البحث
الضابط الرابع: وسطية الاتباع بين الإفراط والتفريط
من روائع ما ذكره ابن القيم رحمه الله قوله في مدارج السالكين (2/107) تحت عنوان: فساد الاتباع في الإفراط والتفريط: "والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا، وهما: الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة، فإنّ الشيطان يشمّ قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضًا عن كمال الانقياد للسنّة أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصًا على السنّة وشدّة طلب لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حدّ الاقتصاد فيها قائلاً له: إنّ هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم...".
والحق أننا أحوج ما نكون قبل أي وقت مضى إلى هذه الوسطية في الاتباع التي ذكرها ابن القيم، ومن شواهد واقعنا بين الإفراط والتفريط في الاتباع مايلي:
1. هناك تفريط من البعض في عدم إطلاق لحيتهم، معتبرا أنها أمر شكلي ليس من جوهر الشريعة، مع عدم وجود أية ضغوط أمنية لحلقها، وعلى الجانب الآخرهناك إفراط ممن جعل معيار الإخاء والإمامة طول اللحية. فقد يكون للمسلم غير ذي اللحية مع تقصيره من ألوان الخير ومنع الشر وأعمال البر ما يفوق غيره، والله يقول: " فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى " [النجم : 32].
2. هناك من أهملوا الصلاة في المسجد وإقامة السنن الراتبة؛ مما يجعل أداء الفرائض معرضا لخلل قلبي حقيقي، حيث إن هذا يجعل الفرائض غير محصنة بالنوافل أمام نزغات الشيطان كما يصفها الإمام الغزالي في الإحياء. وعلى الجانب الآخر هناك من أطالوا المكث في المسجد بعد إقامة الفرائض وتركوا التفوق العلمي والإصلاح الاجتماعي والإنتاج المحلي حتى نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع متناسين أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.
3. هناك من كتب يهاجم الحجاب ويزدري النقاب ويزعم أن القرآن والسنة لم يفرضا على المرأة لبسا معينا، وأمام هذا التفريط المذهل هناك إفراط مخل في اعتبار النقاب وحده الفريضة، وأن الوجه والكفين عورة، وقد تترك المدرِّسة المنتقبة وظيفتها فصلا أو اختيارا تاركة البنات لمدرسات دونها في الحميّة والغيرة والخبرة في تربية النشء، وتترك هؤلاء - من أجل النقاب - نهبا لمناهج علمانية ومدرسات أفئدتهن وعقولهن خواء وتعيش في عزلة نفسية واجتماعية فيتضاءل دورها الدعوي - وهو فريضة- في إنقاذ أخواتها المسلمات من القصف الإعلامي المتحلل.
هذه مجرد شواهد واقعية تنم عن خلل في منهجية اتباع النبي صلى الله عليه وسلم مما يعرض الإنسان لمصائد الشيطان كما ذكر ابن القيم في إخراج المسلم عن صبغة الرحمن إلى البدع أو الاهتمام بالسنن على حساب الواجبات أو ضياع التوازن وإدراك فقه الأولويات.
الخلاصة
1. إذا أردنا سعادة الدنيا ونعيم الآخرة فنحتاج بحق إلى مضاعفة حبنا لنبيا صلى الله عليه وسلم لأنه أحب خلق الله إلى الله، ثم معرفة مكارم أخلاقه ومعجزاته وشدة حبه لنا ليتأسس اتباعنا له على قاعدة قلبية عقلية راسخة.
2. من منهجية الاتباع مراعاة الفرق بين السنن التقريرية والفعلية والتركية والتقريرية، حيث تتناولها الأحكام التكليفية الخمسة: وجوب الاتباع، أو الاستحباب، أو الإباحة، أو الكراهة، أو الحرمة. ومنها ما يفيد مراعاة التخفيف، وفقه الأولويات والمآلات عند الاجتهاد الصحيح.
3. الأصل اتباع النبي في العبادات، في الوسائل والمقاصد معا، ويصح استثناءً تغيير الوسائل للحفاظ على المقاصد، لكن الأصل في المعاملات أن الاتباع في المقاصد دون الوسائل.
4. في الاتباع يلزم منهجيا التفرقة بين تصرف النبي صلى الله عليه وسلم كرسول أو إمام أو قاضٍ حتى لا تتحول بعض الجماعات إلى دول ذات سيادة داخل الدولة، ولا تتصرف الدول كأنها جماعات مستضعفة في النظام العالمي المستكبر، فيعرف كل مساحة صلاحياته وفقا لهذه المنهجية في الاتباع.
5. ليس مقبولا إهمال السنن والآداب النبوية استخفافا بها وزهدا فيها وغفلة عن عظم أجرها، كما لا تصح المبالغة في اتباع السنن بما يضيع الفرائض لأن الله تعالى لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.