البحث
ذكر أحكامه في البيوع ذكر حكمه فيما يحرم بيعه
ذكر أحكامه في البيوع ذكر حكمه فيما يحرم بيعه
ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه سمع النبي يقول إن ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو ثم قال رسول الله عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها ثم باعوه فأكلوا ثمنه وفيهما أيضا عن ابن عباس قال بلغ عمر رضي الله عنه أن سمرة باع خمرا فقال قاتل سمرة ألم يعلم أن رسول الله قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فهذا من مسند عمر رضي الله عنه وقد رواه البيهقي والحاكم في مستدركه فجعلاه من مسند ابن عباس وفيه زيادة ولفظه عن ابن عباس قال كان النبي المسجد يعني الحرام فرفع بصره إلى السماء فتبسم فقال لعن الله اليهود لعن الله لعن الله اليهود إن الله عز وجل حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه وإسناده صحيح فإن البيهقي رواه عن عبدان عن الصفار عن إسماعيل القاضي حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا خالد عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه دون قوله إن الله إذا حرم أكل حرم ثمنه فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس مشارب تفسد العقول ومطاعم الطباع وتغذي غذاء خبيثا وأعيان تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك فصان بتحريم النوع الأول العقول عما يزيلها ويفسدها وبالثاني القلوب عما يفسدها وصول أثر الغذاء الخبيث إليها والغاذي شبيه بالمتغذي وبالثالث الأديان عما وضع فتضمن هذا التحريم صيانة العقول والقلوب والأديان ولكن الشأن في معرفة حدود كلامه صلوات الله عليه وما يدخل فيه وما لا يدخل فيه عموم كلماته وجمعها وتناولها لجميع الأنواع التي شملها عموم كلماته بجميع الأنواع التي شملها عموم
ومعناه وهذه خاصية الفهم عن الله ورسوله التي تفاوت فيه العلماء ويؤتيه الله يشاء
فأما تحريم بيع الخمر فيدخل فيه تحريم بيع كل مسكر مائعا كان أو جامدا عصيرا أو فيدخل فيه عصير العنب وخمر الزبيب والتمر والذرة والشعير والعسل والحنطة الملعونة لقمة الفسق والقلب التي تحرم القلب الساكن إلى أخبث الأماكن فإن كله خمر بنص رسول الله الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجماع في إذ صح عنه قوله كل مسكر خمر
وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده أن الخمر ما خامر فدخول هذه الأنواع تحت اسم الخمر كدخول جميع أنواع الذهب والفضة والبر والتمر والزبيب تحت قوله لا تبيعوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل فكما لا يجوز إخراج صنف من هذه الأصناف عن تناول اسمه له فهكذا لا يجوز إخراج صنف أصناف المسكر عن اسم الخمر و يتضمن محذورين
أحدهما أن يخرج من كلامه ما قصد دخوله فيه والثاني أن يشرع لذلك النوع الذي أخرج حكم غير حكمه فيكون تغييرا لألفاظ الشارع فإنه إذا سمى ذلك النوع بغير الإسم الذي سماه به الشارع أزال عنه حكم ذلك وأعطاه حكما آخر ولما علم النبي أن من أمته من يبتلى بهذا كما قال ليشربن من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها قضى قضية كلية عامة لا يتطرق إليها إجمال احتمال بل هي شافية كافية فقال كل مسكر خمر هذا ولو أن أبا عبيدة والخليل من أئمة اللغة ذكروا هذه الكلمة هكذا لقالوا قد نص أئمة اللغة على أن كل خمر وقولهم حجة وسيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر هديه في الأطعمة والأشربة تقرير لهذا وأنه لو لم يتناوله لفظه القياس الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل وجه حاكما بالتسوية بين المسكر في تحريم البيع والشرب فالتفريق بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من الوجوه
