1. المقالات
  2. رسول الله في القرآن
  3. (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ .....) (المائدة : 41-50

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ .....) (المائدة : 41-50

8015 2007/11/12 2024/12/21

 والآن مع تفسير الآيتين الكريمتين التين نادى فيهما رب العالمين النبي خاتم المرسلين بقوله : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ... )

1*(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لَقََوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ *وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ *أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * ) (المائدة : 41-50 )


قال السعدي رحمه الله :
ققوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لَقََوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
كان الرسول محمد  ـ من شدة حرصه على الخلق ـ يشتد حزنه لمن يُظهر الإيمان ، ثم يرجع إلى الكفر . فأرشده الله تعالى إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء . فإن هؤلاء ، لا في العير ولا في النفير . إن حضروا لم ينفعوا ، وإن غابوا لم يفقدوا . ولهذا قال ـ مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم ـ فقال : " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " فإن الذين يؤسى ويحزن عليهم ، من كان معدودا من المؤمنين ، ظاهرا وباطنا . وحاشا لله ، أن يرجع هؤلاء عن دينهم ، ويرتدوا ، فإن الإيمان ـ إذا خالطت بشاشته القلوب ـ لم يعدل به صاحبه غيره ، ولم يبغ به بدلا .
" ومن الذين هادوا " أي : اليهود " سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " أي : مستجيبون ومقلدون لرؤوسائهم المبني أمرهم على الكذب ، والضلال ، والغي . وهؤلاء الرؤوساء المتبعون " لم يأتوك " بل أعرضوا عنك وفرحوا بما عتدهم من الباطل . " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " أي : يجلبون معاني للألفاظ ، ما أرادها الله ، ولا قصدها ، لإضلال الخلق ، ولدفع الحق . فهؤلاء المنقادون ، للدعاة إلى الضلال ، المتبعين للمحال ، الذين يأتون بكل كذب ، لا عقول لهم ولا همم . فلا تبال أيضا ، إذا لم يتبعوك ، لأنهم في غاية النقص ، والناقص لا يؤبه له ، ولا يبالى به .

 " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " أي : هذا قولهم عند محاكمتهم إليك ، لا قصد لهم ، إلا اتباع الهوى . يقول بعضهم لبعض : إن حكم لكم محمد بهذا الحكم ، الذي يوافق هواكم ، فاقبلوا حكمه . وإن لم يحكم لكم به ، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك . وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس . " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا "كقوله تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء "" أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " أي : فلذلك صدر منهم ما صدر . فدل ذلك ، على أن من كان مقصوده بالتحاكم ، إلى الحكم الشرعي ، اتباع هواه ، وأنه إن حكم له رضي ، وإن لم يحكم له ، سخط ، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه . كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ، ورضي به ، وافق هواه أو خالفه ، فإنه من طهارة القلب . ودل على أن طهارة القلب ، سبب لكل خير ، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد ، وعمل سديد . " لهم في الدنيا خزي " أي : فضيحة وعار " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " هو : النار ، وسخط الجبار .


 
قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ*)
 
" سماعون للكذب " والسمع ههنا ، سمع استجابة أي : من قلة دينهم وعقلهم ، أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب .
" أكالون للسحت " أي : المال الحرام ، بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم ، من المعلومات والرواتب ، التي بغير الحق . فجمعوا بين اتباع الكذب ، وأكل الحرام . " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فأنت مخير في ذلك . وليست هذه منسوخة ، فإنه ـ عند تحاكم هذا الصنف إليه ـ يخير بين أن يحكم بينهم ، أو يعرض عن الحكم بينهم ، بسبب أنه ، لا قصد لهم في الحكم الشرعي ، إلا أن يكون موافقا لأهوائهم . وعلى هذا ، فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم ، يعلم من حاله ، أنه ، إن حكم عليه ، لم يرض ، لم يجب الحكم ، ولا الإفتاء لهم . فإن حكم بينهم ، وجب أن يحكم بالقسط ، ولهذا قال : " وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " . حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء ، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم . وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس ، وأن الله تعالى يحبه . ثم قال متعجبا منهم : " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين " . فإنهم ـ لو كانوا مؤمنين عاملين بما يقتضيه الإيمان ويوجبه ـ لم يصدفوا عن حكم الله الذي في التوراة ، التي بين أيديهم ، إلا لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم . وحين حكمت بينهم بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا ، لم يرضوا بذلك ، بل أعرضوا عنه ، فلم يرتضوه أيضا . قال تعالى : " وما أولئك " الذين هذا صنيعهم " بالمؤمنين " أي : ليس هذ دأب المؤمنين ، وليسوا حريين بالإيمان . لأنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم ، وجعلوا أحكامَ الإيمان تابعةً لأهوائهم .
 
