البحث
غزوة الأحزاب
عاد الأمن والسلام ، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروب والبعوث التي استغرقت أكثر من سنة كاملة ، إلا أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقوا ألواناً من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم ـ لم يفيقوا من غيهم ، ولم يستكينوا ، ولم يتعظوا بما أصابهم من نتيجة الغدر والتآمر . فهم بعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين من خلال المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين والوثنيين ، ولما تحول مجرى الأيام لصالح المسلمين ، وتمخضت الليالي والأيام عن بسط نفوذهم ، وتوطد سلطانهم ـ تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق .
وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين ، وأخذوا يعدون العدة ، لتصويب ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها . ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأة على قتال المسلمين مباشرة ، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة .
خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة ، يحرضونهم على غزو الرسول(صلى الله عليه وسلم) ، ويوالونهم عليه ، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم ، فأجابتهم قريش ، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر ، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها .
ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان ، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك ، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب ، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين .
وعلى إثر ذلك خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة ـ وقائدهم أبو سفيان ـ في أربعة آلاف ، ووافاهم بنو سليم بمَرِّ الظَّهْرَان ، وخرجت من الشرق قبائل غطفان : بنو فَزَارة ، يقودهم عُيينَة بن حِصْن ، وبنو مُرَّة، يقودهم الحارث بن عوف ، وبنو أشجع ، يقودهم مِسْعَر بن رُحَيلَةِ ، كما خرجت بنو أسد وغيرها .
واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه .
وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل ، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ .
ولو بلغت هذه الأحزاب والمحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطراً على كيان المسلمين مما يقاس ، وربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء ، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة ، لم تزل واضعة أناملها على العروق النابضة ، تتجسس الظروف ، وتقدر ما يتمخض عن مجراها ، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير .
وسارع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى عقد مجلس استشاري أعلى ، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة ، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضي الله عنه . قال سلمان : يا رسول الله ، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا . وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك .
وأسرع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى تنفيذ هذه الحظة ، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً ، وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا . ففي البخاري عن سهل بن سعد ، قال : كنا مع رسول الله في الخندق ، وهم يحفرون ، ونحن ننقل التراب على أكتادنا ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) " : اللهم لا عَيشَ إلا عيشُ الآخرة ، فاغفر للمهاجرين والأنصار " .
وعن أنس : خرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى الخندق فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال :
اللهم إن العيش عيش الآخرة |
|
فاغفـر للأنصـار والمهـاجرة |
فقالوا مجيبين له :
نحـن الذيـن بايعـوا محمـداً |
|
على الجهـاد ما بقيـنا أبداً |
وفيه عن البراء بن عازب قال : رأيته(صلى الله عليه وسلم) ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه ، وكان كثير الشعر ، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ، وهو ينقل من التراب ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا |
|
ولا تصـدقنـا ولا صلينــا |
قال : ثم يمد بها صوته بآخرها ، وفي رواية :
إن الألى قـد بغـوا علينـا |
|
وإن أرادوا فـتنـة أبينـا |
كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت الأكباد ، قال أنس : كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير ، فيصنع لهم بإهَالَةٍ سنخة توضع بين يدي القوم ، والقوم جياع ، وهي بشعة في الحلق ولها ريح .
وقال أبو طلحة : شكونا إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الجوع ، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ، فرفع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عن حجرين .
وبهذه المناسبة وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النبوة ، رأى جابر بن عبد الله في النبي(صلى الله عليه وسلم) خمصاً شديدًا فذبح بهيمة ، وطحنت امرأته صاعاً من شعير ، ثم التمس من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) سراً أن يأتي في نفر من أصحابه ، فقام النبي(صلى الله عليه وسلم) بجميع أهل الخندق ، وهم ألف ، فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا ، وبقيت بُرْمَة اللحم تغط به كما هي ، وبقي العجين يخبز كما هو .
وجاءت أخت النعمان بن بشير بحَفْنَة من تمر إلى الخندق ليتغدى به أبوه وخاله ، فمرت برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فطلب منها التمر ، وبدده فوق ثوب ، ثم دعا أهل الخندق ، فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد ، حتى صدر أهل الخندق عنه ، وإنه يسقط من أطراف الثواب .
وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابر قال : إنا يوم خندق نحفر ، فعرضت كُدْية شديدة ، فجاءوا النبي(صلى الله عليه وسلم) فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق . فقال : ( أنا نازل ) ، ثم قام وبطنه معصوب بحجر ـ ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً ـ فأخذ النبي(صلى الله عليه وسلم) المِعْوَل ، فضرب فعاد كثيباً أهْيل أو أهْيم ، أي صار رملاً لا يتماسك .
وقال البراء : لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول ، فاشتكينا ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فجاءة وأخذ المعول فقال : " بسم الله " ، ثم ضرب ضربة ، وقال : " الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة "، ثم ضرب الثانية فقطع آخر ، فقال : " الله أكبر ، أعطيت فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن " ، ثم ضرب الثالثة ، فقال : " بسم الله " ، فقطع بقية الحجر ، فقال : "الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني " .
وروى ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه .
ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوي الشمال ، وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) يعلم أن زحف مثل هذا الجيش الكبير ، ومهاجمته المدينة لا يمكن إلا من جهة الشمال ، اتخذ الخندق في هذا الجانب .
وواصل المسلمون عملهم في حفره ، فكانوا يحفرونه طول النهار ، ويرجعون إلى أهليهم في المساء ، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة ، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة .
وأقبلت قريش في أربعة آلاف ، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرْف وزَغَابَة ، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذَنَبِ نَقْمَي إلى جانب أحد .
" وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا " [الأحزاب: 22] .
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا "[ الأحزاب: 12] .
وخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به ، والخندق بينهم وبين الكفار . وكان شعارهم : [ حم لا ينصرون ] ، واستحلف على المدينة ابن أم مكتوم ، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة .
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة ، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها ، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين ، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم ، إذ كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـ مكيدة ما عرفتها العرب ، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً .
وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً ، يتحسسون نقطة ضعيفة ، لينحدروا منها ، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين ، يرشقونهم بالنبل ، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه ، ولا يستطيعوا أن يقتحموه ، أو يهيلوا عليه التراب ، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور .
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى في ترقب نتائج الحصار ، فإن ذلك لم يكن من شيمهم ، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد وُدّ وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم ، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه ، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخة بين الخندق وسَلْع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، ودعا عمرو إلى المبارزة ، فانتدب له علي بن أبي طالب ، وقال كلمة حمي لأجلها ـ وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي ، فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي رضي الله عنه ، وانهزم الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين ، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو .
وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق ، أو لبناء الطرق فيها ، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة ، ورشقوهم بالنبل ، وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم .
ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه : أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق ، فجعل يسب كفار قريش . فقال : يا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) : ( وأنا والله ما صليتها ) ، فنزلنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم) بُطْحَان ، فتوضأ للصلاة ، وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب .
وقد استاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين ، ففي البخاري عن على عن النبي(صلى الله عليه وسلم) المقال السابق المقال التالى