فصل
وأما تحريم بيع الميتة فيدخل فيه كل ما يسمى ميتة سواء مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة تفيد حله ويدخل فيه أبعاضها أيضا ولهذا استشكل الصحابة رضي الله عنهم تحريم بيع مع ما لهم فيه من المنفعة فأخبرهم النبي أنه حرام وإن كان فيه ما ذكروا من وهذا موضع اختلف الناس فيه لاختلافهم في فهم مراده وهو أن قوله لا هو هل هو عائد إلى البيع أو عائد إلى الأفعال التي سألوا عنها فقال شيخنا هو إلى البيع فإنه لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة قالوا إن شحومها من كذا وكذا يعنون فهل ذلك مسوغ لبيعها فقال لا هو حرام قلت كأنهم طلبوا تخصيص الشحوم من جملة الميتة بالجواز كما طلب العباس رضي الله تخصيص الإذخر من جملة تحريم نبات الحرم بالجواز فلم يجبهم إلى ذلك فقال لا هو وقال غيره من أصحاب أحمد وغيرهم التحريم عائد إلى الأفعال المسؤول عنها وقال هو ولم يقل هي لأنه أراد المذكور جميعه ويرجح قولهم عود الضمير إلى أقرب مذكور من جهة المعنى أن إباحة هذه الأشياء ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها أيضا أن في بعض ألفاظ الحديث فقال لا هي حرام وهذا الضمير إما أن يرجع إلى وإما إلى هذه الأفعال وعلى التقديرين فهو حجة على تحريم الأفعال التي سألوا ويرجحه أيضا قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الفأرة التي وقعت في السمن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه وإن كان مائعا فلا تقربوه وفي الإنتفاع به الإستصباح وغيره قربان له ومن رجح الأول يقول ثبت عن النبي أنه قال إنما حرم من الميتة أكلها وهذا صريح أنه لا يحرم الإنتفاع بها في غير الأكل كالوقيد وسد البثوق ونحوهما قالوا إنما تحرم ملابسته باطنا وظاهرا كالأكل واللبس وأما الإنتفاع به من غير فلأي شيء يحرم قالوا ومن تأمل سياق حديث جابر علم أن السؤال إنما كان منهم عن البيع وأنهم طلبوا أن يرخص لهم في بيع الشحوم لما فيها من المنافع فأبى عليهم وقال هو حرام فإنهم سألوه عن حكم هذه الأفعال لقالوا أرأيت شحوم الميتة هل يجوز أن يستصبح بها وتدهن بها الجلود ولم يقولوا فإنه يفعل بها كذا وكذا فإن هذا إخبار منهم لا وهم لم يخبروه بذلك عقيب تحريم هذه الأفعال عليهم ليكون قوله لا هو حرام في تحريمها وإنما أخبروه به عقيب تحريم بيع الميتة فكأنهم طلبوا منه أن يرخص في بيع الشحوم لهذه المنافع التي ذكروها فلم يفعل ونهاية الأمر أن الحديث الأمرين فلا يحرم ما لم يعلم أن الله ورسوله حرمه
