البحث
الهجرة .. والأخذ بالأسباب
7585
2011/08/28
2024/12/21
الهجرة .. والأخذ بالأسباب
الصاحب
كان، كلما عزم أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ على الهجرة؛ أثناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك وقال له :
" عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي "[1] .
الراحلة
فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَصْحَبَهُ، وأعد ناقتين، وظل يعلفهما أربعة أشهر .
التخفي
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا!
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي !وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ!
قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ- وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لِأَبِي بَكْرٍ :
"أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ ".
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ !
قَالَ:" فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ".
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَالصُّحْبَةُ ـ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:" نَعَمْ "
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ ـ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : "بِالثَّمَنِ "[2] .
الزاد
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.
الاستخبارات
قَالَتْ عائشة : ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ- وَهُوَ غُلامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ - فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ[3] إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ[4] .
التمويه
وكانت مهمة عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ- مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ-، أن يأتي بالأغنام لمحو آثار خطوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر، قالت :" يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ" .
الدليل
وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً، هَادِيَا خِرِّيتًا، ماهرًا بالطريق، وكان من بني الديل، مشركًا، لهم حلف مع آل العاص بن وائل، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ، أي القريب من البحر الأحمر
***
الجو السائد في أحداث الهجرة، هو جو " الحذر والأخذ بالأسباب" بصورة تثير التعجب والإعجاب . هذا النبي الكريم الذي قبل سنوات قليلة أسرى الله به من مكة إلى الشام في لمح البصر؛ الآن فرض عليه الهجرة من مكة إلى المدينة؛ وأن يكابد فيها المطاردة والصحراء والجوع والعطش والحر والغربة، يكابد كل ذلك على قدميه لا على براق يطير به في ليلة قمراء، لقد أراد الله ـ تعالى ـ أن تكون أحداث الهجرة تشريعًا إلى قيام الساعة، لذا كانت إنسانية بشرية، أخذ فيها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما استطاع من أسباب الدنيا؛ اختار الصاحب وجهز الراحلة وأنفق المال واستعان براعٍ وجاسوس، وتخفى بغار موحش مُظلم، وأكل القليل من الطعام ما يكاد يسد رمقه؛ كل هذا لتعلم أن دعوة الإسلام دعوة واقعية، وأن الإسلام لا ينتصر إلا إذا أخذنا له بأسباب الدنيا مع التوكل على الله، وأن المسلم في حياته اليومية مهما بلغ في التعبد والتحنث فإن ذلك لن يدفع عنه مذلة الفقر أو مهلكة الجهل، أومعثرة المرض ـ إلا إذا أخذ بالأسباب الدنيوية، والعوامل الحياتية، والوسائل المباحة المختلفة التي تعينه على معاشه، فما بالك إذن إن أردنا أن نجعل من الدعوة الإسلامية رائدة الدعوات، ومن الحضارة الإسلامية سيدة الحضارات ؟
علم الله أنه إذا قال في شأن الهجرة النبوية : كوني لكانت؛ ولَنَقَلَ النبيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بساط إلهي من بيته في مكة ـ حيث يترصده المشركون ـ إلى بيت أبي أيوب الأنصاري في المدينة، في أقل من طرفة عين، وما ذلك على الله بعزبز، وقد رأيتَ كيف أسرى بعبده ليلاً من مكة إلى ما أبعد من المدينة .
لكن الذين اتقوا ربهم، يعرفون أن دعوة الله لا بد أن نأخذ لها بقوة، وأن نمهد لها طريقها بسبب، وأن نيسر لها وسائلها بحكمة، وأن نُصرفَ لها الأفكار التي تخدمها من هنا وهنا .
***
التوكل والعمل صنوان لأصل واحد، فاعلم أنه لا يُقبل التوكل إلا بحسن العمل، كما أن الأخذ بالأسباب لا يقل وجوبًا عن التوكل على الله .
توصية عملية :
مدارسة حول حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
"إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"[5]
----------------------
[1] أخرجه البخاري ( 3616)
[2] أخرجه البخاري ( 3616)
[3] من الكيد، أي ينالهما فيه مكروه
[4] أخرجه البخاري ( 3616)
[5]أخرجه أحمد ( 6912) قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين