1. المقالات
  2. أعمال القلوب
  3. لماذا كان صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى؟

لماذا كان صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى؟

الكاتب : د. عبدالسميع الأنيس
تحت قسم : أعمال القلوب
3993 2017/09/21 2024/10/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

يتساءل البعض عن السر في بلوغ الإمام البخاري هذه المنزلة الرفيعة عند المسلمين؟ولماذا أصبح كتابه: أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى؟!

والجواب: أن الجهود العظيمة التي خدم فيها الحديث النبوي هي التي بوأته هذه المكانة، وأن قياس الأثر الذي أحدثه فيما يتعلق بميدان الحديث النبوي يكفي للتدليل على هذه المقولة، وهذا البحث هو محاولة لبيان ذلك.


ومن يدرس حياة الإمام البخاري يجد أنه كان صاحب هدف كبير، ألهمه وهو في ابن عشر سنوات، ووفق لتنفيذه في مدة نصف قرن. وأصبح كتابه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته"[2].


ولدى دراستي لهذا الموضوع ظهر لي أن السر الكامن وراء اختيار الأمة لذلك أسباباً كثيرة لعل أهمها أربعة أسباب، وهي:

السبب الأول: أخذ الإمام البخاري الحديث النبوي عن كبار المحدثين، ورحلاته الواسعة في طلبه:

نشأ الإمام البخاري (194-256هـ). في أعظم مدن ما وراء النهر في وسط آسيا: بخارى. وكانت ضمن ما يسمى بخراسان، وكانت تشمل عدة مدن، منها مثلاً: بخارى وسمرقند وخوارزم في أوزباكستان، ونيسابور في إيران، وبلخ وهراة في أفغانستان، ومرو في تركمانستان، وفاراب في كازاخستان.

وكانت خراسان الكبرى تنعم بالأمن، وتشجيع العلماء من قبل ولاتها الطاهريين.


وقد نشأ في أسرة صالحة، فقد مات أبوه وهو صغير، فنشأ في حِجْر أمِّه، وكان أبوه قد ترك مالاً حلالا أعانها على تربيته التربية الصالحة، قال أبوه "إسماعيل" عند وفاته: "لا أعلم في مالي درهمًا من حرامٍ ولا شبهةٍ"[3].

وفي صغره ذهبت عيناه في صِغَره، فألهم الله سبحانه أمه أنْ تلجأ إليه، وتتوسل بكرمه وجوده. فكانت إذا أسدلَ الليلُ أستارَه تقومُ فتتوضأ وتقفُ بين يدي مولاها باكيةً داعيةً شاكيةً إليه ما نزَلَ بعيْنَي "محمدٍ" مِنْ عمى، وما نزَلَ بقلبها مِن همٍّ، وما نزَلَ بالبيت مِنْ حُزن.


وذات ليلةٍ رأت خليلَ الرحمن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في المنام، فقال لها: "يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك أو بكائك"، فأصبح وقد ردَّ الله له بصره[4].

وعاش في مطلع القرن الثالث الهجري، وهو العصر الذهبي للحديث النبوي.


فأخذ عن محدثي بلده، ثم قام برحلات واسعة في أهم مدن العالم الإسلامي، فقد طاف بلادَ: خراسان، والحجاز، والعراق والشام ومصر، وكتب الحديث النبوي عن ألف وثمانين شيخاً، هم شيوخ الحديث في ذلك القرن، خمسة منهم لقبوا بأمراء المؤمنين في الحديث، وهم: الفضل بن دكين الكوفي (ت:210هـ)، وهشام بن عبدالملك الطيالسي البصري(ت:227هـ) وعلي بن المديني البصري (ت:234هـ)، وإسحق بن راهويه المروزي (ت:235هـ)، ومحمد بن يحيى الذهلي النيسابوري  (ت:258هـ)، وأخذ عن الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين رضي الله عنهم أجمعين.


وفيهم من وصف بأنه من أتباع التابعين، مثل الإمام مكي بن إبراهيم (ت:214هـ)، وغيره. فنال بذلك رتبة تَبَع الأتباع.

ولهذا كان عدد مروياته كثيرة جدا، وقد قال مرة: "ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت مصنفاتي من الحديث، فإذا نحو مئتي ألف حديث مسندة"[5].

ومروياته أكثر من هذا العدد بكثير، فقد كان يقال: "صنَّفْتُ "الجامع" من ستمائة ألف حديث، في ست عشرة سنة، وجعلته حُجَّةٌ فيما بيني وبين الله"[6].