قالوا وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الإستسقاء من آبار ثمود وأباح لهم أن يطعموا ما منه من تلك الآبار للبهائم قالوا ومعلوم أن إيقاد النجاسة والإستصباح بها خال عن هذه المفسدة وعن ملابستها باطنا وظاهرا فهو نفع محض لا مفسدة فيه كان هكذا فالشريعة لا تحرمه فإن الشريعة إنما تحرم المفاسد الخالصة أو الراجحة وأسبابها الموصلة إليها قالوا وقد أجاز أحمد في إحدى الروايتين الإستصباح بشحوم الميتة إذا خالطت دهنا فإنه في أكثر الروايات عنه يجوز الإستصباح بالزيت النجس وطلي السفن به وهو طائفة من أصحابه منهم الشيخ أبو محمد وغيره واحتج بأن ابن عمر أمر أن به وقال في رواية ابنيه صالح وعبدالله لا يعجبني بيع النجس ويستصبح به إذا لم يمسوه نجس وهذا يعم النجس والمتنجس ولو قدر أنه إنما أراد به المتنجس فهو صريح في بجواز الإستصباح بما خالطه نجاسة ميتة أو غيرها وهذا مذهب الشافعي وأي فرق الإستصباح بشحم الميتة إذا كان منفردا وبين الإستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فإن قيل إذا كان مفردا فهو نجس العين وإذا خالطه غيره تنجس به تطهيره بالغسل فصار كالثوب النجس ولهذا يجوز بيع الدهن المتنجس على أحد دون دهن الميتة قيل لا ريب أن هذا هو الفرق الذي عول عليه المفرقون بينهما ولكنه ضعيف لوجهين أحدهما أنه لا يعرف عن الإمام أحمد ولا عن الشافعي ألبتة غسل الدهن النجس وليس في ذلك كلمة واحدة وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين وقد روي عن مالك أنه يطهر هذه رواية ابن نافع وابن القاسم عنه الثاني أن هذا الفرق وإن تأتى لأصحابه في الزيت والشيرج ونحوهما فلا يتأتى لهم في الأدهان فإن منها ما لا يمكن غسله وأحمد والشافعي قد أطلقا القول بجواز بالدهن النجس من غير تفريق وأيضا فإن هذا الفزق لا يفيد في دفع كونه مستعملا للخبيث والنجاسة سواء كانت أو طارئة فإنه إن حرم الإستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث فلا فرق وإن لأجل دخان النجاسة فلا فرق وإن حرم لكون الإستصباح به ذريعة إلى اقتنائه فلا فالفرق بين المذهبين في جواز الإستصباح بهذا دون هذا لا معنى له
وأيضا فقد جوز جمهور العلماء الإنتفاع بالسرقين النجس في عمارة الأرض للزرع والبقل مع نجاسة عينه وملابسة المستعمل له أكثر من ملابسة الموقد وظهور في البقول والزروع والثمار فوق ظهور أثر الوقيد وإحالة النار أتم من إحالة والهواء والشمس للسرقين فإن كان التحريم لأجل دخان النجاسة فمن سلم أن دخان نجس وبأي كتاب أم بأية سنة ثبت ذلك وانقلاب إلى الدخان أتم من انقلاب عين السرقين والماء النجس ثمرا أو زرعا وهذا أمر يشك فيه بل معلوم بالحس والمشاهدة حتى جوز بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة رحمهما بيعه فقال ابن الماجشون لا بأس ببيع العذرة لأن ذلك من منافع الناس وقال ابن لا بأس ببيع الزبل قال اللخمي وهذا يدل من قوله على أنه يرى بيع العذرة أشهب في الزبل المشتري أعذر فيه من البائع يعني في اشترائه وقال ابن عبد لم يعذر الله واحدا منهما وهما سيان في الإثم قلت وهذا هو الصواب وأن بيع ذلك حرام وإن جاز الإنتفاع به والمقصود أنه لا يلزم تحريم بيع الميتة تحريم الإنتفاع بها في غير ما حرم الله ورسوله منها كالوقيد الصقور والبزاة وغير ذلك وقد نص مالك على جواز الإستصباح بالزيت النجس في المساجد وعلى جواز عمل الصابون منه وينبغي أن يعلم أن باب الإنتفاع أوسع من البيع فليس كل ما حرم بيعه حرم الإنتفاع به بل لا تلازم بينهما فلا يؤخذ تحريم من تحريم البيع
فصل
