البحث
اتباعه صلى الله عليه وسلم في المقاصد دون الوسائل في المعاملات
الضابط الثاني:الأصل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الوسائل والمقاصد في العبادات، واتباعه صلى الله عليه وسلم في المقاصد دون الوسائل في المعاملات
الأصل في العبادات الاتباع في المقاصد والوسائل فنتوضأ تماما كما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ، ونصلي كما صلى، ونصوم عن المفطرات الخمس (الطعام، والشراب، والجماع، والاستمناء، والاستقاء)، ونزكي مالنا بنسبته التي زكاها أو أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الحج نعمل بقوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه السيوطي بسنده في جامعه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا عَني مَنَاسِكَكُمْ فَإِني لاَ أَدْرِي لَعَلي لاَ أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هٰذَا" (ج: 9 ، ص: 132 ) ، ولايجوز تغيير مواقيت الحج كما دعا إلى ذلك بعض المعاصرين، ولايجوز تغيير أنواع الكفارات ومقاديرها لأنها لايسعنا فيها إلا الاتباع.
ولا حرج في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في المقاصد دون الوسائل في بعض العبادات، ومن الشواهد على ذلك مايلي:
1. تطهير الفم بالفرشاة لا السواك: لا شك أن الأفضل دائما اتباع الهدي النبوي في استعمال السواك، لكن إذا حدث واستعمل المسلم أو المسلمة الفرشاة لا السواك فقد وصل إلى المقصد من هذه العبادة، وهو "مطهرة للفم"عن طريق الفرشاة بما يتحقق بعدم إيذاء الآخرين، والتخلص من الجراثيم التي تؤذي الإنسان، ويرجى أن يكون في ذلك مرضاة للرب واتباع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم . ولذا قال النووي: "وبأي شيء استاك بما يزيل التغير أجزأه ولو بخرقة خشنة لأنه به يحصل المقصود"، وأكد ذلك ابن قدامة المقدسي بقوله: "وإذا استاك بأصبعه أو خرقة فقد قيل لا يصيب السنة لأن الشرع لم يرد به، والصحيح أنه يصيب السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء". هذان الإمامان النووي الشافعي وابن قدامة الحنبلي يريان صحة التعبد في المقصد "إنقاء الفم وطهارته" دون الوسيلة "السواك".
2. زكاة الفطر: بين لها النبي صلى الله عليه وسلم إن لها مقصدين : طهرة للصائم وطعمة للمساكين، وفرضها النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر لكن فقهنا الإسلامي تناول هذه القضية بالأصلح لحاجة المساكين، فرأى الأحناف صحة إخراجها نقودا حيث تكون أنفع للمساكين؛ وتغنيهم عن ذل السؤال يوم العيد، وقد تكون حاجتهم إلى الكساء أو الدواء أو نفقات التعليم أو السكن أشد احتياجا من الطعام الذي قد يكون متوفرا لدى بعضهم. وفي بعض بلداننا حتى الآن يذهب المسلمون إلى التجار لشراء القمح مثلا أو الأرز ثم يلقونه في حجور الفقراء والمساكين الذين يقومون ببيع هذه الكميات الكبيرة بنصف ثمنها أحيانا إلى هؤلاء التجار، وبهذا تكون الزكاة طعمة للمستغلين والجشعين من التجار، وليس للمحتاجين من الفقراء والمساكين. فلا حرج اليوم أن نخرج زكاة الفطر نقودا وهذا يؤكد صحة الاجتهاد المقاصدي وإن تركت الوسائل التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم .
3. زيادة ركعات صلاة التراويح: لم يقف اجتهاد الصحابة عند حدود نقل صلاة التراويح من صلاة فردية إلى صلاة جماعية، بل زادوا عددها من ثمانية إلى عشرين في عهد سيدنا عمر ، وإلى ست وثلاثين في عهد سيدنا عثمان ، وقيل إلى ما فوق الأربعين في العصور التالية. وذلك حرصا على تحقيق مقصد هام وهو الإكثار من قراءة القرآن الكريم في القيام في شهر رمضان، وتم هذا في محضر الصحابة ولم نسمع من يرى ذلك ابتداعا في الدين.
