1. المقالات
  2. السيرة النبوية صور تربوية وتطبيقات عملية - محمد مسعد ياقوت
  3. الصحيفة الْقَاطِعَةُ الظّالِمَةُ

الصحيفة الْقَاطِعَةُ الظّالِمَةُ

 

الصحيفة الْقَاطِعَةُ الظّالِمَةُ
 
العام السابع من البعثة
 
اغتاظت قريشٌ، إذ نجح المسلمون في رحلة الحبشة، وصارت لهم عند النجاشي قوة ومنعة. ومما زاذ غمهم؛ غمًا إلى غم؛ أن أسلم عمر، وأسلم حمزة . إضافة إلى بدء انتشار الإسلام في القبائل خارج مكة، مثل غفار ونجران وأزد شنوءة وغيرها من القبائل .
 
***
 
فاجتمع قادة مكة بدعوة من أبي جهل على كتابة وثيقة يَتَعَاقَدُونَ فِيها علَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ، ونصت الوثيقةُ على:
 
1- أَنْ لا يُنْكِحُوا إلَيْهِمْ، ولا يُنْكَحُوهُمْ.
 
2- وَلا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا، وَلا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ[1] .
 
3 -وَلا يُكَلّمُوهُمْ .
 
4- وَلا يُجَالِسُوهُمْ
 
5- حَتّى يُسَلّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ[2] .
 
 وتعاهدوا على ذلك، وتواثقوا على هذا الظلم، ثم عَلّقُوا الصّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، كما يصنع أرباب أنظمة الظلم حينما يُضفوا الجانب الديني على أحكامهم الظالمة. [ أو كما فعل الزعيم الخائن حينما حكم بالإعدام على أحد علماء المسلمين، ثم استصدر الطاغيةُ فتوى من جهة دينية تابعة له تبيح دم الشيخ الذي طالب بتطبيق الشريعة، وقد صُدّرتْ فتوى إباحةِ دم الشيخ بالآية : {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }المائدة33 !!!] .
 
***
 
فلما شرعتْ قريش في تنفيذ الوثيقة الجائرة، انحازت بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ إلَى أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ في تضامن عائلي عجيب مع صاحب الرسالة ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
 
ورفضوا تسليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قادة قريش، وقد كان هذا هو مطلب قريش الوحيد لإبطال الصحيفة وفك الحصار .
 
والتف أبناءُ هاشمٍ وأبناءُ عبد المطلبِ ـ مسلمهم وكافرهم ـ حول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
 
فدخلوا جميعًا في شِعب أبي طالب ـ وهو مكان بين جبلين متصل بجبل أبي قبيس ـ ، وقد تَقَرَّشَت عائلةُ أبي طالب في هذا المكان الضيق، فتحول بسبب الحصار إلى سجن كبير.
 
وقد تضامنت العائلة عن بكرة أبيها مع صاحب الدعوة ـ حاشا أبي لهب فقد ظاهر على أهله، وانضم إلى قريش.
 
***
 
ثلاثية الحظر
 
واجتمع على المسلمين الأوائل؛ المقاطعة الاجتماعية، والسجن العسكري، والحصار الاقتصادي ـ في آن واحد، وفي وقت واحد، وقد استمرت هذه الثلاثيةُ الظالمة من المحرم من العام السابع للبعثة وحتى المحرم من العام العاشر للبعثة ـ وهو عام الحزن ـ ..
 
مقاطعةٌ اجتماعية : فلا صلة ولا مناكحة ولا كلام !
 
وسجنٌ عسكري : حيث أُغلق عليهم الشِعب؛ فصار سجنًا حقيقيًا.
 
وحصارٌ اقتصادي ؛ مَنَع المشركون فيه وصول الطعام والشراب إلى المسلمين، وشددوا على ذلك، بل أمر أبو لهب برفع الأسعار على المسلمين دون غيرهم، فقال:
 
 " يَا مَعْشَرَ التّجّارِ ! غَالُوا عَلَى أَصْحَابِ مُحَمّدٍ؛ حَتّى لا يُدْرِكُوا مَعَكُمْ شَيْئًا، فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِي وَوَفَاءُ ذِمّتِي، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لا خَسَارَ عَلَيْكُمْ"[3].
 
