البحث
لَفْتُه صلى الله عليه وسلم السائلَ إلى غير ما سَأَل عنه
لَفْتُه صلى الله عليه وسلم السائلَ إلى غير ما سَأَل عنه
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يَلفِتُ السائلَ عن سؤالِه لحكمةٍ بالغةٍ ومن ذلك :
ما رواه البخاري ومسلم6، واللفظُ للبخاري ، عن انسٍ رضي الله عنه ((أنَّ رجلاً قال لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم : متى الساعةُ يا رسولَ الله؟ قال : ما أعددتَّ لها؟ قال : ما أعددتَّ لها من كثيرِ صلاةٍ ولا صومٍ ولا صَدَقةٍ ، ولكني أحبُّ الله ورسولَه ، قال : أنت مع من أحببتَ)) .
فلَفَتَه صلى الله عليه وسلم عن سؤالِه عن وَقْتِ قيام الساعة ، الذي اختَصَّ الله تعالى بعلمِه ، إلى شيءٍ آخَرَ هو أحوجُ إليه ، وأفضَلُ نفعاً عليه ، وهو إعدادُ العملِ الصالح للسّاعةِ ، فقال : ما أعددتَّ لها؟ فقال : حُبَّ اللهِ ورسولِه ، فقال : أنت مع من أحببتَ .
فزاده صلى الله عليه وسلم أياً أن الإنسان يُحشَرُ مع من يُصاحِبُ ويُحبُّ . وفي هذا تبصيرٌ للإنسان وتحذيرٌ من أن يتَّخذ في الدنيا قريناً له غيرَ صالحٍ ، فيكونَ معه في الآخرةِ حيث يكون!
وهذا الأسلوبُ في لَفْتِ السائل يُسمّى : أسلوبَ الحكيمِ ، وهو تَلَقّي السائلِ بغير ما يَطلُب ، مما يَهُمُّه أو مما هو أهمُّ مما سأَل عنه أو أنفَعُ له .
ومن هذا الباب أيضاً ما رواه البخاري ومسلم7:
عن ابن عمر رضي الله عنهما ((أنَّ رجلاً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما يَلْبَسُ المُحْرِم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يَلْبَسُ القَميصَ ، ولا العِمامةَ ، ولا السَّراويلَ ، ولا البُرْنُسَ ، ولا ثوباً مسَّهُ الوَرْسُ أو الزَّعْفرانُ ، فإنْ لم يَجِد النَّعلَيْنِ ، فلْيَلْبَسْ الخُفَّين ، ولْيَقْطَعْهُما حتى يكونا تحت الكعبينِ)) .
فأنت ترى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عما يَلْبَسُ المُحْرِم ، فأجاب ببيانِ ما لا يَلبَسه المُحرِم ، وتَضمَّن ذلك الجوابَ عما يَلْبَسُه ، فإنَّ ما لا يَلبَسُه المُحْرم محصور ، وما يَلبَسُه غير محصور ، فعدَل عما لا ينحصرُ تعدادُه إلى ما ينحصر ، طلباً للإيجاز ، ولو عدَّدَ له ما يلبَسُ لطال به البيان ، وربما يَصعُبُ على السائل ضبطُه واستيعابُه .
ثم بيَّن له صلى الله عليه وسلم زيادةً عما سأل : حُكمَ لُبسِ الخُفِّ عند عدَمِ وجودِ النَّعْل ، فزاده بيانَ حالةِ الاضطرار هذه ، وهي مما يتصل بالسؤال ، فقال : ((فإنْ لم يجد النَّعْلَين ، فلْيَلْبَسْ الخُفَّين ، ولْيَقْطَعْهُما حتى يكونا تحت الكعبين)) . ومن هذا القبيل أيضاً :
ما رواه البخاري ومسلم1، واللفظُ له ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : ((أنَّ رجلاً أعرابياً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : الرجلُ يُقاتِلُ للمَغْنَم ، والرجلُ يُقاتِلُ لِيُذكَر2، والرجلُ يُقاتِلُ لِيُرى مَكانُه3، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قاتل لتكونَ كلمةُ اللهِ أعلى4فهو في سبيل الله))5.
