البحث
قوله تعالى :"يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي "
قوله تعالى :"يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ":
قال تعالى :"يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبطَ أعمالُكم وأنتم لا تشعرون"، وقال تعالى :"إنَّ الذين يَغُضُّون أصواتَهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم"، ولقد أخرج البخاري عن ابن أبي مليكة قال:"كاد الخَيِّران أن يهلكا؛ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجلٍ آخر - قال نافع لا أحفظ اسمه - فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي.
قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله :"يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم" الآية، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر"، قلت: فإذا كان هذا حال خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أعني أبا بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما وأرضاهما، حيث ارتفعت أصواتهما عن غير قصد أذيةٍ أو تهوينٍ لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أنزل الله تعالى في ذلك من القرآن ما أنزل، وفيه الوعيد الشديد بحبوط الأعمال، ومعلوم أنه لا يحبطُ العمل إلا الشرك والكفر، وكأن التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أو رأي هو من جنس ذلك، لأنه يجعل عقله مشرعاً مع الله ورسوله فكان أشبه بالشرك فأوجب حبوط العمل، إضافةً إلى ما في ذلك من تهاون في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وتوقيراً وهيبةً وتعظيماً.
وصح عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمه. فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله، وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"، قال البيهقي رحمه الله :"فكان بعد ذلك إذا جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخفض صوته حتى ما يكاد يسمع الذي يليه، فنزلت فيه "إن الذين يغُضُّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم""، فهذا صحابيٌ آخر سمع تحذير الله عز وجل المؤمنين من رفع الصوت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذكر ما كان يبدر منه عن غير قصد سوءِ أدبٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم فأيقن أنه هالكٌ محبط العمل، حتى جاءت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم فهدأ روعه وعلم أنه ليس هو المقصود، غير أن القصد صار لاغياً فيما بعد وصارت مجرد صورة رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم مَناطاً لحبوط العمل بنص الآية، ولم يعد يُستفصل في سبب رفع الصوت أو مقصود صاحبه، ولا يخفى أن ترك الاستفصال هذا مرده إلى أن ترك عموم رفع الصوت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم هو المطلوب بغضِّ النظر عن قصدِ صاحبِه إجلالاً وهيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا إذاً بابٌ رابعٌ فيما فرضه الله تعالى لصيانة مقام النبوة، وحفظ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يصيبه أذى أو أن يتصرف معه بما لا يليق قولاً وبطريق الأولى فعلاً، والله أعلم