فيأتي المسلمُ إلى تجار مكة يبتاع منه ما يسد رمق أولاده، فيمنعونه أو يُعطونه السلعة بأضعاف قيمتها . فيعود إلى بيته أسيفًا لا يجد ما يسد جوعة أولاده، كل ذلك وهم صابرون محتسبون، قد اشتروا جنة الله، وتاجروا مع الله، وسلكوا طريق الله غير عابهين بالجوع أو التجويع. 
 
وقد تواصى المشركون بمنع أي معونات غذائية عن المسلمين، وكان أبوجهل يترصد أي حركة دعم للمنكوبين في الحصار .
 
 
 
بين شهم ولئيم
 
وفي مثل هذه الأجواء تظهر معادن الرجال، ويمتاز الشهم من اللئيم، وقد كشفتْ لنا هذه المحنةُ عن أسماء الشرفاء : أمثال : هِشَام بْن عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ ، وزهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وزمعة بن الأسود، وأبو البحتري بن هشام ..
 
 ... وقد حدث أن أبا جهلٍ ضَبَطَ حكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ ، مَعَهُ غُلامٌٌ يَحْمِلُ قَمْحًا، يُرِيدُ بِهِ عَمّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ ، وقد كانت مع رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فِي الشّعْبِ ، فَتَعَلّقَ بِهِ، وَقَالَ :
 
ـ أَتَذْهَبُ بِالطّعَامِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ ؟ وَاَللّهِ لا تَبْرَحُ أَنْت وَطَعَامُك حَتّى أَفْضَحَك بِمَكّةَ !
 
 فَجَاءَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هَشِامِ ، فَقَالَ :
 
ـ مَا لَك وَلَهُ ؟
 
فَقَالَ : يَحْمِلُ الطّعَامَ إلَى بَنِي هَاشِمٍ .
 
 فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ : طَعَامٌ كَانَ لِعَمّتِهِ عِنْدَهُ؛ بَعَثَتْ إلَيْهِ فِيهِ؛ أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا ؟ خَلّ سَبِيلَ الرّجُلِ[4] !
 
 
 
 "فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ حَتّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَأَخَذَ، أَبُو الْبَخْتَرِيّ لَحْيَ بَعِيرٍ[5] فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجّهُ، وَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَرِيبٌ، يَرَى ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِهِمْ وَرَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَسِرّا وَجَهَارًا ، مُبَادِيًا بِأَمْرِ اللّهِ لا يَتّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ النّاسِ"[6].
 
***
 
واشتد الحصار يومًا بعد يوم، واشتد المشركون في المنع والحظر؛ حتى اضطر المسلمون إلى أكل ورق الشجر.
 
 وقد كان المشركون يسمعون أصوات الأطفال وزفرات العويل من وراء الشِعب، فلا مغيث ولا حُرٌ شريف إلا مَن ذكرنا .
 
وانطلقت قصائدُ أبي طالب تجوب القبائل؛ تندد بهذا الظلم الفادح، تستنكر على الذين يتشدقون بأنهم حماة الحرم أعلام المروءة والكرم؛ ثم هم لا يرعوون من تطبيق هذه الصيحفة الفاجرة في بلد الله الحرام .
 
الحق؛ أن هذه القصائد أبانت للعرب حال بني هاشم والمطلب وما يُعانوا منه من قطيعة وسجن وتجويع !
 
الحق؛ أن صورة قريش قد اهتزت، وتحركت في نفوس الشرفاء دماء المنعة والشهامة لإنقاذ المسلمين من هذا العدوان البغيض.
 
الحق؛ أن سلاح الإعلام كان له دورًا تمهيديًا لفك الحصار، وإن من البيان لسحر .
 