4. إضافة أذان ثان قبل الجمعة: حيث إن المقصد من الأذان هو إعلام المصلين بدخول الوقت. وعليه فلم ير الصحابة بأسا من زيادة أذان ثان في "الزوراء" عندما اتسع العمران، ولم يعد الأذان في المسجد يصل إلى الناس. وذلك تحقيق لمقصد الإعلام بقرب دخول الوقت. والأصل الآن أن نستغني عن الأذان الأول مع وجود الساعات والمكبرات.
5. صلاة العصر في بني قريظة: لقد صدر من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة أمر قطعي الدلالة والثبوت: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" ولم يمنع ذلك من اجتهاد الصحابة في هذا النص القطعي فصلى بعضهم في الطريق لأنهم فهموا أن المقصد من الأمر ليس ظاهره وإنما مقصده، وهو الإسراع في مباغتة الخونة من بني قريظة، فصلوا في الطريق وبقي آخرون ملتزمين بظاهر النص، فصلوا العصر في بني قريظة بعد فوات وقته. لكن من أدبهم العالي وفقههم السامي أن أحدا لم يخاصم الآخر، ولم ينشغلوا بأمر فرعي عن هدف كلي وهو وحدة الصف ومواجهة الأعداء، وقد صوب النبي صلى الله عليه وسلم الفريقين بما يؤسس لقبول المدرستين، مدرسة المقاصد ومدرسة الظاهر، وقد أجاد ابن القيم في تحليل هذه الواقعة في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين بقوله: "أما الذين صلوا في الطريق فهم سلف أهل المعاني والقياس، وأما الذين صلوا في بني قريظة فهم سلف أهل الظاهر". والذي يبدوا لي يقينا أن الجماعات الإسلامية والتيارات الفكرية اليوم أحوج ماتكون إلى هذا المنهجية.
أما جوانب المعاملات فالأصل في الاتباع أن يكون في المقاصد لا الوسائل، وهذا يبدو من الأمور التالية:
(1) في الأمور الشخصية:
لاحرج عليك إذا أكلت من حلال طيب إن كان ذلك بيدك أو بملعقة أو شوكة، على الأرض أو الطاولة طالما أخذت بالواجب وهو الحلال الطيب وتركت المحرمات مثل الخمر والميتة ولحم الخنزير، وراعيت المندوبات مثل الأكل باليمين، وتركت المكروهات مثل الإسراف في أنواعه، أو الإفراط في تناوله، أو نسيان ذكر الله تعالى أوله وآخره. والبس ما شئت في غير ما سرف أو مخيلة كما نص الحديث، والمرأة تلبس الحجاب الشرعي بلبس عربي أو هندي، أو غربي المهم أن يُستر كل شيء ماعدا الوجه والكفين، أو تنتقب المرأة، والمهم ألا يصفّ أو يشفّ، والأصل أن نتكلم الكلام الحسن أو الأحسن بلغة عربية أو أردية أو إنجليزية أو تركية، وكما سبق لم يدخل الإسلام بلداً ليلغى عاداتهم في المطعم أو المشرب أو الملبس أواللغة، بل راعى المقاصد وترك الوسائل لأعراف الناس.
(2) في الحياة الأسرية:
أهم المقاصد الأسرية السعادة بين الزوجين، والاستمتاع والاشباع، وإنجاب الأبناء، والتقارب الاجتماعي، فإذا جئنا إلى الوسائل فلا حرج أن يتحمل الزوج عبء النفقة من حلال بالدينار أو الدرهم أو الدولار، ولاحرج من تحديد حجم مشاركة الزوجين في أعباء المنزل، فإن كانت عادتها أن تُخدم يأتي لها بخادمة أو يشاركها في الخدمة، ومن عادة قومها أن تخدم زوجها ساعدته في كل شئون حياته المنزلية على أنها مساعدة للوصول إلى السعادة وليس من باب خدمة الأمة لسيدها. ولاحرج من فنون تربية الأولاد على الوسائل الحديثة من ألعاب وكمبيوترات ومسلسلات وأناشيد طالما خلت من المحرمات والمكروهات.
