الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، جادَ على عباده بالصِّيام والقيام، وفتح لهم أبواب الخير والإحسان، نحمده حَمْد الشاكرين، ونستغفرُه استغفار المُذْنبين، ونسألُه مِن فضله العظيم، فهو الجواد الكريم، البَرّ الرَّحيم، لا يخيب مَن رجاه، ولا يرد مَن دعاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له في هذه الليالي المُقْبلات رحمات ونفحات، يسعد بها مَن نال حظه منها، ويغبن غبنًا عظيما مَن حرمها، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، ويخص عشره الأخيرة بِمَزيد عنايةٍ واجتهاد، وحَثَّ أمته على ذلك، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فاتَّقُوا الله تعالى وأطيعوه، واغتنموا الثُّلث الأخير مِن شهركم، فإن فيه من الخير ما لا يحصيه إلاَّ ربكم سبحانه وتعالى واحْذروا اللَّهو والغَفْلة والتَّسويف، فإنها أسلحة الشيطان؛ {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 119-120].
أيها الناس:
هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل الهَدْي، واختياره لنوافل العبادات في أوقات دون أوقات هو أفضل الاختيار، ونحن متعبدون لله تعالى باتباع سُنَّته، والتزام هديه، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
وقد خَصَّ النبي صلى الله عليه وسلم رمضان بعبادات فَعَلَها وشَرَعَها لأمته؛ اغتنامًا لفضيلته، واكْتِسابًا لِغنيمتِه، فقام بالناس جماعة في المسجد ليالي عدة، ثم تَرَكَ الاجتماع على ذلك خشية أن يفرضَ على الناس، فكان قيام رمضان جماعة في المساجد من سُنته عليه الصلاة والسلام.
واختص صلى الله عليه وسلم عشر رمضان الأخيرة بمزيد عمل واجتهاد، حتى كان - عليه الصلاة والسلام - يعتزل الناس، وينقطع في المسجد، خاليًا عن كل الصوارف والعلائق، مُعَلقًا قلبه بالله تعالى يَتَحَرَّى ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر؛ كما روت عَائِشَةُ رَضيَ اللهُ عَنْهَا أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكفُ العَشرَ الأَواخِرَ من رَمَضَانَ حتى تَوَفَّاهُ الله، ثمَّ اعْتَكَفَ أَزواجُهُ من بَعدِهِ؛ متفق عليه.
إن الاعتكاف سُنة فَعَلَها النبي صلى الله عليه وسلم وَوَاظَبَ عليها، وشَرَعها لأمته، حتى قاَلَ الزُّهْريُّ - رَحِمهُ اللهُ-: "عَجَبًا للمسلمين، تركوا الاعْتِكَافَ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَتْرُكْهُ منذ دخل المدِينَةَ، كُلَّ عَامٍ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ حتَّى قَبَضَهُ اللهُ تَعَالى".
هذا؛ وكان هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف أكمل الهدي، بعيدًا عن غلاة المغالين، وجفاء المقصِّرين.
إن الانقطاع عن الدنيا كان موجودًا عند كثير من أرباب الدِّيانات الأخرى، وفيه من الرَّهبنة والغلو ما فيه، فمنهم من كان ينقطع في الأديرة والمغارات، أو يهجر الناس إلى الأدغال والغابات العمر كله، أو سنوات تطول أو تقصر؛ ولكن الاعتكاف الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم يُحَقِّق المقصود مِن صفاء القلب وجمعه، ويعيده إلى تخليته لِرَبِّه سبحانه بعد عام منَ الانشغال بالأهل والوَلَد والدُّنيا، وَيَتَكَرر ذلك في كل عام عددًا منَ الليالي هي أفضل الليالي.
لقد كان المقصود الأعظم، والمطلوب الأكبر لاعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم هو طلب ليلة القدر؛ كما في حديث أبي سَلَمَةَ بن عبدالرحمن، أنه سأل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: حَدِّثْنِي ما سَمِعْتَ من النبي صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قال: "اعْتَكَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الْأُوَلِ من رَمَضَانَ، وَاعْتَكَفْنَا معه"، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فقال: "إِنَّ الذي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ"، فَاعْتَكَفْنَا معه، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فقال: "إِنَّ الذي تَطْلُبُ أَمَامَكَ"، قام النبي صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ من رَمَضَانَ، فقال: «من كان اعْتَكَفَ مع النبي صلى الله عليه وسلم فَلْيَرْجِعْ»؛ (رواه البخاري).
وكان محل اعتكافه عليه الصلاة والسلام معروفًا للصحابة رضي الله عنهم وأراه بعضهم لبعض التابعين؛ كما في حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ من رَمَضَانَ، قال نَافِعٌ: "وقد أَرَانِي عبدالله رضي الله عنه الْمَكَانَ الذي كان يَعْتَكِفُ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الْمَسْجِدِ"؛ رواه مسلم.
