قالوا وأما قولكم إنه لم يجيء في كلام الشارع إلا للحيض فنحن نمنع مجيئه في كلام للحيض ألبتة فضلا عن الحصر قالوا إنه قال للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك أجاب الشافعي عنه في كتاب حرملة بما فيه شفاء وهذا لفظه قال وزعم إبراهيم ابن بن علية أن الأقراء الحيض واحتج بحديث سفيان عن أيوب عن سليمان بن يسار عن سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال في امرأة استحيضت تدع الصلاة أيام قال الشافعي رحمه الله وما حدث بهذا سفيان قط إنما قال سفيان عن أيوب عن بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال تدع الصلاة عدد والأيام التي كانت تحيضهن أو قال أيام أقرائها الشك من أيوب لا يدري قال أو هذا فجعله هو حديثا على ناحية ما يريد فليس هذا بصدق وقد أخبرنا عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال لتنظر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم لتدع ثم لتغتسل ولتصل ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب وهو يقول بمثل أحد معنيي اللذين رواهما انتهى كلامه قالوا وأما الإستدلال بقوله تعالى ( ولا يحل لهن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) البقرة 228 وأنه الحيض أو الحبل أو كلاهما فلا أن الحيض داخل في ذلك ولكن تحريم كتمانه لا يدل على أن القروء المذكورة في هي الحيض فإنها إذا كانت الأطهار فإنها تنقضي بالطعن في الحيضة الرابعة أو فإذا أرادت كتمان انقضاء العدة لأجل النفقة أو غيرها قالت لم أحض فتنقضي وهي كاذبة وقد حاضت وانقضت عدتها وحينئذ فتكون دلالة الآية على أن القروء أظهر
ونحن نقنع باتفاق الدلالة بها وإن أبيتم إلا الإستدلال فهو من جانبنا فإن أكثر المفسرين قالوا الحيض والولادة فإذا كانت العدة تنقضي بظهور الولادة تنقضي بظهور الحيض تسوية بينهما في إتيان المرأة على كل واحد منهما وأما استدلالكم بقوله تعالى ( واللائي يئسن من من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن )الطلاق 4 فجعل كل شهر بإزاء حيضة فليس هذا بصريح في أن القروء هي بل غاية الآية أنه جعل اليأس من الحيض شرطا في الإعتداد بالأشهر فما دامت لا تنتقل إلى عدة الآيسات وذلك أن الأقراء التي هي الأطهار عندنا لا توجد مع الحيض لا تكون بدونه فمن أين يلزم أن تكون هي الحيض وأما استدلالكم بحديث عائشة رضي الله عنها طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان فهو لو استدللنا به عليكم لم تقبلوا ذلك منا فإنه حديث ضعيف معلول قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا انتهى ومظاهر بن أسلم هذا قال فيه أبو حاتم الرازي منكر الحديث
وقال يحيى معين ليس بشيء مع أنه لا يعرف وضعفه أبو عاصم أيضا وقال أبو داود هذا حديث وقال الخطابي أهل الحديث ضعفوا هذا الحديث وقال البيهقي لو كان ثابتا لقلنا إلا أنا لا نثبت حديثا يرويه من تجهل عدالته وقال الدارقطني الصحيح عن القاسم هذا ثم روى عن زيد بن أسلم قال سئل القاسم عن الأمة كم تطلق قال طلاقها وعدتها حيضتان قال فقيل له هل بلغك عن رسول الله في هذا فقال لا وقال في تاريخه مظاهر بن أسلم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها يرفعه طلاق طلقتان وعدتها حيضتان قال أبو عاصم أخبرنا ابن جريج عن مظاهر ثم لقيت مظاهرا به وكان أبو عاصم يضعف مظاهرا وقال يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب قال حدثني بن زيد بن أسلم أنه كان جالسا عند أبيه فأتاه رسول الامير فقال إن الأمير لك كم عدة الأمة فقال عدة الأمة حيضتان وطلاق الحر الأمة ثلاث وطلاق العبد تطليقتان وعدة الحرة ثلاث حيض ثم قال للرسول أين تذهب أمرني أن أسأل القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله قال فأقسم عليك إلا رجعت إلي ما يقولان فذهب ورجع إلى أبي فأخبره أنهما قالا كما قال وقالا له قل له هذا ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله ولكن عمل به المسلمون
