البحث
صفة شعره، وشيبه، وترجله - صلى الله عليه وسلم -
لم تحظ شخصية تاريخية عظيمة بتدوين تفاصيل مظهرها بدقة، وتأريخها بعناية، وروايتها بأسانيد متصلة من الرجال الثقات الأثبات، كما حظيت به شخصية الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم-. وها هي ذي مدونات السير، ومصنفات السنن تتباهى بجملة من أوصافه الجسدية المتكاملة المعبرة، تنقشها على لوحة الزمان، وتبعثها لخواطر قلب عَمَّرَهُ الإيمان، ونأى به الزمان؛ ليسعد بوصفه الفؤاد، إن حرمت من رؤيته العينان. عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- من إناءٍ واحد، وكان له شعرٌ فوق الجمّة، ودون الوفرة"(1). والجمّةُ: ما سقط على المنكبين، والوفرة: ما وصل إلى شحمة الأذن، وهذا يدل على أن شعره - صلى الله عليه وسلم- كان متوسطا بينهما، فهو لمّة في الجملة، وله أحوال أخرى. وهذا التصوير اللطيف، والتعبير العفيف من كمال الأدب النبوي الذي تعلمته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- يبين لنا مقدار طول شعره - صلى الله عليه وسلم-. وعن بن عباس - رضي الله عنهما- أن: "رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رأسه"(2). ومعنى يسدل شعره: يرسل شعر ناصيته حول الرأس، ويرخيه على جبينه من غير أن يقسمه إلى قسمين. موافقةً لأهل الكتاب حين كان عبدة الأوثان كثيرين، وإنما آثر محبة ما فعله أهل الكتاب على فعل المشركين لتمسك أولئك ببقايا شرائع الرسل، وهؤلاء وثنيون لا مستند لهم إلا ما وجدوا عليه آباءهم، وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم- على تألف أهل الكتاب ليجعلهم عوناً على قتال من أبى واستكبر من عباد الوثن، كما تألفهم في قبلتهم(3). قال القرطبي - رحمه الله-: حبه - صلى الله عليه وسلم- كان لموافقة أول الأمر عند دخوله المدينة؛ حتى يصفو إلى ما جاء به، فلما تألفهم ولم يدخلوا في الدين، وغلبت عليهم الشقوة، أمر بمخالفتهم في أمور كثيرة، كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"(4). وعن عبد الله بن مغفل قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الترجل إلا غباً"(5). والمراد: النهي عن دوام تسريح الشعر وتدهينه، ليفعل يوما ويترك يوما؛ لأن المواظبة تشعر بشدة الإمعان في الزينة والترفّه، وذلك شأن النساء، ولهذا قال ابن العربي - رحمه الله-: موالاته تصنّع، وتركه تدنّس، وإغبابه سنّة. وعن أبي بكر - رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، قد شبت (أي ظهر فيك أثر الشيب). قال: "شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت"(6). وحكمة السؤال: أن مزاجه اعتدلت فيه الطبائع، واعتدالها يستلزم عدم الشيب، وهذا لا ينافي حديث أنس أنه لم يبلغ الشيب؛ لأن الروايات الصحيحة صريحة في أن ظهور البياض في رأسه ولحيته لم يكثر، فيحكم عليه بالشيب بسببه. وجوابه البليغ بإسناد السبب إلى السور، والمؤثر هو الله تبارك وتعالى، من حسن الأدب مع الرب – سبحانه- فالخير كله بيديه، والشر ليس إليه، ولربط المقادير بالأسباب الحقيقية، وذكر هوداً وأخواتها لاشتمالها على بيان أحوال السعداء والأشقياء، وأحوال يوم القيامة، والأمر بالاستقامة له ولأمته، ونحوه مما يوجب استيلاء سلطان الخوف، لاسيما على أمته؛ لعظيم رأفته بهم ورحمته، وتتابع الغم فيما يصيبهم، واشتغال قلبه وبدنه، وإعمال خاطره فيما فعل بالأمم الماضية، وذلك كله يستلزم ضعف الحرارة الطبيعية، وبضعفها يسرع الشيب، ويظهر قبل أوانه. و لما كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم- من انشراح الصدر، ونور اليقين ما يسليه ويثبته؛ لم يستول ذلك إلا على قدر يسير من شعره الشريف؛ ليكون فيه مظهر الجلال والجمال معاً. ووجه تقديم سورة هود هو أمره بالاستقامة، قال تعالى:(فاستقم كما أمرت) والثبات على الاستقامة من أعلى المراتب، ولا يستطيع الترقّي إلى ذروتها إلا من شرّفه ربه بخلع السلامة، واختصّه بسابغ الهداية(7). (1) - سنن الترمذي (1755) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن عائشة أنها قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد (ولم يذكروا فيه هذا الحرف) وكان له شعر فوق الجمة، ودون الوفرة". وعبد الرحمن بن أبي الزناد ثقة، كان مالك بن أنس يوثقه، ويأمر بالكتابة عنه . (2) - صحيح البخاري ( 3365). (3) - ينظر: المواهب المحمدية (1/150). (4) - متفق عليه: رواه البخاري (3275)، ومسلم (2103) من حديث أبي هريرة. (5) - رواه الترمذي في سننه (1756)، وقال : هذا حديث حسن صحيح. (6) - رواه الترمذي في سننه (3297)، وقال : حديث غريب وقال الحاكم : صحيح ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في الإتحاف (2/171): رواته ثقات. (7) - المواهب المحمدية (1/150).