البحث
[23] أسلوب المحاورة والإقناع العقلي
تختلف عقول الناس ومداركهم منحيث الفهم ، وسرعة الاستجابة. ويختلف الناس أيضاً من حيث الانقياد والتسليم لشرع الله أمره ونهيه ، فمنهم من لا يقنع بالدليل إلا إذا ظهرت له الحكمة من ذلك التشريع ، ومنهم من يكفيه الدليل ويقف عنده .
والتلاميذ عموماً فيهم من ذلك الشيء الكثير ، فمنهم من لا ترضيه بعض القواعد والأسس التي اصطلح عليها العلماء إلا إذا تبين له وجه الحكمة من ذلك . ومنهم من لا يحصل له الفهم الكامل إلا بعد أن تختصر له هذه القاعدة أو هذه المسألة ، وتعرضها عليه بأسلوب الحوار والإقناع. ولعلنا نجلي ما سبق بما يلحق :
1- أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : إن شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله أئذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا : مه مه ! فقال : ادنه ، فدنا منه قريباً قال : فجلس ، قال : أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك ، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، قال : أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك ، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم ، قال : أفتحبه لأختك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك ، قال : لا الناس يحبونه لأخواتهم ، قال أفتحبه لعمتك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك ، قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم ، قال : أفتحبه لخالتك ؟ : لا والله جعلني الله فداءك ، قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم ، قال : فوضع يده عليه وقال : اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء .
ففي هذا الحديث نلمس عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن تعليمه وتعامله في هذا الموقف . فهذا شاب يعلم ما ذا يعني ( الزنا) ولذلك قال يارسول الله ائذن لي بالزنا! ولا يخفى موقف الصحابة وغيرتهم الشديدة على دين الله رضي الله عنهم وأرضاهم ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعامل ذلك الشاب بالزجر كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم ، ولا قال له إن الله حرم الزنا ورتب على ذلك وعيداً شديداً . كل ذلك لم يفعله صلى الله عليه وسلم لأن هذه الأمور مستقرة لدى الشاب ومعلومة لديه . إذاً ، كان العلاج النبوي بالمحاورة والإقناع العقلي هو أنجع وسيلة لمثل هذه الحالة ، فتأمل هذه الوسيلة في التعليم يتبين لك عظمة المعلم الأول صلى الله عليه وسلم .
1- أورد البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله ولدلي غلام أسود ، فقال هل لك من أيل ؟ قال نعم ، قال ما ألوانها ؟ قال حمر قال : هل فيها من أورق قال نعم ، قال فأني ذلك قال : نزعه عرق قال : فعل انبك هذا نزعه .
فهذا الرجل أول الأعرابي جاء سائلاً مستفتياً مستنكراً أن يأتيه ولد أسود على خلاف لونه أمه ، فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم بأسلوب عقلي سهل وميسور ، وحاوره وضرب له مثالً من بعض ما يملكه هذا الأعرابي ليكون أقرب إلى فهمه ، حيث سأله عن إبله وهل يأتي منها ما هو مخالف لأبويه في الشكل والصفة ، فقال نعم : عندئذ أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك حاصل في البشر أيضاً . فانظر رعاك الله كيف حاوره النبي صلى الله عليه وسلم وقرره بأسلوب عقلي بسيط وواضح . ولقد كان من الممكن أن يخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا ابنه ، وهذا بحد ذاته كاف ، لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، ولكن لما علم الرسول صلى الله عليه وسلم حال الأعرابي وجهله ، أراد بهذا التقرير أن يكون ذلك حكماً عاماً لذلك الأعرابي ولمن خلفه والله أعلم .
2- عن ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج ، أفأحج عنها ؟ قال : نعم ، حجي عنها ، أرأيت لم كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم . قال : فاقضوا الذي له : فإن الله أحق بالقضاء .
الخلاصة :
1) استخدام الأسلوب العقلي في الإقناع وسيلة جيدة تضمن وصول المعلومة إلى ذهن السامع ، على ما أراه المتحدث .
2) مراعاة البساطة في المحاورة العقلية ، وإشراك التلميذ في المحاورة لكي يحصل التفاعل .
3) تقريب ( المحاورة العقلية ) إلى أدنى شيء ممكن أن يحسه أو يعقله التلميذ ، كقصة الأعرابي الذي جاءه ولد أسود ، فضرب له الرسول صلى الله عليه وسلم مثالاً من أقرب الأشياء إليه وهي إيله .
مراعاة حال السامح ، وهل هو ممن تؤثر فيه الأدلة العقلية أم لا .