وهذا يعني أنه أحاط بالسنة في عصره.


السبب الثاني: جهوده المباركة في خدمة الحديث النبوي وعلومه من خلال التصنيف:

وكان من أعظم جهوده في خدمة الحديث النبوي وعلومه تلك المؤلفات الكثير المباركة التي صنفها، فقد ابتدأ البخاري بالتصنيف منذ حدَاثة سنه؛ وعندما بلَغ الثامنة عشرة عامًا صنَّف: "قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم". وقد تجاوز عدد مؤلفاته (30) كتاباً منها ما حفظ ونقل، ومنها ما فقد واختفى.

وكان رحمه الله موفقا في التأليف، فهو يراعي المستويات والتخصصات، فتراه يألف الجامع الكبير للمختصين، ويألف الجامع المختصر لكل المستويات كما يظهر ذلم من مؤلفاته.


وكان متقنا في التصنيف، فقد جاء عنه أنه قال: "صنفت جميع كتبي ثلاث مرات"[7].

وكان مخلصاً يبتغي بذلك وجه الله تعالى، وكان يدعو الله أن يبارك بمؤلفاته، فكان يقول: «أرجو أن الله تبارك وتعالى يبارك للمسلمين في هذه المصنفات..»[8].

وأرى أنَّ الله استجاب دعاءه، وبارك في مؤلفاته، ولاسيما كتابه: الجامع الصحيح.


وفيما يتعلق بمجال المصنفات: لي عدة ملاحظات:

أولا: الناظر في قائمة مؤلفاته التي تجاوزت الثلاثين، يجد أنها كانت تستوعب كل أبواب اﻹسلام، وهذا يدل على أن اﻹمام البخاري كان يتميز بعقلية جامعة استوعب كل علوم اﻹسلام: التفسير، والحديث، والفقه، والعقيدة، والعلوم المتصلة بها، لاسيما علوم الرجال والجرح والتعديل، والعلل.


ثانياً: يمكن تصنيف مؤلفاته إلى ثلاثة أقسام:

القسم اﻷول: ما صنفه على الموضوعات، وهو ما يسمى في عصرنا بالحديث الموضوعي: وعدد المطبوعة منها ستة، والمفقودة (12) كتابا. وهي:

1- «الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسنته وأيامه»،

2- «الأدب المفرد»، وقد أفرده عن الجامع الصحيح، ولذا سمي بذلك، وطبع في الهند والقاهرة والأستانة طبعات متعددة.وبلغ عدد أحاديثه (1323). وهو كتاب لا يستغني عنه مسلم يريد أن يتأدب بآداب اﻹسلام؛ ولهذا أفرده بكتاب مستقل، ولم يشترط فيه الصحة، بل أخرج فيه الصحيح والحسن والضعيف، وهذا الصنيع من تمام فقه البخاري، واتباع لطريقة من سبقه من اﻷئمة الذين يخرجون الضعاف في مصنفاتهم كما فعل اﻹمام عبدالله بن المبارك في كتابه الزهد، وشيخه اﻹمام أحمد بن حنبل في كتابه الزهد أيضا.

3- «رفع اليدين في الصلاة»  وطبع في الهند سنة 1256هـ- 1840.

4- «القراءة خلف الإمام».

5- «خلق أفعال العباد» وسماه اللالكائي: «الرد على القدرية»، وسماه ابن ناصر الدين الدمشقي: «الرد على الجهمية».

6- «برُّ الوالدين». وقد طبع مؤخراً.


والكتب المفقودة (12) كتاباً، وهي:

1- كتاب اﻹيمان[9].

2- أخبار الصفات[10].

3- بدء المخلوقات.

4- الرقاق[11].

5- «الأشربة»، وهو مفرد عما في الصحيح، ذكره الدَّارَقُطْنِي، ونقل منه.


6- «الهبة»، قال وراقه محمد بن أبي حاتم: "قرأ علينا أبو عبد الله كتاب (الهبة)، فقال: ليس في هبة وكيع إلا حديثان مسندان أو ثلاثة. وفي كتاب عبد الله بن المبارك خمسة أو نحوه. وفي كتابي هذا خمس مائة حديث أو أكثر"[12]. بينما بلغ عدد أحاديث كتاب الهبة في صحيحه (70) حديثا، وعدد المعلقات والموقوفات والمقطوعات (20) فيكون العدد (90).


7- كتاب الاعتصام، جاء في الجامع الصحيح عند حديث أبي برزة برقم: (7272) قال: "إن الله يغنيكم أو نعشكم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم". قال أبو عبدالله: وقع هاهنا "يغنيكم" وإنما هو "نعشكم"، ينظر في أصل كتاب الاعتصام".