ويدخل في تحريم بيع الميتة بيع أجزائها التي تحلها الحياة وتفارقها بالموت كاللحم والعصب وأما الشعر والوبر والصوف فلا يدخل في ذلك لأنه ليس بميتة ولا تحله وكذلك قال جمهور أهل العلم إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارها طاهرة إذا من حيوان طاهر هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والليث والأوزاعي وداود وابن المنذر والمزني ومن التابعين الحسن وابن سيرين وأصحاب عبدالله مسعود وانفرد الشافعي بالقول بنجاستها واحتج له بأن اسم الميتة يتناولها كما سائر أجزائها بدليل الأثر والنظر أما الأثر ففي الكامل لابن عدي من حديث عمر يرفعه ادفنوا الأظفار والدم والشعر فإنها ميتة وأما النظر فإنه متصل ينمو بنمائه فينجس بالموت كسائر أعضائه وبأنه شعر نابت في محل نجس فكان كشعر الخنزير وهذا لأن ارتباطه بأصله خلقة يقتضي أن يثبت له حكمه تبعا فإنه منه عرفا والشارع أجرى الأحكام فيه على وفق ذلك فأوجب غسله في الطهارة وأوجب بأخذه من الصيد كالأعضاء وألحقه بالمرأة في النكاح والطلاق حلا وحرمة وكذلك وبأن الشارع له تشوف إلى إصلاح الأموال وحفظها وصيانتها وعدم إضاعتها وقد لهم في شاة ميمونة هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ولو كان الشعر طاهرا إرشادهم إلى أخذه أولى لأنه أقل كلفة وأسهل تناولا قال المطهرون للشعور قال الله تعالى
قالوا واللحم إنما ينجس لاحتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة فيه والشعور والأصواف من ذلك ولا ينتقض بالعظام والأظفار لما سنذكره قالوا والأصل في الأعيان الطهارة وإنما يطرأ عليها التنجيس باستحالتها كالرجيع عن الغذاء وكالخمر المستحيل عن
وأشباهها والشعور في حال استحالتها كانت طاهرة ثم لم يعرض لها ما يوجب بخلاف أعضاء الحيوان فإنها عرض لها ما يقتضي نجاستها وهو احتقان الفضلات قالوا وأما حديث عبدالله بن عمر ففي إسناده عبدالله بن عبدالعزيز بن أبي رواد قال حاتم الرازي أحاديثه منكرة ليس محله عندي الصدق وقال علي بن الحسين بن الجنيد يساوي فلسا يحدث بأحاديث كذب وأما حديث الشاة الميتة وقوله ألا انتفعتم بإهابها ولم يتعرض للشعر فعنه ثلاثة أحدها أنه أطلق الإنتفاع بالإهاب ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر مع أنه لا بد من شعر وهو لم يقيد الإهاب المنتفع به بوجه دون وجه فدل على أن الإنتفاع به وغيره مما لا يخلو من الشعر والثاني أنه قد أرشدهم إلى الإنتفاع بالشعر في الحديث نفسه حيث يقول إنما حرم الميتة أكلها أو لحمها والثالث أن الشعر ليس من الميتة ليتعرض له في الحديث لأنه لا يحله الموت وتعليلهم يبطل بجلد الميتة إذا دبغ وعليه شعر فإنه يطهر دون الشعر عندهم وتمسكهم في الطهارة يبطل بالجبيرة وتمسكهم بضمانه من الصيد يبطل بالبيض وبالحمل وأما النكاح فإنه يتبع الجملة لاتصاله وزوال الجملة بانفصاله عنها وهاهنا لو فارق بعد أن تبعها في التنجس لم يفارقها فيه عندهم فعلم الفرق
فصل
فإن قيل فهل يدخل في تحريم بيعها تحريم بيع عظمها وقرنها وجلدها بعد الدباغ لشمول الميتة لذلك قيل الذي يحرم بيعه منها هو الذي يحرم أكله واستعماله كما أشار النبي بقوله إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه وفي اللفظ الآخر إذا حرم شيء حرم ثمنه فنبه على أن الذي يحرم بيعه يحرم أكله وأما الجلد إذا دبغ فقد صار عينا طاهرة ينتفع به في اللبس والفرش وسائر وجوه فلا يمتنع جواز بيعه وقد نص الشافعي في كتابه القديم على أنه لا يجوز واختلف