وقال أبو القاسم بن عساكر في أطرافه فدل ذلك على أن الحديث المرفوع غير محفوظ وأما استدلالكم بحديث ابن عمر مرفوعا طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان فهو من عطية بن سعد العوفي وقد ضعفه غير واحد من الأئمة قال الدارقطني والصحيح عن عمر رضي الله عنه ما رواه سالم ونافع من قوله وروى الدارقطني أيضا عن سالم أن ابن عمر كان يقول طلاق العبد الحرة تطليقتان وعدتها ثلاثة قروء وطلاق الأمة تطليقتان وعدتها عدة الأمة حيضتان قالوا والثابت بلا شك عن ابن عمر رضي الله عنه أن الأقراء الأطهار قال الشافعي رحمه الله أخبرنا مالك رحمه الله عن نافع عن ابن عمر قال إذا طلق امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه ولا ترثه ولا يرثها قالوا فهذا الحديث مداره على ابن عمر وعائشة ومذهبهما بلا شك أن الأقراء الأطهار يكون عندهما عن النبي خلاف ذلك ولا يذهبان إليه قالوا وهذا بعينه هو الجواب حديث عائشة الآخر بريرة أن تعتد ثلاث حيض قالوا وقد روي هذا الحديث بثلاثة ألفاظ أمرت أن تعتد أن تعتد عدة الحرة وأمرت أن تعتد ثلاث حيض فلعل رواية من روى ثلاث حيض على المعنى ومن العجب أن يكون عند عائشة رضي الله عنها هذا وهي تقول الأطهار وأعجب منه أن يكون هذا الحديث بهذا السند المشهور الذي كلهم أئمة يخرجه أصحاب الصحيح ولا المساند ولا من اعتنى بأحاديث الأحكام وجمعها ولا الأربعة وكيف يصبر عن إخراج هذا الحديث من هو مضطر إليه ولا سيما بهذا المعروف الذي هو كالشمس شهرة ولا شك أن بريرة أمرت أن تعتد وأما أنها أمرت حيض فهذا لو صح لم نعده إلى غيره ولبادرنا إليه
قالوا وأما استدلالكم بشأن الإستبراء فلا ريب أن الصحيح كونه بحيضة وهو ظاهر النص فلا وجه للإشتغال بالتعلل بالقول إنها تستبرأ بالطهر فإنه خلاف ظاهر نص وخلاف القول الصحيح من قول الشافعي وخلاف قول الجمهور من الأمة فالوجه إلى الفرق بين البابين فنقول الفرق بينهما ما تقدم أن العدة وجبت قضاء لحق فاختصت بزمان حقه وهو الطهر بأنها تتكرر فيعلم منها البراءة بواسطة الحيض الإستبراء قولكم لو كانت الأقراء الأطهار لم تحصل بالقرء الأول دلالة لأنه لو جامعها ثم فيه حسبت بقيته قرءا ومعلوم قطعا أن هذا الطهر لا يدل على شيء فجوابه أنها إذا طهرت بعد طهرين كاملين صحت دلالته بانضمامه إليهما قولكم إن الحدود والعلامات والأدلة إنما تحصل بالأمور الظاهرة إلى آخره جوابه أن الطهر إذا احتوشه دمان كان كذلك وإذا لم يكن قبله دم ولا بعده دم فهذا يعتد به ألبتة قالوا ويزيد ما ذهبنا إليه قوة أن القرء هو الجمع وزمان الطهر أولى به فإنه حينئذ الحيض وإنما يخرج بعد جمعه قالوا وإدخال التاء في ثلاثة قروء يدل على أن مذكر وهو الطهر فلو كان الحيض لكان بغير تاء لأن واحدها حيضة فهذا ما احتج به أرباب هذا القول استدلالا وجوابا وهذا موضع لا يمكن فيه التوسط الفريقين إذ لا توسط بين القولين فلا بد من التحيز إلى أحد الفئتين ونحن في هذه المسألة إلى أكابر الصحابة وقائلون فيها بقولهم إن القرء الحيض وقد الإستدلال على صحة هذا القول فنجيب عما عارض به أرباب القول الآخر ليتبين ما وبالله التوفيق فنقول أما استدلالكم بقوله تعالى ( فطلقوهن لعدتهن ) الطلاق 1 فهو إلى أن يكون حجة أقرب منه إلى أن يكون حجة لكم فإن المراد طلاقها قبل العدة ضرورة إذ لا يمكن الآية على الطلاق في العدة فإن هذا مع تضمنه لكون اللام للظرفية بمعنى في فاسد إذ لا يمكن إيقاع الطلاق في العدة فإنه سببها والسبب يتقدم الحكم وإذا تقرر فمن قال الأقراء الحيض فقد عمل بالآية وطلق قبل العدة فإن قلتم ومن قال إنها الأطهار فالعدة تتعقب الطلاق فقد طلق قبل العدة قلنا فبطل حينئذ وصح أن المراد الطلاق قبل لا فيها وكلا الأمرين يصح أن يراد بالآية لكن إرادة الحيض أرجح وبيانه أن فعلة مما تعد يعني معدودة لأنها تعد وتحصى كقوله( وأحصوا العدة ) الطلاق 1 الذي قبل الحيضة مما يعد ويحصى فهو من العدة وليس الكلام فيه وإنما الكلام أمر آخر وهو دخوله في مسمى القروء الثلاثة المذكورة في الآية أم لا فلو كان فطلقوهن لقروئهن لكان فيه تعلق فهنا أمران قوله تعالى ( يتربصن بأنفسهن ثلاثة ) البقرة 228
والثاني قوله ( فطلقوهن لعدتهن ) الطلاق 1 ولا ريب أن القائل افعل لثلاث بقين من الشهر إنما يكون المأمور ممتثلا إذا فعله قبل مجيء الثلاث وكذلك قال فعلته لثلاث مضين من الشهر إنما يصدق إذا فعله بعد مضي الثلاث وهو بخلاف الظرف الذي هو في فإنه إذا قال فعلته في ثلاث بقين كان الفعل واقعا في نفس وها هنا نكتة حسنة وهي أنهم يقولون فعلته لثلاث ليال خلون أو بقين من الشهر في الثاني أو الثالث من الشهر أو في ثانية أو ثالثة فمتى أرادوا مضي الزمان استقباله أتوا باللام ومتى أرادوا وقوع الفعل فيه أتوا بفي وسر ذلك أنهم إذا مضي زمن الفعل أو استقباله أتوا بالعلامة الدالة على اختصاص العدد الذي به بما مضى أو بما يستقبل وإذا أرادوا وقوع الفعل في ذلك الزمان أتوا المعينة له وهي أداة في وهذا خير من قول كثير من النحاة إن اللام تكون قبل في قولهم كتبته لثلاث بقين وقوله ( فطلقوهن لعدتهن ) الطلاق 1 وبمعنى بعد لثلاث خلون وبمعنى في كقوله تعالى ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) 47 وقوله ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ) آل عمران 25 والتحقيق أن على بابها بالوقت ال