طالما حيَّرنى أمر هذه البغى التى ذكرها النبى صلى الله عليه و سلم فى القصة المعروفة: «بينما كلبٌ يُطِيفُ برَكيَّةٍ، كاد يقتُلُه العطشُ، إذ رأَتْه بغيٌّ من بغايا بنيإسرائيلَ، فنزَعَت مُوقَها، فسَقَتْه فغُفِر لها به»(البخاري، صحيح البخاري؛ رقم:[3467])، ووصْفُ المرأة يغنى عن أى تساؤل عن طبيعة حياتها أو ما يحوز اهتمامها أو نوع صحبتها أو المناخ القِيَمى و الأخلاقى الذى يحيط بها أو البشر الذين تتعامل معهم أو..أو.. فالجواب فى كل الحالات فى الاتجاه السلبى تمامًا، فمنذ بدء الخليقة والأسر المحافظة على القيم أول ما تغرسه فى نفوس أبنائها عمومًا و بناتها خصوصًا هو أن العفة هى قمة هرم الفضيلة وأن المحافظة عليها تُبذل لها الدماء والأرواح وتزهق الأرواح، حتى إن الفتاة التى تتعرض لاغتصاب لا يكاد يفارقها الشعور بالذنب بالرغم من كونها ضحية ولا يغادرها الإحساس بالعار حتى لو لم يتجاوز الأمر مجرد محاولات تَحَرُّش، وتظل الفتاة تكره نفسها حتى أن هناك من يُضربن عن الزواج تمامًا بسبب بشاعة التجربة وعمق الحرج النفسى ومحاولة عقوبة النفس عن ذنب لم تقترفه، ولكن هكذا تم غرس مبدأ بغض الرذيلة بأعماقها .
ثم نسمع بقصة تلك البغى التى سقت الكلب فغفر الله لها!
القصة ذكرها المعصوم صلى الله عليه وسلم الذى لا ينطق إلا حقًا ولا يبلغ إلا وحيًا عن رب العزة جل شأنه، الأمر إذاً له أبعاد موجودة بين السطور..
فالله سبحانه وتعالى كما أنه غفور رحيم هو حكم عدل ولولا أنها تستحق المغفرة لسبب ما ما غفر لها.
فالفارق بينها وبين المرأة التى دخلت النار فى هرة حبستها هو أن الأولى لها قلب مفعم بالرحمة والآخرى خلا قلبها من الرحمة، وكما أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن القلب هو محل الاعتبار إذ قال تعالى : {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء الآيتان 88 ،89].
فعلة القلب هى التى حرمت الدعاة والعلماء المرائين من دخول الجنة بسبب عدم الإخلاص من ناحية؛ والكبر الذى يداخل قلوب الكثيرين منهم من ناحية آخرى، فهم وغيرهم من وجهاء القوم؛ ينالون قدْرا من الاحترام والتبجيل مما قد لا يكونون هم أهلاً له مطلقًا، فى حين أن مثل تلك المرأة التى لاقت من الذل والاحتقار والمهانة ما لا يتحمله بشر، وقد يكون الدافع والسبب وراء هذه الانتكاسة فى حياتها التى قادتها إلى امتهان هذه المهنة البشعة هو أن ضن عليها الأثرياء قساة القلب بما يحفظ لها عرضها وعفتها فى حين أنهم ينفقون الأموال الطائلة علنًا التماسًا للرياء والسمعة أو ينفقونها سرًا طلبًا للفاحشة، ويؤكد هذا قصة أصحاب الغار فلولا أن منَّ الله على الرجل الذى تعفف عن الفاحشة عندما ذكرته المرأة بالله لكان واحدًا من هؤلاء الذين يقودون النساء إلى مثل هذا المصير المأساوى، ومثل هؤلاء الرجال موجودون فى عصرنا هذا وفى كل العصور ومنهم من يقوم غالبًا بهذا الدور اللاآدمى من خلف الأستار وهم يحتلون المراتب و المناصب و ليسوا فى حاجة لقهر هؤلاء النساء على هذا الأمر الذى تأباه كل فطرة سليمة، فهل يستوى حال تلك المرأة و حال هؤلاء من شياطين الإنس؟ أم هل يستوى حالها وحال النسوة الائي يسعين وراء التشبه بالفاسقات بملء إرادتهن وقد تكون إحداهن قد تنعمت فى كنف أسرة حنونة كفلت لها سبل العيش الكريم ومع ذلك تتطلع لحياة بعيدة كل البعد عن الحياء والكرامة ملتمسة المهن التى تشترط العرى و التبرج غير عابئة بالدين أو التقاليد وإنما كل ما يشغلها هو أن تكون محط أنظار الآخرين مهما تسبب لك من فتن وإفساد فى المجتمع، و المثل العربى يقول (تجوع الحرة و لا تأكل بثدييها) فهل من تعتمد على التعرى أمام الآخرين مهما ادعت البراءة من ارتكاب الفاحشة أفضل حالاً؟ العكس هو الصحيح.
ويحضرنا المثل الذى ضربه شيخنا الشعراوى- رحمه الله- عندما قارن بين الرجل الذى ارتكب الفاحشة وقد سعت إليه سعيا، وبين الرجل الذى يسعى هو إليها بنفسه مع سبق الإصرار، وخلاصة القول أن الله سبحانه يعامل كلا بما يستحق فهو القائل: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} [الأنفال : 23].
وبالمثل؛ من علم فيهم خيرا هداهم إلى طريق الجنة ولو بعمل واحد فهو المطلع على أسرار القلوب وخفايا النفوس.
ويستفاد من هذا الحديث وذاك ألا يحقرن المسلم من المعروف شيئا فقد يكون فيه نجاته؛ ولا يستهين من الإثم بشئ فقد يكون فيه هلكته؛ وألا يُنَصب نفسه قاضيا؛ فيحكم لهذا بدخول الجنة، ويحكم على ذاك بدخول النار فيكون من أهلها والعياذ بالله. نسأل الله السلامة.