1. المقالات
  2. أعظم إنسان عرفته البشرية
  3. حلمُه وعفوُه وصفحُه صلى الله عليه وسلم

حلمُه وعفوُه وصفحُه صلى الله عليه وسلم

11032 2011/11/27 2024/11/21
المقال مترجم الى : English Español

 

حلمُه وعفوُه وصفحُه صلى الله عليه وسلم

 

وكيف لا يبلغ من هذه الأخلاق قمَّتَها، وقد قال فيه ربه عزَّ وجلَّ: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" [آل عمران: 159]؟!.

فاللين وعدم الغلظة والفظاظة هو عين الحلم الذي اتصف به صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم كمالَه بالعفو والصفح والإعراض عن الجاهلين؛ امتثالاً لأمر ربه عزَّ وجلَّ له: " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" [الأعراف: 199].

فلازم هذه الأخلاق في كل حين؛ فكان أحلم في النِّفار من كل حليم، وأسلم في الخصام من كل سليم، وقد مُني بجفوة الأعراب؛ فلم يوجد منه نادرة، ولم يُحفظ عليه بادِرة، ولا حليم غيره إلا ذو عثرة، ولا وقور سواه إلا ذو هفوة، فإن الله تعالى عصمه من نزع الهوى وطيش القدرة لهفوة أو عثرة؛ ليكون بأمته رءوفًا وعلى الخلق عطوفًا.

قد تناولته قريش بكل كبيرة، وقصدته بكل جريرة، وهو صبور عليهم، ومعرض عنهم، وما تفرد بذلك سفهاؤهم عن حلمائهم، ولا أراذلهم دون عظمائهم؛ بل تمالأ عليه الجِلَّة والدُّون، فكلما كانوا عليه من الأمر ألحَّ ـ كان عنهم أعرض وأصفح، حتى قهر فعفَا، وقدَر فغفَر.

فقد وسع حلمه صلى الله عليه وسلم كلَّ أحد؛ عدوًا كان أم صديقًا، رجلاً أم امرأة، قريبًا أم بعيدًا، صغيرًا أم كبيرًا!!

فأما حلمه صلى الله عليه وسلم مع أهله وأزواجه؛ فلم يُسمع بمثله في حلمه عن نسائه، وذلك مع عظيم جنابه، ورفيع قدره، وسموِّ منزلته ومكانته عند الله تعالى وعند الناس.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ؛ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي.

قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فوالله إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ.

فَأَفْزَعَنِي ذَلِكَ، وَقُلْتُ لَهَا: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ.

ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَنَزَلْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟!

قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ!! أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ الله لِغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَتَهْلِكِي؟!!» البخاري ومسلم.

و(طَفِقَ): شرع وبدأ، و(فَصَخِبْتُ): الصخب: الضجة واختلاط الأصوات عند الخصام.

فانظر إلى مبلغ حلمه صلى الله عليه وسلم على أزواجه!! تظل إحداهنَّ هاجرة له اليوم كلَّه؛ حتى تهجر اسمه الشريف!!

والأعجب من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان مع ذلك الحال يلاطفهنَّ في القول، وكأنه لم يصدر منهنَّ شيء!!

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى». قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً؛ فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى؛ قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ». قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ، والله، يَا رَسُولَ الله، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ (البخاري ومسلم)!!.

ترى كيف يكون تصرف أحدنا؛ إذا استطالت زوجته بيدها بين يديه، وهو في مجلس مع بعض أضيافه؟!!

إليك ماذا فعل الحليم صلى الله عليه وسلم مع من فعلت ذلك من أزواجه بحضرة أضيافه!!

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ؛ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ».

ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ (البخاري).

يُغضي الحليم صلى الله عليه وسلم عن ذلك ويحلم، ويصبر ويصفح!!

وأما حلمه صلى الله عليه وسلم بخدمه؛ فاسمع يا رعاك الله، من بعض خدمه ما تعجز عن تصوره!!

فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَالله لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ، أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟» قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ الله.

قَالَ أَنَسٌ: وَالله، لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا» (مسلم).

