البحث
الإكثار من ذكر الموت
ذكر الموت عند البعض هو نقيض التفاؤل، وعند العقلاء باب من أبواب الحزم يبعث على استثمار الوقت وعدم الانشغال بما لا فائدة فيه أو بما فيه مضرة، ويحجز عن العدوان على الآخرين.
وليس المقصود من الأمر بالإكثار من ذكر الموت إقلاق المذكَرين وتنغيص عيشهم، وإنما المقصود تهيئة الإنسان لما هو لاقيه لا محالة. وليس من النصيحة ولا العقل ترك الغافل على غفلته حتى يواجه ما لا يُحمد بدعوى عدم التنغيص عليه وإزعاجه.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تفاؤلاً وأشرحهم صدراً وأطيبهم مجلساً، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: «أكثروا ذكر هاذم اللذات» (أخرجه أحمد)، والهذم: القطع بسرعة كما يقول أهل اللغة، ولا أسرع من الموت في قطع اللذات.
بينا يُرى الإنسانُ فيه مخبراً حتى يُرى خبراً من الأخبارِ إن الإكثار من ذكر الموت بالإضافة إلى فائدته السلوكية، فهو عبادة عظيمة وسنة نبوية مرغب فيها. استعرضوا الخطب والمواعظ في مساجد المسلمين ومجالسهم، وانظروا إلى نصيب ذكر الموت منها تجدوا الخلل الكبير.
إن كثيراً من الوعاظ والخطباء ربما تركوا التذكير بالموت لأجل عدم تنفير الناس عنهم وعما يقولون، وهذا قد يكون له وجه في بعض الأحيان. ولكن ليعلم الجميع أن أكمل الناس وأنصحهم للناس، وأعلم الناس بما يناسب هو رسول الله ﷺ، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بالإكثار من ذكر الموت.
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم على قدر كبير من الوجل والتقى والخوف العظيم من الله والتقلل من الدنيا والتهيؤ للآخرة إلى مستوى قد يجعل البعض يتساءل ويقول: هل مثل هؤلاء بحاجة إلى أن يؤمروا بالإكثار من ذكر الموت! لكنه العلاج النبوي الذي يقع على كمائن النفوس وأدوائها موقع العلاج الناجع على المرض.
لقد كان النبي ﷺ يأمر أصحابه بالإكثار من ذكر الموت ويعظم الموت ومقدماته وما يليه في قلوبهم، حتى أنه لما مرت جنازة يهودي قام لها ﷺ، فقالوا يا رسول: "إنها جنازة يهودي"، قال عليه الصلاة والسلام: «أليست نفساً» (متفق عليه)، قال ابن حجر رحمه الله في (الفتح): "القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة".
لما فرطنا بالإكثار من ذكر الموت ماتت قلوبنا، وصرنا ندفن موتانا في وقت صلاة ثم نفرط في الصلاة التي تليها. وتحولت مقابر المسلمين في كثير من الأحيان إلى شبه منتديات يلتقي بها الناس ويتبادلون الأخبار، وربما ارتكبوا فيها بعض المحرمات من الغيبة والتدخين، ثم ينصرفون غير راشدين ولا معتبرين.
إن الإكثار من ذكر الموت لا ينقص الأجل الذي كتبه الله ولا يقطع عن العمل الذي يحتاجه الإنسان في دنياه، وإنما يبعث على الاستعداد لما بعد الموت من أهوال القبر والقيامة حتى تهون على الإنسان حين يردها أضعف ما يكون حالاً وأقل ما يكون زادا، قال ﷺ: «فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» (رواه مسلم).
اللهم أيقظ قلوبنا من غفلتها واهدنا سواء السبيل.