البحث
مقدمات النبوة وسر الوجود
مقدمات النبوة وسر الوجود
أن هذه الحالة الفكرية التأملية التعبدية التي عاشها الرسول - عليه السلام - كانت عملياً المقدمة للنبوة ، فالبحث عن الحقيقة في شؤون الحياة ، وواقع العرب ، ومسائل الدين لا بد أن يقود إلى معرفة الحقيقة ، وان يقترب الإنسان أكثر فأكثر من خالقه ، خاصة ، وأنه كان على موعد مرتقب مع الوحي الإلهي . . . . يقول توماس كارليل في هذا الصدد :
(( لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه - كما قلت - بأهواله ومخاوفه وروانقه ومباهرة ، لم يك هناك من الأباطيل ، ما يحجب ذلك عنه ، فكان لسان حال ذلك السر الهائل يناجيه : « هأنذا » . فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى الهي مقدس ، و ما كلمة مثل هذا الرجل الا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة ، فإذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية ، وكل القلوب واعية ، وكل كلام ما عدا ذلك هباء وكل قول جفاء ، وما زال منذ الأعوام الطوال ، منذ أيام رحله وأسفاره ، يجول بخاطره آلاف من الأفكار : ماذا أنا ؟ وما ذلك الشيء ، العديم النهاية الذي أعيش فيه ، والذي يسميه الناس كوناً ؟ وما هي الحياة ؟ وما هو الموت ؟ وماذا أعتقد ؟ وماذا أفعل ؟ فهل أجابته على ذلك صخور جبل حراء ، أو شماريخ طود الطور ، أو تلك القفار والفلوات ؟ كلا ولا قبة الفلك الدوار، واختلاف الليل والنهار ، ، ولا النجوم الزاهرة والأنواء الماطرة . لم يجبه لا هذا ولا ذاك ، وما للجواب عن ذلك إلا روح الرجل وألا ما أودع الله فيه من سره .
وهذا ما ينبغي لكل إنسان أن يسأل عنه نفسه ، فقد أحس ذلك الرجل القفري أن هذه هي كبرى المسائل وأهم الأمور ، وكل شيء عديم الأهمية في جانبها ، وكان لم إذا بحث عن الجواب في فرق اليونان الجدلية ، أو في روايات اليهود المبهمة ، أو نظام وثنية العرب الفاسدة ، لم يجده . وقد قلت إن أهم خصائص البطل ، وأول صفاته وأخرها ، هي أن ينظر من خلال الظواهر إلى البواطن ، فأما العادات والاستعمالات والاعتبارات والاصطلاحات ، فينبذها حميدة كانت أو رديئة . وكان يقول في نفسه : ( هذه الأوثان التي يعبدها القوم لا بد من أن يكون وراءها ودونها شيء ما هي لم إلا رمز له وإشارة إليه ، وألا فهي باطل وزور ، وقطع من الخشب لا تضير ولا تنفع ) .
وما لهذا الرجل والأصنام ، وأنى تؤثر في مثله أوثان ولو رصعت بالنجوم لا بالذهب ، ولو عبدها الجحاجح من عدنان والأقيال من حمير، أي خير له في هذه ولو عبدها الناس كافة ؟ إنه في وادٍ وهم في واد، هم يعمهون في ضلالهم ، وهو ماثل بين يدي الطبيعة قد سطعت لعينيه الحقيقة الهائلة ، فإما أن يجيبها و إلا فقد حبط سعيه ، وكان من الخاسرين. فلتجبها يا محمد، أجب ، لابد من أن توجد الجواب ، أيزعم الكاذبون أنه الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وأثاره ؟ حمق وأيم الله ، وسخافة وهوس، أي فائدة لمثل هذا الرجل في جميع بلاد العرب ، وفي تاج قيصر وصولجان كسرى، وجميع ما بالأرض من تيجان وصوالجة ، وأين تصير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حين من الدهر، أفي مشيخة مكة ، وقضيب مفضض الطرف ، أو في ملك كسري و تاج ذهبي الذؤابة منجاة للمرء ومظفرة ؟ كلا، إذن فلنضرب صفحاً عن مذهب الجائرين القائل أن محمداً كاذب ونعد مواقفهم عاراً وسبة » وسخافة وحمقأ» فلنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع )) .
[1] توماس كارليل : الإبطال ، ص 69-70.