وأما حلمه وعفـوه صلى الله عليه وسلم عن أصحـابه؛ فآية أخـرى على كمال خلق الحبيب صلى الله عليه وسلم في حلمه وعفوه؛ لأنه قد يحلم المرء عن العدو لسبب عداوته؛ استعطافًا له لتألفه، بينما الصديق والصاحب لا يحتاج معه إلى مثل ذلك، وحقُّه أن يكون محافظًا على الآداب، وعارفًا بمواطن الرضا والسخط؛ فإذا فعل ما يُخِلُّ بذلك؛ كان جديرًا بالتأديب والتعزير والتأنيب؛ فإن تُرِك بلا تثريب مع قيام المقتضي؛ فدليل عظيم على كمال الحلم وتمكُّنه!!

فكان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في ذلك على أكمل حال وأتمه؛ يحلم عن إساءتهم، ويعفو عن زلَّاتهم، ويَصْفَح فلا يُؤنِّب، ويغفر فلا يُثَرِّب!!

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي المَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ إِذْ جَاءَ أَعْـرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَـابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: مَـهْ مَـهْ. قَالَ: قَالَ رَسُـولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ» فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ.

ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ»... قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ (البخاري ومسلم واللفظ له).

و(مَهْ مَهْ): كلمة زجر وإنكار بمعنى: اكفف.

وعن أَنس رضي الله عنه، قال: كُنتُ أَمْشِي مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بُردٌ نَجْرَانيٌّ غلِيظُ الحَاشِيةِ، فأَدركَهُ أَعْرَابيٌّ، فَجبذهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَة شَديدَةً، فَنظرتُ إلى صفحة عاتِقِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقَد أَثَّرَت بِها حَاشِيةُ الرِّداءِ مِنْ شِدَّةِ جَبذَتِهِ، ثُمَّ قال: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لي مِن مالِ الله، الذي عِندَكَ. فالتَفَتَ إِلَيْه، فضحِكَ، ثُمَّ أَمر لَهُ بعَطَاءٍ (البخاري ومسلم).

وأما حلمه وعفوه وصفحه صلى الله عليه وسلم عن أعدائه، مع قدرته عليهم وتمكُّنِه منهم؛ فدليل على رسوخ ذلك الخلق العظيم، وتمكُّنِه في نفس الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ حتى عمَّ أعداءه، كما عمَّ أصحابه وأحبابه!!

عـن جَـابِر بْن عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُـولِ الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْــدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُـولُ الله صلى الله عليه وسلم، قَفَلَ مَعَـهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَـائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَـزَلَ رَسُــولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ.

فَنَزَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً؛ فَإِذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: الله ثَلَاثًا» وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ (البخاري ومسلم).

و(قَفَـلَ): رجـع، و(الْقَائِلَةُ): منتصف النهار، و(الْعِضَاهِ): شجر عظيم له شوك، و(اخْتَرَطَ): سلَّ السيف، وأخرجه من غمده، و(صَلْتًا): مسلولاً.

ولم يتخلَّف حلمُه صلى الله عليه وسلم عن معاملته لليهود، رغم إساءتهم المتكررة له، وكيدهم له ومكرهم به وبأصحابه؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ.

فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ؛ فَإِنَّ الله يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فَقَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ» (البخاري ومسلم).

و(السَّامُ): الموت.

ولقد فاق حلمُه وعفوُه صلى الله عليه وسلم عن قريش وأهل الطائف كلَّ ما يتصوره البشر، وهم الذين بلغ إيذاؤهم له ـ بأبي هو وأمي- مبلغًا لا يطيقه بشر؛ فآذَوه وأغرَوا به سفهاءهم؛ فرمَوه بالحجارة حتى أدموا قدمه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وردوا عليه ردًّا منكرًا؛ حتى بلغ به الهمُّ مبلغًا عظيمًا، هو أشدُّ عليه من يوم أُحد ـ مع ما كان في يوم أُحد من جراح عظيمة ومصابٍ فادحٍ ـ إلا أن الجرح الأعمق في نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، والذي لم يزل يتذكر وقعَه السيئَ عليه، هو ما فعله معه أهل الطائف.

فعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟

فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ.

فَرَفَعْتُ رَأْسِي؛ فَإِذَا أَنَا بِسَحَـابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ؛ فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟».

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» البخاري ومسلم.

و(الأخشبان): الجبلان المحيطان بمكة. والأخشب: الجبل الغليظ.

فأي حلم هذا؟! وأي عفو وصفح هذا؟!!