قوله تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)

 

 


 
" إنا أنزلنا التوراة " على موسى بن عمران ، عليه الصلاة والسلام . " فيها هدى " يهدي إلى الإيمان والحق ، ويعصم من الضلالة . " ونور " يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك ، والشبهات ، والشهوات . كما قال تعالى : " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين "......" يحكم بها " بين الذين هادوا ، أي : اليهود في القضايا والفتاوى "النبيون الذين أسلموا " لله ، وانقادوا لأوامره ، الذين إسلامهم ، أعظم من إسلام غيرهم ، صفوة الله من العباد . فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام ، والسادة للأنام ، قد اقتدوا بها ، وائتموا ، ومشوا خلفها ، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود ، من الاقتداء بها ؟ وما الذي أوجب لهم ، أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن ، إلا بتلك العقيدة ؟ هل لهم إمام في ذلك ؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف ، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس ، والتأكل بكتمان الحق ، وإظهار الباطل ، أولئك أئمة الضلال ، الذين يدعون إلى النار . وقوله : " الربانيون والأحبار " أي : وكذلك يحكم بالتوراة الذين هادوا أئمة الدين من الربانيين أي : العلماء العاملين المعلمين ، الذين يربون الناس بأحسن تربية ، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين . والأحبار أي : العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم ، وترمق آثارهم ، ولهم لسان الصدق بين أممهم . وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق " بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " أي : بسبب أن الله استحفظهم على كتابه ، وجعلهم أمناء عليه ، وهو أمانة عندهم ، أوجب عليهم حفظه ، من الزيادة والنقصان والكتمان ، وتعليمه لمن لا يعلمه . وهم شهداء عليه ، بحيث إنهم المرجوع إليهم فيه ، وفيما اشتبه على الناس منه . فالله تعالى قد حمل أهل العلم ، ما لم يحمله الجهال ، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا . وأن لا يقتدوا بالجهال ، في الإخلاد إلى البطالة والكسل .

 

 

 

 

 

 وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة ، من أنواع الذكر ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، ونحو ذلك من الأمور ، التي إذا قام بها غير أهل العلم ، سلموا ونجوا . وأما أهل العلم ، فكما أنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه ، من أمور دينهم ، خصوصا الأمور الأصولية ، والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم ولهذا قال : " فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " فتكتموا الحق ، وتظهروا الباطل ، لأجل متاع الدنيا القليل . وهذه الآفات ، إذا سلم منها العالم ، فهو من توفيقه . وسعادته بأن يكون همه ، الاجتهاد في العلم والتعليم ، ويعلم ، أن الله قد استحفظه بما أودعه من العلم ، واستشهده عليه وأن يكون خائفا من ربه . ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم ، من القيام بما هو لازم له . وأن لا يؤثر الدنيا على الدين . كما أن علامة شقاوة العالم ، أن يكون مخلدا للبطالة ، غير قائم بما أمر به ، ولا مبال بما استحفظ عليه . قد أهمله وأضاعه ، قد باع الدين بالدنيا ، قد ارتشى في أحكامه ، وأخذ المال على فتاويه ، ولم يعلم عباد الله ، إلا بأجرة وجعالة . فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة ، كفرها ، ودفع حظا جسيما ، حرم منه غيره . فنسألك اللهم ، علما نافعا ، وعملا متقبلا ، وأن ترزقنا العفو والعافية ، من كل بلاء ، يا كريم . " ومن لم يحكم بما أنزل الله " من الحق المبين ، وحكم بالباطل الذي يعلمه ، لغرض من أغراضه الفاسدة " فأولئك هم الكافرون " . فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر ، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة . وذلك إذا اعتقد حله وجوازه . وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ، ومن أعمال الكفر ، قد استحق من فعله ، العذاب الشديد .
 
قوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
 
 " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " هذه الأحكام من جملة الأحكام التي في التوراة ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا ، للذين هادوا ، والربانيون ، والأحبار . فإن الله أوجب عليهم ، أن النفس ـ إذا قتلت ـ تقتل بالنفس بشرط العمد والمكافأة . والعين ، تقلع بالعين ، والأذن تؤخذ بالأذن ، والسن ينزع بالسن . ومثل هذه ما أشبهها من الأطراف التي يمكن الاقتصاص منها بدون حيف . " والجروح قصاص " والاقتصاص : أن يفعل به كما فعل . فمن جرح غيره عمدا ، اقتص من الجارح جرحا ، مثل جرحه للمجروح ، حدا ، وموضعا ، وطولا ، وعرضا وعمقا . وليعلم أن شرع من قبلنا ، شرع لنا ، ما لم يرد شرعنا بخلافه . " فمن تصدق به " أي : بالقصاص في النفس ، وما دونها من الأطراف والجروح ، بأن عفا عمن جنى ، وثبت له الحق قبله ." فهو كفارة له " أي : كفارة للجاني ، لأن الآدمي عفا عن حقه . والله تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه . وكفارة أيضا عن العافي ، فإنه كما عفا عمن جنى عليه ، أو عمن يتعلق به ـ فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته . " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " قال ابن عباس ، كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . فهو ظلم أكبر ، عند استحلاله ، وعظيمة كبيرة عند فعله ، غير مستحل له .
 

 

 

 

قوله تعالى : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ *وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
 
أي : وأتبعنا هؤلاء الأنبياء والمرسلين ، الذين يحكمون بالتوراة ، بعبدنا ورسولنا ، عيسى بن مريم ، روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم . بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة ، فهو شاهد لموسى ، ولما جاء به من التوراة ، بالحق والصدق ، ومؤيد لدعوته ، وحاكم بشريعته ، وموافق له في أكثر الأمور الشرعية . وقد يكون عيسى عليه السلام أخف في بعض الأحكام ، كما قال تعالى عنه أنه قال لبني إسرائيل : " ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم "....." وآتيناه الإنجيل "
 الكتاب العظيم ، المتمم للتوراة . " فيه هدى ونور " يهدي إلى الصراط المستقيم ، ويبين الحق من الباطل . " ومصدقا لما بين يديه من التوراة " بتثبيتها والشهادة لها ، والموافقة . " وهدى وموعظة للمتقين "  فإنهم الذين ينتفعون بالهدى ، ويتعظون بالمواعظ ، ويرتدعون عما لا يليق . " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه " أي : يلزمهم التقيد بكتابهم ، ولا يجوز لهم العدول عنه ." ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون "
 
قوله تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ *أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
 
 

 

 

 

يقول تعالى : " وأنزلنا إليك الكتاب " الذي هو القرآن العظيم ، أفضل الكتب وأجلها . " بالحق " أي : إنزالا بالحق ، ومشتملا على الحق ، في أخباره ، وأوامره ، ونواهيه . " مصدقا لما بين يديه من الكتاب " ، لأنه شهد للكتب السالفة ، ووافقها ، وطابقت أخباره أخبارها ، وشرائعه الكبار شرائعها ، وأخبرت به ، فصار وجودها مصداقا لخبرها . " ومهيمنا عليه " أي : مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة ، وزيادة في المطالب الإلهية ، والأخلاق النفسية . فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به ، وحث عليه ، وأكثر من الطرق الموصلة إليه . وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين . وهو الكتاب الذي فيه الحكم ، والحكمة ، والأحكام ، الذي عرضت عليه الكتب السابقة . فما شهد له بالصدق ، فهو المقبول ، وما شهد له بالرد ، فهو مردود ، قد دخله التحريف والتبديل . وإلا ، فلو كان من عند الله ، لم يخالفه . " فاحكم بينهم بما أنزل الله " من الحكم الشرعي ، الذي أنزله الله عليك . " ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق "
 أي : لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق ، بدلا عما جاءك من الحق ، فتستبدل الذي هو أدنى ، بالذي هو خير
" لكل جعلنا منكم " أيه الأمم " شرعة ومنهاجا " أي : سبيلا وسنة . وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم ، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال ، وكلها ترجع إلى العدل ، في وقت شرعتها . وأما الأصول الكبار ، التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان ، فإنها لا تختلف ، فتشرع في جميع الشرائع . " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " تبعا لشريعة واحدة ، لا يختلف متأخرها ولا متقدمها . " ولكن ليبلوكم في ما آتاكم " فيختبركم ، وينظر كيف تعملون ، ويبتلى كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته ، ويؤتى كل أحد ما يليق به ، وليحصل التنافس بين الأمم . فكل أمة تحرص على سبق غيرها ، ولهذا قال : " فاستبقوا الخيرات " أي : بادروا إليها ، وأكملوها ، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب ، من حقوق الله ، وحقوق عباده ، لا يصير فاعلها سابقا لغيره ، مستوليا على الأمر ، إلا بأمرين : المبادرة إليها ، وانتهاز الفرصة ، حين يجيء وقتها ، ويعرض عارضها ، والاجتهاد في أدائها ، كاملة على الوجه المأمور به . ويستدل بهذه الآية ، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها ، في أول وقتها . وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزي في الصلاة وغيرها من العبادات ، من الأمور الواجبة . بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات ، التي يقدر عليها ، لتتم وتكتمل ، ويحصل بها السبق . " إلى الله مرجعكم جميعا " الأمم السابقة واللاحقة ، كلهم سيجمعهم الله ، ليوم لا ريب فيه . " فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " من الشرائع والأعمال . فيثيب أهل الحق والعمل الصالح ، ويعاقب أهل الباطل ، والعمل السيء ." وأن احكم بينهم بما أنزل الله " هذه الآية هي التي قيل : إنها ناسخة لقوله : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " . والصحيح : أنها ليست بناسخة ، وأن تلك الآية تدل على أنه   مخير بين الحكم بينهم ، وبين عدمه ، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق . وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم ، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله ، من الكتاب والسنة . وهو القسط الذي تقدم أن الله قال :

 

 

 

" وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " . ودل هذا ، على بيان القسط ، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط ، وما خالف ذلك ، فهو جور وظلم . " ولا تتبع أهواءهم " كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها . ولأن ذلك ، في مقام الحكم والفتوى ، وهو أوسع ، وهذا في مقام الحكم وحده . وكلاهما ، يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم ، المخالفة للحق ، ولهذا قال : " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " أي : إياك والاغترار بهم ، وأن يفتنوك ، فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك . فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب ، والفرض اتباعه . " فإن تولوا " عن اتباعك ، واتباع الحق " فاعلم " أن ذلك عقوبة عليهم و " أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم "فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة . ومن أعظم العقوبات ، أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول ، وذلك لفسقه . " وإن كثيرا من الناس لفاسقون " أي : طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله ." أفحكم الجاهلية يبغون " أي : أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك ، حكم الجاهلية . وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله . فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية . فمن أعرض عن الأول ، ابتلى بالثاني المبني على الجهل ، والظلم ، والغي ، ولهذا أضافه الله للجاهلية . وأما حكم الله تعالى ، فمبني على العلم ، والعدل ، والقسط ، والنور ، والهدى . " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " فالموقن،هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز ـ بإيقانه ـ ما في حكم الله ، من الحسن والبهاء ، وأنه يتعين ـ عقلا وشرعا ـ اتباعه . واليقين ، هو : العلم التام ، الموجب للعمل ….
 
 

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day