قال ابن حجر: " فيه إشارة إلى أنه صنف "كتاب الاعتصام" مفرداً، وكتب منه هنا ما يليق بشرطه في هذا الكتاب كما صنع في "كتاب الأدب المفرد"..."[13]. وكان سريع التصنيف، فقد قال: صنفت كتاب "الاعتصام" في ليلة[14].


8- «السنن في الفقه».[15]

9- قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم. وقد صنفه، وكان عمره ثماني عشرة سنة.

10- «التفسير الكبير»، ذكره وراقه محمد بن أبي حاتم.

11- «الجامع الصغير».

12- «الجامع الكبير»، ذكره ابن طاهر.


ويبدو لي: أن كتابه الجامع الكبير، هو أصل لكل كتبه التي ألفها بعد ذلك. وأن كتابه الجامع الصحيح هو مختصر جدا، ويكفي للتدليل على ذلك: أن كتاب الهبة المفرد فيه نحو خمس مئة حديث، بينما بلغ عدد أحاديث كتاب الهبة في الجامع الصحيح المختصر: (70) حديثا.


القسم الثاني: مؤلفات مرتبة على مسانيد الصحابة، وهي: «المسند الكبير» وهو مفقود.


القسم الثالث: مؤلفاته في علوم الرجال، والجرح والتعديل، والعلل، وقد بلغ عددها ما يقرب من ثلاثة عشر كتاباً، وهي:

1- « التاريخ الكبير» وهو كتاب كبير في التراجم رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم 1362هـ - 1943م

2- الكُنى وطبع في الهند 1360هـ- 1941.

3- «التاريخ الأوسط».

4- «التاريخ الصغير» وهو تاريخ مختصر للنبي صلى الله عليه وسلموأصحابه ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة 256هـ.

5- «الضعفاء الصغير»، وهو مطبوع. ذكر المزي أن له كتابين في الضعفاء.
وذكر الحاكم أن البخاري صنَّف في أسامي المجروحين أوراقاً يسيرة لا يبلغ عددهم إلا أقلّ من سبعمائة رجل، والذي في المطبوع لا يزيد عن أربعمائة رجل.

6- «الوحدان»، ذكره أبو نعيم، وأبو القاسم ابن منده. وهو من ليس له إلا حديث واحد من الصحابة.


والمفقود سبعة، وهي:

1- «المبسوط» رواه عنه مهيب بن سليم البخاري، فيما ذكره الخليلي.

2- «الضعفاء الكبير».

3- «مشيخة»، ذكرها الذهبي في ترجمة البخاري من تاريخ الإسلام، وقال: «حدَّث بها، ولم أرها». ولعل هذا الكتاب الذي أملاه في بلخ، فقد جاء عنه أنه قال: دخلت بلخ، فسألني أصحاب الحديث أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه حديثا.فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم[16].

4- «تسمية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم»، وذكره الدولابي، وأبو نعيم، وأبو القاسم البغوي، وأبو الفضل الهروي.

5- «العلل» رواه عنه أبو محمد عبد اللهِ بن محمد الشرقي.

6- «الفوائد»، ذكره الترمذي في جامعه.

7- «المختصر»، ذكره البخاري.


هذه المصنفات تدل على أن الإمام البخاري كان آية في معرفة الرجال، وقد شهد له الأئمة بذلك، وكانت طريقته منذ صغره أنه كان يستوفي تراجم الرجال الذين يأخذ عنهم حتى كأنه يعيش معهم، وكان يقول: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء. كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث، إن كان الرجل فهماً. فإن لم يكن سألته أن يخرج إلي أصله ونسخته. فأما الآخرون لا يبالون ما يكتبون، وكيف يكتبون[17].


ويُعد كتابه التاريخ الكبير من أهم الكتب التي اهتمت بالترجمة لرواة الأخبار، وقد اهتم الإمام البخاري في هذا الكتاب بذكر السماعات، وإثبات الاتصال من عدمه تعويلاً على ما ورد بالأسانيد الصحيحة.

وطريقته في كتابه هذا: ذِكر الرواة حسب حروف المعجم، مع تقديم المحمدين، وافتتح الكتاب بذكر شيء من سيرة النبي صلى الله عليه وسلمواسمه ونسبه.