(3) في الجانب الاجتماعي:
لابد من صلة الأرحام والإحسان إلى الجيران، والتكافل بين الأغنياء والفقراء، والترابط في الله تعالى وليس من أجل الاشتراك في اللغة أو اللون أو الثقافة، وسيادة مكارم الأخلاق، وتحقيق السلام والتعايش الاجتماعي، وهذا التواصل لا يشترط أن يكون فقط بوجه واحد من الوجوه التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم من الزيارة وتقديم الهدية، بل بالسؤال بالهاتف أو"الفاكس" أو البريد الإلكتروني أو العادي حسب الحالة، ونوع الهدية صار قطعا مختلفا، فلعب الأطفال، وشرائط الكمبيوتر والسي دي قد تكون هدايا نافعة ومؤثرة إذا كانت تؤصل المكارم عند الأولاد. ولامانع من وجود مؤسسات متخصصة في التكافل وإصلاح ذات البين وليس فقط من خلال شيخ القبيلة أو سيد القوم.
(4) في الجانب الاقتصادي:
يحرِّم الإسلام الربا، والغش، والغرر، والسرقة، والاختلاس وخيانة الأمانة، والطمع، والجشع، والتسول، ويحلُّ - بعد ذلك- جميع الوسائل التي يكسب الإنسان فيها مالا، سواء بطريقة المضاربة أو المشاركة أو الشركات المساهمة، سواء كانت شركات محلية أو عالمية، شركات توصية محدودة أو غير محدودة، ولا يشترط في البيع والشراء اليوم حدوث إيجاب وقبول لفظي كما كان شائعا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو القرون التالية، بل يكفي الإعلان عن ثمن السلعة وطلبك إياها أو حملها وتقديم الشيك أو كارت الضمان المالي، أو الشراء عن طريق الإنترنت، هذا هو القبول والمهم هو التراضي وعدم الغش، وأن تكون السلعة حلالا. ويصح اليوم فرض الضرائب – بعد أداء الزكاة – وذلك لكفاية المحتاجين وتقريب الهوة بين أبناء الأمة والدفاع عن المقدسات والحرمات، بل لاحرج من تكوين مال احتياطي في خزانة الدولة حرصا على استقرارها وقوتها.
(5) في الجانب السياسي:
من المقاصد وحدة الأمة، وإقامة العدل بين الناس، وتحقيق الشورى، وإشاعة الأمن، وحماية الأعراض والمقدسات والأموال، ونشر الإسلام في الأرض كلها، سواء كان قائد الأمة يسمى خليفة أو أميرا أو ملكا أو رئيسا أو زعيما، وسواء كان النظام السياسي فيدراليا أو كونفدراليا أو برلمانيا أو رئاسيا أو ملكيا، ولا يلزم أن نحارب الأعداء في يوم 17 رمضان لأن غزوة بدر الكبرى كانت فيه؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار مكانا للمعركة فيقترح الحباب بن المنذر صلى الله عليه وسلم مكانا آخر بعد أن تأكد أن الاتباع هنا في المقاصد "الحرب والمكيدة" وليس في الوسائل أن نجعل الماء بيننا وبين الأعداء، ولا يلزم أن نحفر حولنا خندقا إذا حاصرنا الأعداء، لأن الطائرات الحربية صارت تجوب الفضاء كله وترمي أغراضها حيث كانت في جزيرة أو بحر أو صحراء.
وقد أفادت الدولة الإسلامية الأولى من كل الوسائل المباحة التي تحقق هذه المقاصد سواء كانت لدى الفرس أو الروم أو الأحباش، فأدخلوا نظام الدواوين وصك العملة وفرضوا الضرائب "العشور" على التجار، ولم يجد عمر بن الخطاب بأسا في تغيير اسم الجزية إلى الزكاة على نصارى بني تغلب تحقيقا لمقصد سياسي شرعي وهو استيعاب غير المسلمين وتحقيق السلام الاجتماعي.
من هنا كان من الضروري دراسة السيرة والسنة النبوية قبل الاتباع؛ حتى نفهم هل الواجب اتباع المقاصد والأهداف مع الوسائل مثل العبادات أم اتباع المقاصد بأية وسائل مباحة وجديدة وحديثة، وعدم فهم هذه القضية وسع الخلاف بين جماعات إسلامية عاملة ومخلصة على الساحة العالمية، مما أدى إلى جعل الجهود المبذولة تعمل ضد بعضها في اتهام بالكفر أو الابتداع أو الفسوق، أو التحجر أو الغلو في الدين، ومن هنا كان العلم قبل العمل ضرورة حتى نعمل جميعا بروح الحب والتآخي، والتسامح والتغافر كما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه أجمعين فسادوا الأرض كلها، ونرجو أن نكون على منهجيتهم في الاتباع لا الابتداع.