البحث
إشعارُه صلى الله عليه وسلم بتغيير جِلْسَتِه وحاله ، وتكرار المقال
إشعارُه صلى الله عليه وسلم بتغيير جِلْسَتِه وحاله ، وتكرار المقال
وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُغيِّر جِلسته وحالَه ، مع تكرار مقالِه تعبيراً عن الاهتمام والخُطورَةِ لما يقولُه أو يُحذِّرُ منه .
روى البخاري ومسلم7، واللفظُ للبخاري ، عن أبي بَكْرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكَبائر؟ ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكبائر؟ ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكَبائر8؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراكُ بالله1، وعُقوقُ الوالدين2، وكان متَّكِئاً فجلسَ فقال : ألا وقولُ الزّور وشهادةُ الزّور ، ألا وقولُ الزّور وشهادةُ الزّور3، فما زال يقولُها حتى قلتُ : لا يَسكُتُ)) . وفي روايةِ مسلم : ((فما زال يُكرِّرُها حتى قلنا : ليتَه سَكَت))4.
وما هذا التكرارُ وتغييرُ الحال التي هو عليها إلاّ للَفْتِ أذهانِ السامعين إلى خُطورةِ ذلك العمل الذي يُحذِّر منه ، وهو شهادةُ الزّور .
------------------------------------
7 ـ البخاري 1 :405 في كتاب الادب (باب عقوق الوالدين من الكبائر) ، ومسلم 2 :81 ـ 82 في كتاب الإيمان (باب الكبائر وأكبرها).
8 ـ قالها ثلاث مراتٍ ، جرياً على عادتِه صلى الله عليه وسلم في تكرير الشيء ثلاث مراتٍ تأكيداً ، ليُنبِّه السامع إلى إحضارِ قلبِه وفهمِه للخبر الذي يَذكُره .
1 ـ قوله ((الإشراكُ بالله)) يُرادُ به مطلقُ الكفرِ ، لأنَّ بعضَ الكفر ـ مثل الإلحاد وجحد الخالق ـ أعظمُ من الإشراك بالله ، وإنما خَصَّه بالذكرِ لغَلَبةِ الشِّركِ آنئذٍ في بلادِ العرب ، فذكره تنبيهاً على غيرِه من أصنافِ الكفر .
2 ـ قال الشيخ أبو عمرو بنُ الصلاح رحمه الله تعالى في ((فَتاويه)) 1:201 : ((العقوقُ المحرَّم كلُّ فعل يتأذى به الوالدُ أو الوالدةُ تأذِّياً ليس بالهيِّن ، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة ، قال : وربما قيل : طاعةُ الوالدين واجبةٌ في كلِّ ما ليس بمعصيةٍ ، ومُخالفَةُ أمرِهما في ذلك عقوق)) . نَقَله النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 2 :87 .
3 ـ قول الزور وشهادة الزور بمعنى واحد ، وعطفُ أحدِهما على الآخر عطفُ تفسيرٍ ، ومن باب التوكيد وزيادة التفظيع له .
وإنما كرَّر قوله : ألا وقولُ الزّور وشهادةُ الزّور ، ولم يُكرِّر قوله : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، اهتماماً منه صلى الله عليه وسلم بالزجر عن شهادة الزور ، لأنها أسهلُ وُقوعاً على الناس ، والتهاوُنِ بها أكثر ، ومفسدتُها أيسرُ وقوعاً .
لأن الشرك يَنبو عنه المسلم ، والعقوق ينبو عنه الطبعُ ، وأما شهادةُ الزور فالدَّوافعُ والبواعثُ عليها كثيرة ، فحَسُنَ الاهتمامُ بها ، وليس التكرارُ لعِظَمِها بالنسبةِ إلى ما ذُكِر معها ، فالشركُ أو الكفرُ أعظمُ الذنوبِ جميعاً .
وشهادة الزور هي الشهادةُ بالكذبِ ليَتَوصَّل بها إلى الباطل من إتلافِ نَفْسٍ ، أو أخذِ مالٍ ، أو إلى إبطالِ حقٍّ للغير ، ولا شيء من الكبائر أعظمُ ضرراً منها ، ولا أكثرُ فساداً ، بعد الشرك بالله ، ومن ثم جُعِلَتْ عَدْلاً للشرك ، ووَقع من النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكرِها من الغضب والتكرير ما لم يَقَع منه عند ذكر أكبَرَ منها كالقتلِ والزنا .
4 ـ قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 10 :412 : ((وفي هذا الحديث : استحبابُ إعادة الموعظة ثلاثاً لتُفهَم ، وانزِعاجُ الواعظِ في وعظِه ليكون أبلغَ في الوعي عنه ، والزجرِ عن فعل ما يَنهى عنه .
وفيه إشفاقُ التلميذ على شيخِه إذا رآه مُنزعِجاً وتمنّي عدم غضبه لما يترتَّب على الغضب من تغيُّر مزاجه)) . انتهى .
وفيه أيضاً : أنه ينبغي للعالم أن يَعرِضَ على أصحابِه ما يُريدُ أن يُخبِرهم به ، لحَثِّهم على التفرُّغِ والاستماعِ له .