والعجيب أن يمتد هذا الحلم وذاك العفو إلى أعدائه في خِضَمِّ حربهم له، وأوج أذاهم وظلمهم له!!

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» البخاري ومسلم.

وها هي قريش ـ وهي التي حاصرته وأصحابه في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، ومنعت عنهم الطعام، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يُسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم، يتضاغون من الجوع، حتى أشرفوا على الهلاك؛ فلم تَرحم قريش ضعفَهم، ولم تأبه بما لهم من حق الرَّحِم ـ هاهي ذا تنسى هذا الجرمَ كلَّه؛ فتكتب إليه صلى الله عليه وسلم وقد أصابهم الرعبُ، وهاجمهم شبحُ الجوع؛ تستغيث به صلى الله عليه وسلم ليتدخل لدى ثُمَامَة بْن أُثَالٍ، زعيم بني حنيفة؛ ليرجع عن قراره الذي اتخذه من نفسه، بمنع تصدير القمح إلى مكة؛ وقال لهم: «والله لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» البخاري ومسلم.

فَقَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَأَلَهُ بِالرَّحِمِ؛ إلَّا أَرْسَلْت إلَى ثُمَامَةَ؛ أَنْ يُخَلِّيَ الْحَمْلَ ـ أي حمل الطعام ـ إلَيْنَا، فَإِنَّا قَدْ هَلَكْنَا جوعًا، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إلَى ثُمَامَةَ؛ أَنْ خَلِّ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ الْمِيرَةِ ـ جلب الطعام ـ فَلَمَّا جَـاءَهُ الْكِتَـابُ، قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِرَسُـولِ الله صلى الله عليه وسلم (أخرجه البيهقي).

لقد أرسلوا إليه يناشدونه الرَّحِمَ ـ الذي قطعوه بحربِهم له وحصارِهم إياه ـ فلم يعاملهم بالمثل؛ ويتركهم يُعانونَ من الجوع الذي أذاقوه إياه وأصحابَه، ولم يرحموا دموع امـرأة أو شيخ كبير أو صـراخَ طفلٍ صغير، لم يفعل ذلك- وكان بمقدوره أن يفعل- فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك، ولم يستشره ثُمامةُ حين فعل ذلك، ولكنه الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم.

فياليتنا نعامل إخواننا وأحبابنا بما عامل به رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه وأعداءنا!!

وما أروع موقفه من مكة وأهلها ـ وقد مكَّنَه الله منهم، ودخلها فاتحًا منتصرًا عزيزًا ـ وهم الذين آذوه أشدَّ الأذى، وأخرجوه وطردوه، وقاتلوه أشدَّ القتال، وتكالبوا عليه، وألَّبوا عليه العرب، وقتلوا أعزَّ الناسِ على قلبه؛ فإذا به صلى الله عليه وسلم ينسى ذلك كلَّه، ويعفو عنهم، ويؤمِّنُهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم!!

وها هو أبو سفيان؛ وقد أدهشه ما يراه من حلمه وعفوه وصفحه يوم الفتح، فلم يملك إلا أن يصدع بهذه الحقيقة؛ فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بأَبِي أنت وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ، وَأَكْرَمَكَ، وَأَوْصَلَكَ، وَأَعْظَمَ عَفْوِكَ!! (أخرجه الطبراني وصححه الألباني).

ولو لم يكن من كرم عفوه، ورجاحة حلمه؛ إلا ما كان من هذا اليوم؛ لكان ذلك من أكمل الكمال، وأوضح البرهان، على مبلغ حلمه، وعظيم عفوه وصفحه صلى الله عليه وسلم (البيان والتبيين للجاحظ).

والذي لا ينقضي منه العجب؛ هو حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، مع علمه بأسمائهم وبكيدهم ومؤامراتهم وخداعهم وخيانتهم له ـ بإعلام الله له ـ!!

ومع ذلك يحلم عنهم، ويعفو ويصفح، وكلما أُذِن له في تأديبهم والتشديد عليهم؛ فتح لهم بابًا من الرحمة؛ فكان يستغفر لهم ويدعو لهم!!

ولمَّا مَاتَ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، دُعِيَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَثَبَ إِلَيْهِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يَا رَسُولَ الله، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟!! قَالَ عمر: أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ.

فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ» فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: «إِنِّي خُيِّرْتُ(1) فَاخْتَرْتُ؛ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day