البحث
الشبهة الثالثة: ادعاء أن سب الكفار للرسول سببه عدم معرفتهم بالرسول وتقصير المسلمين في ذلك
.
الشبهة الثالثة: ادعاء أن سب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم سببه عدم معرفتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتقصير المسلمين في ذلك:
جواب الشبهة الثالثة:
وهذه الشبهة من أعجب ما رأيت وسمعت، ولقد تناولتها بالرد في مقال مفرد أوجز منه ما يناسب موضوعنا هذا مستعيناً بالله عز وجل؛
لقد ظهر بعض الكلام في معرض ردود الأفعال تجاه بعض جرائم السب المعاصرة التي تناولت بها بعض الأيدي والألسن قطعها الله مقام نبينا صلى الله عليه وسلم بالسخرية والاستهزاء ما يفسر هذه الجرائم بتقصير المسلمين في تعريف الغير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبتقصير المسلمين في التعريف بالإسلام ونحوه. وإن أحداً لا ينازع في أننا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم اليوم مقصرون في القيام بأمر الإسلام، غير أن هذا لا يمكن قبوله تفسيراً لجرائم القوم ولا تبريراً لمهادنتهم. نعم لو كان المشتوم نحن المسلمين لقبلنا ذلك، ولو كان المتنازَع فيه بيننا وبينهم سوء فهم مبدأ من مبادئ الإسلام، أو نسبة أمرٍ مغلوطٍ إليه لكان للحجاج والجدل بالتي هي أحسن موضع، أما وقد شتموا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مما لا تتعلق به شبهة عقلية، ولا تتعلق به حرية اعتقادية، ولا تتناوله مساحات التأويل العقلي الفاسد. فإن غاية ما يتعلق به كفر الكافر استكبارٌ عن قبول الحق أو فسادٌ في فهمه، وإن غاية ما تتيحه مساحة الاختيار للمكلفين هو تصديق الشرع والانقياد له أو الجحود له والإعراض عنه، كما بيَّن الله تعالى في قوله :" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وهذا التخيير كما لا يخفى للتهديد، كما قال الإمام الطبري رحمه الله :" وقد بيَّـنّا في غير هذا الموضع بأن العرب تُخرج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جل ثناؤه فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، والحاصل أن هذه هي مساحة الاختيار للمكلف وهو اختيار تكليف يترتب عليه وعدٌ ووعيد، لا اختيار حرية ينجو المرء فيه باختياره ويسعد كائناً ما كان اختياره.
فغاية ما يُقال في شأن الكافر أنه أعرض عن الشرع جهلاً أو تأويلاً أو جحوداً أو استكباراً،فالجاهل يُعلَّم، والمتأول يُفهَّم، والجاحد يُذَكّر، والمستكبر يُخوَّف، فإن زالت عوارض الكفر ففضلٌ من الله وإن لم تزُل فلا عدوان إلا على الظالمين. وليس من لازم أي واحد من العوارض السابقة إيقاع الشتم والعدوان على مُبلِّغ الرسالة صلى الله عليه وسلم حتى يُعتذر عن هذا الشتم بالكفر أو بجهالة حق المبلِّغ ومقامه وفضله صلى الله عليه وسلم، فعُلم ضرورة عقلية ما هو معلومٌ ضرورةً شرعية أن الاعتداء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم جريمة مستقلة لها اتصال بجريمة الكفر من وجه، ولها انفصال من وجه آخر، وهذا الموضع هو الذي يستزل قدم بعض المخلصين أو الغيورين أو أصحاب النوايا الحسنة من المسلمين إلى مهادنة هؤلاء المجرمين بحجة الخطاب الهادئ والحوار الناجع، ولعمري إن المقام هنا مقام انفكاك في الجهة بين جريمة الشتم وجريمة الكفر، يدلك على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أمره بقتل كعب بن الأشرف :" مَن لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال: نعم "، قال القاضي عياض رحمه الله بعد أن ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب :"ووجَّه إليه مَن قَتَلَهُ غيلةً دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل قتله بأذاه له، فدل على أن قتله إياه لغير الشرك، بل للأذى"، قلت: رحم الله القاضي العياض ما أفقهه، وهل الفقه إلا الوقوف عند كلام الله ورسوله، فلقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعلة القتل هنا وهي الأذى، فلم يعد هناك مجال للتقدم بين يدي الله ورسوله برأي وتبرير وتفسير، وعُلم أن
الشتم والأذى جريمة مستقلة عن جريمة الكفر من هذا الوجه.
ثم إن العجيب ممن يقول إن شتم هؤلاء المجرمين للنبي صلى الله عليه وسلم سببه تقصيرناوجهلنا في التعريف به، وكيف يسب أحد شخصاً لا يعرفه؟ فمن أين لهم إذاً تحديد اسمه وصفته ونسبة دين الإسلام إليه ونشأته في جزيرة العرب ونسبة ما جاء به صلى الله عليه وسلم إلى التخلف الحضاري لعرب الجزيرة ونحو ذلك من المعلومات التي لا بد لحصولها في ذهن الشاتم من اطلاع على شيء من حياة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إن مثل هذا مثل من جاء إلى أحدنا فشتم أباه باسمه فقال له : إنك تشتم أبي لأنك لا تعرفه ولأني قصرت معك في تعريفك بمناقب أبي فهلا تفضلت بالجلوس معي حتى أستطيع أن أعرفك بذلك كله عسى أن تكف عن شتم أبي ؟ أي عاقل يقبل مثل هذا في حظ نفسه وأبيه حتى نقبله في حق أكرم الخلق على الله تعالى، سبحانك هذا بهتان عظيم.
إن من شتم محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عرف محمداً، نعم، قد لا يكون عرفه حق المعرفة، لكنهلم يتوجه بسبه وشتمه إلى معدومٍ في ذهنه، ولم يتوجه بحقده ولؤمه إلى وهمٍ في مخيلته، وإن مَن هذا حاله مظنة قول الله تعالى :" إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً"، فليعش هؤلاء المجرمون كالفئران يفرون من جحر إلى جحر، ويهلعون لرؤية مسلم يخشون انقضاضه عليه، أو أي جندٍ آخر من جند الله عز وجل، وما يعلم جنود ربك إلا هو، أما أن يهنأ هؤلاء بمهرجانٍ ثقافي سخيف أو بدعوة لحضور مؤتمر حوار أديان، أو أن يكون غاية انتصارنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعض مأكولاتهم ومشروباتهم، فليس مما ننتصر به لرسولنا صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، بل ليس مما يقبله أحدنا انتصاراً لنفسه أو أبيه أو قومه ، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا فليُفق هؤلاء وليُعلم أن المقام مع هؤلاء مقام ردعٍ وترهيب لا مقام دفع شبهات وتعليم، وقد قال الشاعر :
ووضع الندى في موضعِ السيفِ بالعلا مُضِرٌ، كوضع السيف في موضع الندى
والحاصل أنَّ مَن شتم النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه مكانه صلى الله عليه وسلم من الدين وإلا لم يتوجه بالسب إليه إغاظةً لنا، ومثل هؤلاء يحتاجون أن يُعرفوا بحقه بإرغام أنوفهم لأنهم ليسوا من جنس المتأول صاحب الشبهة فيتوجه إليه بالبيان، وإنما هم من جنس المحارب المعلن ببغضه فيتوجه إليه بالسنان، في حين تتوجه الدعوة بالبيان والتعريف به وبسيرته صلى الله عليه وسلم للكفار الجهال جهلاً محضاً متجرداً عن إيذاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.