1. المقالات
  2. أعظم إنسان عرفته البشرية
  3. زهده صلى الله عليه وسلم

زهده صلى الله عليه وسلم

الكاتب : أبو عبد الرحمن هشام محمد سعيد برغش
6208 2011/06/04 2024/11/22
المقال مترجم الى : Español English

 

وليس زهده صلى الله عليه وسلم كأي زهد؛ وإنما هو زهد مَنْ لو أراد جبال الدنيا أن تكون له ذهبًا وفضة لكانت... زهد مَنْ عُرِضَت عليه الدنيا، وتَزيَّنت له، وأَقبلَت إليه؛ فقال: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (أحمد والترمذي وصححه الألباني)!!

فلم يكن زهده صلى الله عليه وسلم من عِوَزٍ وحاجة؛ بل كان زهدًا مختَارًا، فإذا جاءه المال الكثير من الغنيمة أو الفيء؛ أنفقه كلَّه، ولم يُبق لنفسه منه شيئًا؛ إيثارًا لما عند الله، وزهدًا في الدنيا ومتاعها.

ويقول صلى الله عليه وسلم:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِي مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَيْكُمْ، قَدْرُ هَذِهِ- وأشار إلى وَبَرَةٍ مِنْ جَنْبِ بَعِيرٍ- إِلَّا الخُمُسُ، وَالخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» (أبو داود والنسائي وصححه الألباني) .

و(وَبَرَةٍ): أي شعرة. و(مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ): أي والخمس المذكور؛ مع كونه لي؛ فهو مصروفٌ في مصالحكم؛ من السلاح والخيل وغير ذلك.

ولـمَّا جاءه مَالُ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ: «انْثُرُوهُ فِي المَسْجِدِ»؛ فَمَا قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ (البخاري ومسلم).

فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأرغبهم في الآخرة، خيَّره الله تعالى، بين أن يكون ملكًا نبيًا أو يكون عبدًا رسولاً؛ فاختار أن يكون عبدًا رسولاً (أحمد وابن حبان وصححه الألباني).

@وكان الزهد شعارَه صلى الله عليه وسلم في كلِّ شئونه؛ في مسكنه، وفي فراشه، وفي ملبسه، وفي طعامه وشرابه.

أما مسكنه صلى الله عليه وسلم؛ فكان بيته صلى الله عليه وسلم من طين، متقارب الأطراف، داني السقف.

يقول الحسن البصري رحمـه الله: كنت أدخـل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في خلافة عثمان بن عفان، فأتناولُ سقفَها بيدي (سير أعلام النبلاء).

وقال عطاء الخراساني رحمه الله، وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حُجَر أزواجِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من جريد النخل، على أبوابها المُسُوح من شَعر أسود (الطبقات الكبرى لابن سعد وحياة الصحابة).

و(المُسُح): الكساء من الشعر.

وأما فراشه صلى الله عليه وسلم؛ فكان ينامُ على الحصير، ليس تحته شيء غيره، فيؤثر في جنبه الشريف، حتى يبكي سيِّدُنا عمررضي الله عنه، تأثرًا على حالِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (البخاري ومسلم).

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ، مُضْطَجِعٌ، مُرْمَلٌ بِشَرِيطٍ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وَسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ.

فَدَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَدَخَلَ عُمَرُ، فَانْحَرَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم انْحِرَافَةً فَلَمْ يَرَ عُمَرُ بَيْنَ جَنْبِهِ وَبَيْنَ الشَّرِيطِ ثَوْبًا، وَقَدْ أَثَّرَ الشَّرِيطُ بِجَنْبِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَبَكَى عُمَرُ.

فَقَـالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا يُبْكِيكَ يَا عُمَرُ؟» قَالَ: وَالله إِلَّا أَنْ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّكَ أَكْـرَمُ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَهُمَا يَعْبَثَانِ فِي الدُّنْيَا فِيمَا يَعْبَثَانِ فِيهِ، وَأَنْتَ يَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِالمَكَانِ الَّذِي أَرَى!

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟» قَالَ عُمَرُ: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّهُ كَذَاكَ» (أحمد وابن حبان).

و( مُرْمَل): قد نُسِجَ وجهه بالسَّعَف، يقال: أرمَلتُ النَّسج أرمُلُه: إذا باعَدْتَ بين الأشياء المنسوج بها، فهو مُرمَل. و قال الحافظ في الفتح (8/43): (مُرَمَّل) بِرَاءِ مُهْمَلَة ثُمَّ مِيم ثَقِيلَة؛ أَيْ مَعْمُول بِالرِّمَالِ, وَهِيَ حِبَال الْحُصْر الَّتِي تُضَفَّر بِهَا الأَسِرَّة .

 

ويقول أَنَسٌ رضي الله عنه: مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ قَطُّ، وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، وَلَا أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ (البخاري).

و(السُكْرُجَة): إناء صغير يوضع فيه المشهيات. و(الخِوَانٍ): السُّفرَة المرتفعة عن الأرض.

وأما ملبسه صلى الله عليه وسلم؛ فكان ربما لبس إزارًا ورداء فحسب؛ فعَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً مُلَبَّدًا وَإِزَارًا غَلِيظًا؛ فَقَالَتْ: «قُبِضَ رُوحُ رَسُـولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي هَذَيْنِ» (البخاري ومسلم والترمذي).

و(المُلَبَّد): هو المرقع من الثياب.

وأما طعامه وشرابه صلى الله عليه وسلم؛ فكان من زهده صلى الله عليه وسلم وقلة ما بيده؛ أن النار لا توقد في بيته في الثلاثة أهلة في شهرين؛ فعن عروة رضي الله عنه، قال: عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تقول: «والله يا ابن أختي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهصلى الله عليه وسلم نَارٌ. فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الأَسْوَدَانِ؛ التَّمْرُ وَالمَاءُ» (البخاري ومسلم).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يَبِيتُ اللَّيَالِي المُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ» (أخرجه الترمذي وحسنه الألباني).

وكان صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه الحَجَر من الغَرَث (أخرجه ابن الأعرابي وحسنه الألباني).

و(الغَرَث): الجوع

وخطب النعمان بن بشير رضي الله عنه، وهو يذكر حال النبي عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم؛ فقال: ذَكَرَ عُمَرُ مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا؛ فَقَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ» (مسلم).

و(الدَّقَل): رديء التمر.

ويا له من موقف عجيب؛ أن تخلو بيوت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم كلُّها حتى من هذا الدَّقَل!! حتى يعجز صلى الله عليه وسلم عن أن يُضِيفَ رجلاً جائعًا قصده؛ فيدفعه لمن يُضِيفُه!!

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ. فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ. حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ.

فَقَالَ: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ الله؟» فَقَامَ رَجُـلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُـولَ الله...» (البخاري ومسلم)!!.

و(إني مَجْهُودٌ): أي أصابني الجهد؛ وهو المشقة والحاجة وسوء العيش والجوع.

تخلو بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلُّها من كلِّ شيء إلا من الماء!! أي زهد هذا؟!!

فكيف إذا لم يجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، ما يسدُّ به جوعَه؛ فيخرج من بيته علَّه يجد ما يسدُّ جوعه؟!

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟» قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا... » (مسلم).

وأما مدخراته صلى الله عليه وسلم؛ فمَا تَرَكَ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً (البخاري).

وقد رهـن درعـه في ثلاثين صـاعًا من شعير عند يَهُودِيٍّ، فَمَاتَ رَسُـول الله صلى الله عليه وسلموَدِرْعُه مَرْهُونَةٌ عِنْده (البخاري ومسلم).

 

وصدق الله: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ".

* * *

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day