أصحابه فقال القفال لا يتجه هذا إلا بتقدير قول يوافق مالكا في أنه ظاهره دون باطنه وقال بعضهم لا يجوز بيعه وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله فإنه جزء من الميتة حقيقة فلا يجوز بيعه كعظمها ولحمها وقال بعضهم بل يجوز بعد الدبغ لأنه عين طاهرة ينتفع بها فجاز بيعها كالمذكي وقال بعضهم بل هذا على أن الدبغ إزالة أو إحالة فإن قلنا إحالة جاز بيعه لأنه قد استحال من جزء ميتة إلى عين أخرى وإن قلنا إزالة لم يجز بيعه لأن وصف الميتة هو المحرم وذلك باق لم يستحل وبنوا على هذا الخلاف جواز أكله ولهم فيه ثلاثة أوجه أكله مطلقا وتحريمه مطلقا بين جلد المأكول وغير المأكول فأصحاب الوجه الأول غلبوا حكم الإحالة الوجه الثاني حكم الإزالة وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغ مجرى الذكاة فأباحوا بها ما أكله بالذكاة إذا ذكي دون غيره والقول بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنة لم يمكن قائله القول به إلا بعد منعه كون الجلد بعد الدبغ ميتة وهذا منع فإنه جلد ميتة حقيقة وحسا وحكما ولم يحدث له حياة بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة الدبغ إحالة باطل حسا فإن الجلد لم يستحل ذاته وأجزاؤه وحقيقته بالدباغ فدعوى الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة أخرى كما تحيل النار الحطب إلى الرماد ما يلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى باطلة وأما أصحاب مالك رحمه الله ففي المدونة لابن القاسم المنع من بيعها وإن دبغت وهو ذكره صاحب التهذيب وقال المازري هذا هو مقتضى القول بأنها لا تطهر بالدباغ وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة فإنا نجيز بيعها لإباحة منافعها
قلت عن مالك في طهارة الجلد المدبوغ روايتان إحداهما يطهر ظاهره وباطنه وبها قال وعلى هذه الرواية جوز أصحابه بيعه والثانية وهي أشهر الروايتين عنه أنه يطهر مخصوصة يجوز معها استعماله في اليابسات وفي الماء وحده دون سائر المائعات أصحابه وعلى هذه الرواية لا يجوز بيعه ولا الصلاة فيه ولا الصلاة عليه وأما مذهب الإمام أحمد فإنه لا يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه وعنه في جوازه الدبغ روايتان هكذا أطلقهما الأصحاب وهما عندي مبنيتان على اختلاف الرواية عنه طهارته بعد الدباغ
وأما بيع الدهن النجس ففيه ثلاثة أوجه في مذهبه أحدها أنه لا يجوز بيعه والثاني أنه يجوز بيعه لكافر يعلم نجاسته وهو المنصوص عنه قلت والمراد بعلم النجاسة العلم بالسبب المنجس لا اعتقاد الكافر نجاسته والثالث يجوز بيعه لكافر ومسلم وخرج هذا الوجه من جواز إيقاده وخرج أيضا من بالغسل فيكون كالثوب النجس وخرج بعض أصحابه وجها ببيع السرقين النجس للوقيد بيع الزيت النجس له وهو تخريج صحيح وأما أصحاب أبي حنيفة فجوزوا بيع السرقين النجس إذا كان تبعا لغيره ومنعوه إذا مفردا
فصل