قال أبو طالب في قصيدته البائية بعد ما تعاقدت قريش في أمر الصحيفة :
 
أَلا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا ...     لُؤَيّا وَخُصّا مِنْ لُؤَيّ بَنِي كَعْبِ
 
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّا وَجَدْنَا مُحَمّدًا ...    نَبِيّا كَمُوسَى خُطّ فِي أَوّلِ الْكُتُبِ
 
وَأَنّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبّةً ...         وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللّهُ بِالْحُبّ
 
وَأَنّ الّذِي أَلْصَقْتُمْ مِنْ كِتَابكُمْ ... لَكُمْ كَائِنٌ نَحْسًا كَرَاغِيَةِ السّقْبِ
 
أَفِيقُوا أَفِيقُوا قَبْلَ أَنْ يُحْفَرَ الثّرَى ... وَيُصْبِحَ مَنْ لَمْ يَجْنِ ذَنْبًا كَذِي الذّنْبِ
 
وَلَا تَتْبَعُوا أَمْرَ الْوُشَاةِ وَتَقْطَعُوا ... أَوَاصِرَنَا بَعْدَ الْمَوَدّةِ وَالْقُرْبِ
 
وَتَسْتَجْلِبُوا حَرْبًا عَوَانًا وَرُبّمَا ... أَمُرّ عَلَى مَنْ ذَاقَهُ جَلَبُ الْحَرْبِ
 
فَلَسْنَا وَرَبّ الْبَيْتِ نُسْلِمُ أَحْمَدًا ... لِعَزّاءِ مَنْ عَضّ الزّمَانُ وَلاكَرْبِ
 
وَلَمّا تَبِنْ مِنّا وَمِنْكُمْ سَوَالِفُ ... وَأَيْدٍ أُتِرّتْ بِالْقَسَاسِيّةِ الشّهْبِ
 
بِمُعْتَرَكٍ ضَيْقٍ تَرَى كَسْرَ الْقَنَا ... بِهِ وَالنّسُورَ الطّخْمَ يَعْكُفْنَ كَالشّرْبِ
 
كَأَنّ مُجَالَ الْخَيْلِ فِي حَجَرَاتِهِ ... وَمَعْمَعَةَ الْأَبْطَالِ مَعْرَكَةُ الْحَرْبِ
 
أَلَيْسَ أَبُونَا هَاشِمٌ شَدّ أَزْرَهُ ... وَأَوْصَى بَنِيهِ بِالطّعَانِ وَبِالضّرْبِ
 
وَلَسْنَا نَمَلّ الْحَرْبَ حَتّى تَمَلّنَا ... وَلا نَشْتَكِي مَا قَدْ يَنُوبُ مِنْ النّكْبِ
 
وَلَكِنّنَا أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالنّهَى ... إذَا طَارَ أَرْوَاحُ الْكُمَاةِ مِنْ الرّعْبِ[7].
 
 
 
بداية الانفراجة
 
ولما كان رأس ثلاث سنين من ضرب الحصار على المسلمين، والمشركون يمكرون بالمسلمين كل مكر؛ مَكَرَ اللهُ لدينه وحرك النخوةَ في قلوب أناس من أشراف قريش لنقض هذه الصحيفة والانقلاب على سلطان أبي جهل وعائلته؛ إذ تسببوا في تشويه سمعة قريش، ومارسوا ظلمًا بائناً على الأبرياء في بلد الله الحرام .
 
وكان هشام بن عمرو الهاشمي هو زعيم هذا الانقلاب ومحركه، ذلك الرجل الشهم الذي كان يأتي في جنح الليل بالبعير ـ وقد أوقره طعامًا ـ فيدفعه نحو فم الشعب، فيغيث الضعفاء، ويدعم المنكوبين، ولن تعدم الخير في بشر وإنْ كَفر.
 
 
 
ومشى هشامٌ،  " إلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ المخزومي ، وَكَانَتْ أُمّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَ :  يَا زُهَيْرُ ، أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطّعَامَ، وَتَلْبَسَ الثّيَابَ، وَتَنْكِحَ النّسَاءَ،  وَأَخْوَالُك حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ؛ لا يُبَاعُونَ وَلا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، ولا يَنْكِحُونَ ولا يُنْكَحُ إلَيْهِمْ ؟ أَمَا إنّي أَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ ، ثُمّ دَعَوْتَهُ إلَى مِثْلِ  مَا دَعَاك إلَيْهِ مِنْهُمْ مَا أَجَابَك إلَيْهِ أَبَدًا !!
 
 قَالَ: وَيْحَك يَا هِشَامُ فَمَاذَا أَصْنَعُ ؟ إنّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَاَللّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْت فِي نَقْضِهَا حَتّى أَنْقُضَهَا .
 