وجاء في حديث ضعيف، عند ابن ماجه: أن موضعه في الروضة التي بين منبره وبيته صلى الله عليه وسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يحوط مكانه بخباء يشبه الخيمة أو القبة، يعتزل فيه لذكر الله تعالى وعبادته؛ كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ في الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ من رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ له خِبَاءً، فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ» ؛ (رواه البخاري).
وكان طعامه وشرابه يؤتى به إليه في معتكفه، ولا يخرج إلاَّ للبول أو الغائط، وكان صلى الله عليه وسلم يناول رأسَه عائشةَ رضي الله عنها وهو في المسجد وهي في حجرتها، فترجله وهي حائض، كما جاء عنها رضي الله عنها: أنها كانت تُرَجِّلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهي حَائِضٌ، وهُوَ مُعْتَكِفٌ في المَسْجِدِ، وَهِيَ في حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُها رَأسَهُ؛ رواه الشيخان، وفي رواية لمسلم: وكانَ لا يَدخُلُ البَيتَ، إلا لحَاجَةِ الإِنسَان.
وأخذ منه العلماء أنَّ المباشرة الممنوعة للمعتكف هي الجماع ومقدماته، وجواز إخراج المعتكف بعض أعضائه من المسجد لحاجة يتناولها أو يمدها، وأن الشَّعَث والتَّفَل ليس مقصودًا في الاعتكاف؛ بل يتنظف المعتكف، ويعتني بجمال هيئته، وحُسن رائحته.
وكان صلى الله عليه وسلم وهو معتكف لا يشهد جنازة، ولا يعود مريضًا؛ بل هو منقطع للعبادات المحضة من صلاة وذكر وقرآن؛ كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وهو مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كما هو، ولا يُعَرِّج يَسْأَلُ عنه» (رواه أبو داود).
وكان صلى الله عليه وسلم يستقبل زُواره وهو في معتكفه، ومن ذلك زيارة نسائه رضي الله عنهن له عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث صَفِيةَ بنتِ حُيَّيٍّ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعتَكِفًا، فَأَتَيتُهُ أَزُورُه ليلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثم قُمْتُ، فانْقَلَبتُ فَقَامَ مَعي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أُسَامَةَ بنِ زَيدٍ، فَمَرَّ رَجُلانِ منَ الأَنصَار، فلَمَّا رَأَيَا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَسرَعَا، فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «علَى رِسْلِكُما، إنَّها صَفِيَّةُ بنتُ حُيَّيٍّ»، فقَالا: سُبحانَ الله يا رَسُولَ الله، قال: «إنَّ الشَّيطَانَ يَجرِي من الإنسَانِ مَجرى الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقذِفَ في قُلُوبِكُمَا سُوءًا»، أو قَالَ: "شَيْئًا"؛ (رواه الشيخان).
ويُؤْخذ من الحديث جواز زيارة المعتكف، ولا يطيل الزائرُ اللبث عنده؛ لأنه مشغول بما هو أهم وأعلى من القيام بمقتضيات الزيارة.
كما يفيد هذا الحديث أنه ينبغي للمسلم أن يدرأ عن نفسه التهم، ببيان ما يحتاج إلى بيان، ولو كان هو من خيار الناس أو متلبسًا باعتكاف، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين بيَّن للرجلين أنه مع زوجه صفية - رضي الله عنها.
ويستفاد منه أن المعتكف يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويرشد مَن يحتاج إلى إرشاد، ولا يضر ذلك اعتكافه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الرجلين لَمَّا تَعَجَّبا إلى ما حمله على بيان أنه مع زوجه صفية رضي الله عنها فقال - عليه الصلاة والسلام -: «إنَّ الشَّيطَانَ يَجرِي من الإنسَانِ مَجرى الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقذِفَ في قُلُوبِكُمَا سُوءًا».
ثُمَّ إنَّ الاعتكاف في الإسلام ليس انقطاعًا سلبيًّا، ولا عزلة تحول بين صاحبها وبين حاجة الناس إليه؛ ولكنه انقطاع إيجابي مُثمر، يعود على صاحبه بالنفع، ولا يحرم الناس منَ الانتفاع به، ولا سيَّما إذا كان مما يحتاج إليه في العلم والاحتساب وغير ذلك.
أسأل الله تعالى أن يُوَفِّقنا للخيرات، ويُقَوِّينا على اكتساب الحسنات، ويجنبنا السيئات، إنه سميع قريب.
وأقولُ هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.
البحث
الهدي النبوي في الاعتكاف (1-2)
تحت قسم :
أعمال القلوب
1667
2016/06/25
2024/11/18