وأما عظمها فمن لم ينجسه بالموت كأبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد واختيار ابن وهب من مالك فيجوز بيعه عندهم وإن اختلف مأخذ الطهارة فأصحاب أبي حنيفة قالوا لا في الميتة ولا يتناوله اسمها ومنعوا كون الألم دليل حياته قالوا وإنما تؤلمه جاوره من اللحم لا ذات العظم وحملوا قوله تعالى ( قال من يحيي العظام وهي ) يس 78 على حذف مضاف أي أصحابها وغيرهم ضعف هذا المأخذ جدا وقال العظم يألم وألمه أشد من ألم اللحم ولا يصح حمل الآية على حذف مضاف لوجهين أحدهما أنه تقدير ما لا دليل عليه فلا سبيل إليه الثاني أن هذا التقدير يستلزم الإضراب جواب سؤال السائل الذي استشكل حياة العظام فإن أبي بن خلف أخذ عظما باليا ثم به إلى النبي ففته في يده فقال يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم فقال الله نعم ويبعثك ويدخلك النار فمأخذ الطهارة أن سبب تنجيس الميتة منتف في العظام فلم يحكم بنجاستها ولا يصح على اللحم لأن احتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة يختص به دون العظام كما أن لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت وهو حيوان كامل لعدم سبب التنجيس فيه فالعظم وهذا المأخذ أصح وأقوى من الأول وعلى هذا فيجوز بيع عظام الميتة إذا كانت من طاهر العين وأما من رأى نجاستها فإنه لا يجوز بيعها إذ نجاستها عينية قال ابن القاسم قال لا أرى أن تشتري عظام الميتة ولا تباع ولا أنياب الفيل ولا يتجر فيها ولا بأمشاطها ولا يدهن بمداهنها وكيف يجعل الدهن في الميتة ويمشط لحيته بعظام وهي مبلولة وكره أن يطبخ بعظام الميتة وأجاز مطرف وابن الماجشون بيع أنياب مطلقا وأجازه ابن وهب وأصبغ إن غليت وسلقت وجعلا ذلك دباغا لها
فصل
وأما تحريم بيع الخنزير فيتناول جملته وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة وتأمل كيف لحمه عند تحريم الأكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم فذكر اللحم تنبيها تحريم أكله دون ما قبله بخلاف الصيد فإنه لم يقل فيه وحرم عليكم لحم الصيد بل نفس الصيد ليتناول ذلك أكله وقتله وههنا لما حرم البيع ذكر جملته ولم يخص بلحمه ليتناول بيعه حيا وميتا
فصل
وأما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك على أي وجه ومن أي نوع كانت صنما أو وثنا أو صليبا وكذلك الكتب المشتملة على الشرك غير الله فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها وبيعها ذريعة إلى اقتنائها فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في والنبي لم يؤخر ذكرها لخفة أمرها ولكنه تدرج من الأسهل إلى ما هو أغلظ منه الخمر أحسن حالا من الميتة فإنها قد تصير مالا محترما إذا قلبها الله سبحانه خلا أو قلبها الآدمي بصنعته عند طائفة من العلماء وتضمن إذا أتلفت على عند طائفة بخلاف الميتة وإنما لم يجعل الله في أكل الميتة حدا اكتفاء الذي جعله الله في الطباع من كراهتها والنفرة عنها وإبعادها عنها بخلاف والخنزير أشد تحريما من الميتة ولهذا أفرده الله تعالى بالحكم عليه أنه رجس ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا ) الأنعام 145 فالضمير في قوله فإنه وإن كان إلى الثلاثة المذكورة باعتبار لفظ المحرم فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به أوجه أحدها قربة منه والثاني تذكيره دون قوله فإنها رجس والثالث أنه أتى وإن تنبيها على علة التحريم لتزجر النفوس عنه ويقابل هذه العلة ما في طباع الناس من استلذاذه واستطابته فنفى عنه ذلك وأخبر أنه رجس وهذا لا يحتاج إليه الميتة والدم لأن كونهما رجسا أمر مستقر معلوم عندهم ولهذا في القرآن نظائر ثم ذكر بعد تحريم بيع الأصنام وهو أعظم تحريما وإثما وأشد منافاة للإسلام بيع الخمر والميتة والخنزير