 قَالَ : قَدْ وَجَدْت رَجُلاً !
 
 قَالَ فَمَنْ هُوَ ؟
 
 قَالَ : أَنَا !
 
 قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ : أَبْغِنَا رَجُلًا ثَالِثًا"[8].
 
***
 
" فَذَهَبَ هشامٌ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ، فَقَالَ لَهُ : يَا مُطْعِمُ أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقُرَيْشِ فِيهِ، أَمَا وَاَللّهِ، لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنّهُمْ إلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا !
 
 قَالَ : وَيْحَك فَمَاذَا أَصْنَعُ إنّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ !
 
قَالَ: قَدْ وَجَدْت ثَانِيًا !
 
 قَالَ مَنْ هُوَ ؟
 
قَالَ: أَنَا ، قَالَ أَبْغِنَا ثَالِثًا !
 
 قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ!
 
 قَالَ : مَنْ هُوَ ؟
 
 قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ !
 
 قَالَ : أَبْغِنَا رَابِعًا "[9]!!.
 
***
 
" فَذَهَبَ إلَى الْبَخْتَرِيّ بْنِ هِشَامٍ فَسَأَلَ لَهُ نَحْوًا مِمّا قَالَ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ، فَقَالَ :  وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَنْ هُوَ ؟ قَالَ : زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ ، وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ ، وَأَنَا مَعَك ، قَالَ أَبْغِنَا خَامِسًا"[10]!!. 
 
***
 
" فَذَهَبَ إلَى زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، فَكَلّمَهُ ذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقّهُمْ . فَقَالَ لَهُ : وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الّذِي تَدْعُونِي إلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَ نَعَمْ ثُمّ سَمّى لَهُ الْقَوْمَ "[11] !!  
 
***
 
"فَاتّعَدُوا خَطْمَ الْحَجُونِ لَيْلاً بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ . فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي الصّحِيفَةِ حَتّى يَنْقُضُوهَا ، وَقَالَ زُهَيْرٌ : أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فَأَكُونُ أَوّلَ مَنْ يَتَكَلّمُ . فَلَمّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ عَلَيْهِ حُلّةٌ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكّةَ ؟ أَنَأْكُلُ الطّعَامَ وَنَلْبَسُ الثّيَابَ وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لا يُبَاعُ ولا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَاَللّهِ لا أَقْعُدُ حَتّى تُشَقّ هَذِهِ الصّحِيفَةُ، الْقَاطِعَةُ الظّالِمَةُ"[12]!!  
 
 
 
 " قَالَ أَبُو جَهْلٍ : وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ : كَذَبْتَ وَاَللّهِ لَا تُشَقّ !
 
 قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ : أَنْتَ وَاَللّهِ أَكْذَبُ مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حَيْثُ كُتِبَتْ! قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ صَدَقَ زَمْعَةُ ، لا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا ، ولا نُقِرّ بِهِ!
 
 قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ : صَدَقْتُمَا وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إلَى اللّهِ مِنْهَا ، وَمِمّا كُتِبَ فِيهَا .
 
وقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ .
 
 فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلِ، تُشُووِرَ فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ"[13] !!    
 
***
 
المعجزة
 
في هذه الأثناء، دخل عليهم أبو طالب قائلاً : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي أن اللّهَ قَدْ سَلّطَ الأرَضَةَ [ أي العتة ] عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ لِلّهِ إلا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا ، وَنَفَتْ مِنْهُ الظّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ، فَهَلُمّ صَحِيفَتُكُمْ فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ أَخِي فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا ، وَانْزِلُوا عَمّا فِيهَا ؟ وَإِنْ يَكُنْ كَاذِبًا دَفَعْت إلَيْكُمْ ابْنَ أَخِي ، فَقَالَ الْقَوْمُ : رَضِينَا ، فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمّ نَظَرُوا ، فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرّا [14].     
 
فعند ذلك نقضوها وكان أول من نقضها المطعم بن عدي .
 
وخرج المسلمون وقد نجحوا في الامتحان، ولم يعطوا الدنية، ولم يخضعوا للوثنية، بل خرجوا كأنشط ما كانوا عليه، وخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمارس الدعوة بهمة أعلى، ودليل ذلك؛ رحلته في هذا العام إلى الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام .
 