ففي هذا الحديث عُدولُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن الجواب عن عينِ ما سألَ السائلُ عنه إلى غيره ، إذْ كان لا يصلح أن يُجاب عما سأل عنه بنعم أو : لا ، فقد عدَلَ عن جوابه عن ماهِيّةِ القتالِ التي يَسأل عنها ، إلى بيان حالِ المُقاتِل ، وأفاده أن العِبرةَ بخُلوص النية والقصد .
وفي إجابةِ الرسول صلى الله عليه وسلم بما ذَكَر ـ ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) ـ غايةُ البلاغة والإيجاز .
وقد عُدَّ هذا الحديثُ من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم ، لأنه لو أجاب بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله ، احتَمَل أنَّ ما عدا ذلك كلُّه في سبيل الله ، وليس كذلك ، وقد يكون الغضبُ والحميةُ لله تعالى فيكون ذلك في سبيل الله ، فعَدَل صلى الله عليه وسلم إلى لفظ جامع لمعنى السؤال والزيادةِ عليه ، فأفاد دَفْعَ الالتباس وزيادةَ الإفهام .
-----------------------------------------
6 ـ البخاري 7 :40 في كتاب المناقب (باب مناقب عمر بن الخطاب) ، و10 :463 في كتاب الأدب (باب علامة الحب في الله) ، و13 :116 في كتاب الأحكام (باب القضاء والفتيا في الطريق) ، ومسلم 16 :185 في كتاب البر والصلة (باب المرء مع من أحب) .
7 ـ البخاري 1 :203 ـ 204 في كتاب العلم ، (باب من أجاب السائلَ بأكثر مما سأله) ومسلم 8 :73 في كتاب الحج .
1 ـ البخاري 1 :197 في كتاب العلم (باب من سأل ـ وهو قائم ـ عالماً جالساً) ، و6 :21 في كتاب الجهاد (باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) ، و159 باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره . ومسلم 13 :49 في كتاب الإمارة (باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) .
2 ـ أي ليُذكَر بين الناس بالشجاعة والبطولة .
3 ـ أي ليُريَ الناسَ أنه شجاع قوي . فمرجع هذا الفعل إلى الرياء ، ومرجع الفعل الذي قبله إلى السُّمْعة والشهرة ، وكلاهما مذموم . وفي رواية عند البخاري 1 :197 ((ويُقاتِلُ غَضَباً)) أي لأجل حظّ نفسِه . ((ويقاتل حَمِيّةً)) أي لمن يقاتل لأجله ، من أهلٍ أو عشيرة أو صاحبٍ أو جار .
ولما كان كل من هذه المقاصد في القتال تناوله المدح والذم بحسب الباعث الأول ، لم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنَعَمْ أو لا . قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :22 : ((فإذا كان أصلُ الباعثِ الصِّرْفِ على القتال هو إعلاءَ كلمة الله ، فلا يَضرُّه ما عرَضَ له بعد ذلك ، والمحذور أن يَقصِدَ غير الإعلاء ـ قصداً أولياً ـ .
ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً ، لا يَقدحُ في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعثَ الأصلي : ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حَوالة ، قال : بَعَثَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم ، فرجعنا ولم نغنم شيئاً . فقال : اللهم لا تَكِلهم إليَّ فأضعُفَ عنهم ، ولا تَكِلهم إلى أنفسهم فيَعجِزوا عنها الحديث)) . انتهى .
4 ـ هكذا رواية مسلم . ورواية البخاري : (لتكون كلمةُ الله هي العُلْيا) .
و(العُليا) تأنيث (أعلى) . و(كلمةُ الله) هي دعوةُ الله إلى الإسلام ، ودينُه وشريعتُه .
5 ـ وفي هذا الحديث من الامور التعليمية : جوازُ سؤال المتعلم عن علة الحكم ، لقوله : (فمن في سبيل الله؟) وتقديمُ تحصيل العلم على الدخول في العمل ، إذ المطلوب من المسلم أن يعلم ثم يعمل ، ليكون عمله على بصيرة وهدى من الشرع الحنيف .