البحث
الضابط الثالث: التفرقة بين تصرف النبي رسولا أو إماما أو قاضيا
قد يغيب عن ذوي العلم السطحي أن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بعد إقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة صار له بعدان آخران إضافة إلى كونه رسولا أنه قد صار إماما وقاضيا، مما يوجب في منهجية الاتباع التفرقة بين اتباعه كرسول أو إمام أو قاض، فلا يجوز لأي مسؤول في أي هيئة خيرية أو جماعة إسلامية أن تقوم بإقامة الحدود وفرض الضرائب وجباية الزكوات من عموم الناس إلزاماً، مما لايجوز إلا للدولة والحكومة والقضاة. وأذكر في ذلك أن شابا أمريكيا لقيته في أحد المراكز الإسلامية التي زرتها قال لي: إنه بعد أن أسلم ارتكب جريمة الزنا فجلده الأمير أمام جماعته، فلما استوثقت من صحة كلامه قال: إذا أردت أن أكشف لك عن ظهري فعلت!.
ومما يؤسفني في هذا أن هناك جماعات إسلامية تتصرف داخل دولها كأنها دولة حاكمة داخل الدولة، ومما يؤسفني أكثر أن هناك دولا تتصرف كأنها جماعات مستضعفة في النظام العالمي الجديد. وأضيف أنه إذا جاز في الشريعة والقانون لأية شركة أو مؤسسة أو هيئة أو جماعة أو حزب أن يكون بداخلها نظام التحكيم لحل المنازعات فلا يجوز لأي منها أن يعين قضاة يحكمون على الناس داخلها أو خارجها لأن ذلك مما لايجوز فعله إلا من خلال الدولة؛ ولو جاز لعيّن النبي قضاة في مرحلة الاستضعاف في مكة لمحاكمة قتلة سمية وعمار والطغاة الذين ظلموا وعذبوا المستضعفين من المؤمنين، أو لحرك فرسان الصحابة للقيام باغتيال قيادات الكفار في مكة لكنه لم يفعل شيئا من ذلك إلا بعد بناء الدولة في المدينة المنورة. وإذا أردنا أن نحرر هذه القضية فلن نجد خيرا من الإمام القرافي الحنبلي من تحقيق شرعي في الفرق السادس والثلاثين من كتابه القيّم "أنواع البروق في أنواع الفروق". والحق أن كل من كتب بعده في هذه النقطة يعدون عيالا عليه، نقلة منه سواء نسبوه إليه أم لا! أما ما طرحه الإمام القرافي فيمكنني تلخيصه فيما يلي:
1. تصرف النبي صلى الله عليه وسلم كرسول هو الأصل في كل ما قال من باب التبليغ والفتوى مثل العبادات ، والزكوات وأنصبائها والديات ومقاديرها والكفارات وأحكامها.
2. تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة مثل قول الإمام القرافي: "بَعْثُ الْجُيُوشِ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ وَالْخَوَارِجِ وَمَنْ تَعَيَّنَ قِتَالُهُ وَصَرْفُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فِي جِهَاتِهَا وَجَمْعُهَا مِنْ مَحَالِّهَا وَتَوْلِيَةُ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ الْعَامَّةَ وَقِسْمَةُ الْغَنَائِمِ وَعَقْدُ الْعُهُودِ لِلْكُفَّارِ ذِمَّةً وَصُلْحًا هَذَا هُوَ شَأْنُ الْخَلِيفَةِ وَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ"، وذكر أنه لايجوز لأحد أن يقوم بذلك إلا إذا كان إماما أو حاكما أو مسئولا أو مفوضا في التصرف منهم. ومن ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب عندما همّ كإمام أن يفاوض بعض القادة الكفار من بني غطفان أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة ويرجعوا بقومهم عن مداهمة المدينة، فيستفاد من ذلك في المقصد الأعلى السعي لإعلاء كلمة الله ، والتمكين للإسلام، وتحقيق العدل، وتبليغ الرسالة لكل إنسان.
3. تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وذلك فيما يتعلق "بالفصلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي دَعَاوَى الْأَمْوَالِ أَوْ أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ وَنَحْوِهَا بِالْبَيِّنَاتِ أَوْ الْإِيمَانِ وَالنُّكُولَاتِ وَنَحْوِهَا". ومن الأمثلة التي ساقها القرافي تأكيداً لذلك مايلي:
• "قَوْلُهُ تعالى : "مَنْ أَحْيَى أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ" (سنن الترمذي، ص1379) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ هَلْ هذا تُصْرَفٌ بِالْفَتْوَى فَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ أذْنَ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ أَمْ لَا؟ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَوْ هُوَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِمَامَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؟ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ."
• "قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي وَوَلَدِي مَا يَكْفِينِي فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ: "خُذِي لَك وَلِوَلَدِك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ" (الجامع الصحيح، رقم 5364)، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ ظَفِرَ بِحَقِّهِ أَوْ بِجِنْسِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ عِلْمِ خَصْمِهِ بِهِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ خِلَافُهُ بَلْ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ هُوَ تَصَرُّفٌ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ أَوْ حَقَّهُ إذَا تَعَذَّرَ أَخْذُهُ مِنْ الْغَرِيمِ إلَّا بِقَضَاءِ قَاضٍ؟".
وقد رجح الإمام القرافي - ونحن معه- أن هذا الحديث من تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الفتوى لا القضاء، حيث إن أبا سفيان كان في المدينة ولم يرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه ليسمع حجته في ذلك كأصل من أصول القضاء.
والعجيب أن الإمام القرافي ختم هذا الباب بقوله "تأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية" وإنني أدعو كل المخلصين لربهم والمحبين لنبيهم صلى الله عليه وسلم أن يقبلوا دعوة الإمام القرافي الحنبلي في التأمل أولا، واعتبار ذلك من الأصول الشرعية ثانيا.