***
 
الجزاء من جنس العمل
 
وذاقت قريش من نفس الكأس،  ونزلت سورة الدخان تبشر بمجاعة تعم أهل مكة، وقد دعى عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
 
" اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ "[15] .
 
فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ؛ فَحَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْجُلُودَ، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ دُخَانًا مِنْ الْجُوعِ[16] .
 
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
 
{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ . يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }[ الدخان : 10، 11] .
 
فسبحان الله ! كما تدين تُدان . ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
 
وقد ذهب المسلمون بالأجر لقاء صبرهم على الحصار الذي جعلوا منه محضنًا تربويًا، ومعسكرًا إيمانيًا؛ تعلموا فيه الصبر والثبات، وكابدوا الجوع والأزمات .
 
وذهب المشركون بالوبال والخيبة؛ ساءت سمعتهم، و باءوا بالمجاعة والقحط، ودارت عليهم سنة الله تبارك وتعالى .
 
***
 
ألا فليعلم الناسُ أن الحصار سلاح قديم مارسه المجرمون في حق المسلمين، ومارسه الأمريكان في حق شعب العراق وأفغانستان والسودان . ومارسه الصهاينة في حق المسلمين في فلسطين !
 
ألا فأبشري يا أمتي ! أبشري يا فلسطين !
 
كانت الانفراجة والدولة بعد حصار شِعب أبي طالب، وستكون الانفراجة والدولة كذلكم بعد حصار غزة !
 
وكما عاقب اللهُ المشركين بسنين كسني يوسف بعدما فرضوا الحصار على المسلمين ـ فأبشروا بسنوات مثلها تدور على اليهود، والجزاء من جنس العمل .
 
وإذا تآمر على حصار المسلمين أبو لهب ـ وهو من القربى ـ .
 
فقد تآمر  الرئيس فلان كذلك على حصار غزةَ ـ وهو من بني جلدتنا ـ.
 
فهي السنن تدور، وهي النواميس تعود، والتاريخ يكرر نفسه .
 
ألا لعنة الله على المحاصرين، ألا شُلت يد كل من ساهم في حصار المؤمنين كما شُلت يد بغيض بن عامر كاتب الصحيفة !
 
***
 
توصيات عملية :
 
1ـ ساهمْ في فك الحصار عن المسلمين بكل ما أُوتيت .
 
2ـ قاوم المقاطعة بالمقاطعة؛ فلا يفل الحديد إلا الحديد، فبادر بتفعيل مقاطعة منتجات العدو، واشدد وطئتك عليهم كلموا شددوا على إخوانك .
 
3ـ تحركْ بين الناس لفضح ظلم الحصار، كما تحركَ هشامُ بن عمرو . وسانِدْ المؤمنين كما ساندهم المطعم بن عدي . وبادر بإعلان كلمة الحق في الميادين كما صدع بها زهير بن أبي أمية . واستخدم مواهبك وفنونك وقصائدك في ذلك كما استخدمها أبو طالب. ولتأخذك الغيرة ولتملأك المروءة؛ فهؤلاء الشرفاء كانوا من عباد الأوثان، فكيف بك يا عابد الرحمن ؟
 
4ـ اقرأ تفسير سورة الدخان واستخرج منها دروسًا وعِبرًا .
 
 
-------------------------------
 
[1] ابن هشام 1/350
 
[2] زاد المعاد 3 / 20
 
[3] الروض الأنف 2 / 159
 
[4] ابن هشام 1 / 352
 
[5] العظم الذى تنبت عليه الاسنان
 
[6] ابن هشام 1 / 352
 
[7] ابن هشام 1 / 352
 
[8] ابن هشام 1 / 375
 
[9] ابن هشام 1 / 375
 
[10] ابن هشام 1 / 376
 
[11] ابن هشام 1 / 376
 
[12] ابن هشام 1 / 376
 
[13] ابن هشام 1 / 376
 
[14] انظر : ابن هشام 1 / 377
 
[15] أخرجه البخاري ( 4435)
 
[16] أخرجه البخاري ( 4435)
المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day