البحث
محاولات اغتيال محمد (صلى الله عليه وسلم)
محاولات اغتيال محمد (صلى الله عليه وسلم) ([1])
قدَّر الله تعالى أن يستمر الحق والباطل في صراع ، فلا تعايش بينهما، فالحق والباطل نقيضان لا يجتمعان، وكل منهما يسعى إلى إزالة الآخر من الوجود.
وكان من الطبيعي جدًّا أن يسعى قوم دومًا إلى قتل أهل الحق، وهذا ما حدث مع محمد (صلى الله عليه وسلم) فقد تعرض لمحاولات عديدة لاغتياله والقضاء عليه وعلى دعوته، بل بدأ الأمر مبكرًا جدًّا منذ مولده (صلى الله عليه وسلم):
- يذكر الطبري أن قريشًا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان محمد (صلى الله عليه وسلم) وتسليمه لهم مشوا إليه بفتى منهم هو عمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له فيما بلغني: يا أبا طالب! هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك، هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرَّق جماعة قومك، وسفَّه أحلامنا فنقتله؛ فإنما هو رجل برجل. قال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدًا.
قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب! لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا. فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني.
- ويحكي عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: «رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟!»([2]).
ويقول أبو هريرةt: «قال أبو جهل: يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ - يقصد: يصلي ويسجد - فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه، فأتى رسول الله وهو يصلي - زعم ليطأ رقبته - فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهوْلاً وأجنحة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا».([3]) ويقول أنس: «لقد ضربوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مرة حتى غُشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ؟ فتركوه وأقبلوا على أبي بكر» ([4])، وتحكي أسماء بنت أبى بكر - رضى الله عنها - هذا المشهد قالت: «جاء الصريخ إلى أبي بكر، فقيل له: أَدْرِك صاحبك. فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟!، قال: فلهوا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأقبلوا إلى أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام!»([5])،فكان أبو بكر من شدة الضرب لا يكاد تُعرف ملامح وجهه من كثرة الدماء، ولم تكن له جريمة هو ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا أنهما قالا: ربنا الله.
ويقول المؤرخ ابن كثير: «.. فاجتمعوا له في دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين خافوه، فلما اجتمعوا لذلك، وقد اجتمع فيها أشراف قريش، قال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فاجمعوا فيه رأيًا. قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: إن لي فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعدُ. قالوا: وما هو؟
قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًّا جليدًا نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه؛ فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها.. فتفرق القوم على ذلك وهم مُجمِعون له.. فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب: نَمْ على فراشي وتسجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه؛ فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينام في برده ذلك إذا نام» ([6])، ونجَّاه الله سبحانه من القتل هذه الليلة، وهاجر إلى المدينة.
وفي موقف آخر جلس عمير بن وهب الجمحي يومًا في حِجْر الكعبة، ومعه صفوان بن أمية، وتذاكرا أصحاب بدر من أهل مكة، واتفقوا أن يقوم عمير بقتل محمد (صلى الله عليه وسلم) وأن يعول صفوان أهله لو حدث له مكروه، ... ولما وصل عمير المدينة فدخل المسجد متوشحًا السيف، فقام عمر فاستأذن النبي (صلى الله عليه وسلم)، قال: فأدخله عليّ فدخل به على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال : «أرسله يا عمر! ادْنُ يا عمير!»، فدنا ثم قال: أنعم صباحًا! وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير! بالسلام تحية أهل الجنة»، قال: أما والله يا محمد! إن كنت بها لحديث عهد، قال: «فما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: «فما بال السيف في عنقك؟» قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئًا.
قال: «اصدقني ما الذي جئت له؟» قال: ما جئت إلا لذلك.
قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دَيْن عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدَيْنك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك». فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله! نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء،وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان؛ فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «فقِّهوا أخاكم في دينه، وعلِّموه القرآن، وأطلقوا أسيره» ففعلوا([7]).
وقاتل مصعب بن عمير دون محمد (صلى الله عليه وسلم) حتى قُتل، وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه محمد (صلى الله عليه وسلم)، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدًا.
واستغل بنو النضير من اليهود مجيء محمد (صلى الله عليه وسلم) ذات مرة إليهم ليناقشهم في شأن أحد التعويضات، يقول المؤرخ ابن كثير: فقالوا في سرِّهم: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه «ومحمد (صلى الله عليه وسلم) إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد»، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟ فانتُدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فأتى رسولَ الله الخبرُ من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبث النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به([8]).
وأرسلت له امرأة من يهود خيبر بشاة مشوية ودست فيها سمًّا ناقعًا فعن أنس بن مالك «أن امرأة يهودية أتت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشاة مسمومة، فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فسألها عن ذلك؟ قالت: أردت لأقتلك، فقال: ما كان الله ليسلطك عليَّ، أو قال: على ذلك. قالوا: ألا تقتلها؟ قال: لا»([9])، ولقد عانى من هذه اللقمة التي أكلها، وظل يشتكي منها حتى لحظة وفاته، فتقول عائشة وأبو هريرة - رضي الله عنهما -: إنهما سمعاه يقول: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام، حتى كان هذا أوان قطع أبهري»([10]).
ويقول حذيفة بن اليمان: «قال كنت آخذًا بخطام ناقة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقود به وعمار يسوق الناقة، أو أنا أسوق الناقة وعمار يقود به، حتى إذا كنا بالعقبة في غزوة تبوك إذا باثني عشر رجلاً قد اعترضوه فيها، قال: فأنبهت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا؛ يا رسول الله! قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب. قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا . قال: أرادوا أن يزحموا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في العقبة فيلقوه منها. قلنا: يا رسول الله! أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم. قال: لا، أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمدًا قاتل لقومه.. »([11]).
وأنزل الله - عز وجل - فيهم قرآناً يقول: يعني: المنافقين من قتل النبي (صلى الله عليه وسلم) ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلاً([12]).
لقد تناقلت كتب السِّيَر عشرات من محاولات الاغتيال التي تعرض لها محمد (صلى الله عليه وسلم) ونجَّاه ربه منها، إلا أنه في كل مرة لم يكن لينتقم لنفسه بحال من الأحوال، بل يعفو ويغفر، وهذا مما يدعونا إلى تدبر مواقفه والتفكر في طريقة تعامله مع أعدائه، تلك التي لا يقوى عليها إلا من كان أمينًا مؤتمنًا، وصدوقًا مصدقًا من السماء.
--------------------------------
([1]) يُرجع فيه إلى: ابن كثير، البداية والنهاية، الكامل لابن الأثير، وتاريخ الطبري.
([2])أخرجه البخاري (3856).
([3]) أخرجه مسلم (2797).
([4])أخرجه البخاري (4730).
([5])ابن الجوزي في صفة الصفوة.
([6])سيرة ابن كثير (3/177).
([7]) السيرة لابن كثير (3/313).
([8]) السيرة النبوية لأبن كثير (4/75).
([9])أخرجه البخاري (2617)، ومسلم (2190).
([10])أخرجه أبو داود(4512).
([11]) ابن كثير، البداية والنهاية (5/20).
([12]) الجامع لأحكام القرآن (8/188).