وقد قال عنه: "حججت، ورجع أخي بأمي، وتخلفت في طلب الحديث فلما طعنت في ثمان عشرة، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك أيام عبيد الله بن موسى. وصنفت كتاب (التاريخ) إذ ذاك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلمفي الليالي المقمرة، وقل اسم في التاريخ إلا وله قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب"[18].

ونظرا لأهميته فقد أخذه شيخه الحافظ إسحاق بن راهويه، فأدخله على أمير خراسان عبد الله بن طاهر، فقال: أيها الأمير، ألا أريك سحرا؟ قال: فنظر فيه عبد الله، فتعجب منه، وقال: لست أفهم تصنيفه"[19].


وهذا يدل على أنه بلغ مرتبة الإمامة في علوم الجرح والتعديل، وحسبنا في ذلك شهادة الإمام مسلم الذي قال: "دَعْني أُقبِّلْ رجلَيك يا أستاذ الأستاذين، وسيِّد المحدِّثين، وطبيب الحديث في عِلَلِهِ"[20]. وقال أبو عيسى الترمذي: "لم أرَ بالعراق، ولا بخراسان في معنى العِلل، والتاريخ، ومعرفة الأسانيد أَعْلَم من محمد بن إسماعيل"[21].


ولهذا ذكره الحافظ الذهبي في كتابه: ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل، وعده من القسم الثالث: المعتدلون المنصفون في هذا الباب الحساس من علوم الحديث مقابل قسمين هما: المتشددون والمتساهلون[22].

وأما الكتب والرسائل العلمية التي تدرس منهجه، ومصنفاته، ومصطلحاته في الجرح والتعديل، ومنهجه في تعليل اﻷحاديث، ومناهج شراح كتابه فهذا يصعب إحصاؤه، رغم وسائل الاتصال الحديثة.


ولكن أجل كتبه: كتاب الجامع الصحيح:

ولا أعلم كتابا في الحديث النبوي الشريف حظي باهتمام اﻷمة كما حظي كتابه الصحيح. ولا أعلم كتابا في الدنيا له هيبة كهيبة كتاب صحيح البخاري!

هو أجلّ كتب الإسلام: قال الإمام النووي: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان: البخاري ومسلم، وتلقتهما الامة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة"[23].


وهناك من يتساءل عن سبب هذه المنزلة العظيمة التي بلغها هذا الكتاب؟

وأجيب: بأن البخاري كان محبا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كتب كتابه بهذه اللغة.

وقد وصف الأستاذ أبو الحسن الندوي البخاري في تعامله مع الحديث النبوي بالمحب العاشق.. ومن مظاهر هذا الحب: أنه كان يكرر الحديث لاستنباط الفوائد منه، فقد كرر حديث أنس في غزوة خيبر (36) مرة، وكرر حديث عائشة في حجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم (35) مرة.


وصدق من قال:

قالوا: لمسلم فضل
قلت: البخاري أعلى
قالوا: المكرر فيه
قلت: المكرر أحلى

ورحم الله القائل:

كرر علي حديثهم يا حادي ♦♦♦ فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي


وقد بلغ من حبه للحديث النبوي أنه كان يشغله عن النوم كثيرًا؛ قال محمد بن يوسف: "كنتُ مع البخاري بمنزله ذات ليلة، فأحصيتُ عليه أنه قام وأسرج؛ يستذكر أشياء يعلِّقها في ليلةٍ ثماني عشرة مرة"[24]!.

هذا المشروع العظيم الخالد من مشاريع الشباب، فقد استغرق البخاري في تصنيفه ست عشرة سنة، ابتدأ تأليفه وله نحو (22) سنة، وأتمه وله نحو(38) سنة[25]. وانتقاه من ستمائة ألف حديث[26]، وجملة ما فيه من الأحاديث المسندة بالمكرر سوى المتابعات (٧٥٩٣).


وقد عرضه على كبار شيوخه حفاظ الحديث في عصره، أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة[27]. ثم أخرجه، فصار الناس يسافرون إليه لسماعه منه، حتى سمعه منه نحوٌ من تسعين ألف إنسان[28]. فهو قد عرض على أئمة المحدثين أصحاب الاختصاص، وقرأ على هذا العدد الكبير من الأمة.


فيه أكثر من عشرين حديثا أطلق عليها المحدثون: ثلاثيات البخاري. وهذا يعني: أن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رجال، وهذا يعني أنه من جيل تَبَع الأتباع، وقد جاء عن عِمرانَ بنَ حُصَيْنٍ قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يلونهم"[29]. قال ابن حبان: "ذكر البيان بأن خير الناس بعد أتباع التابعين تبع الأتباع".

وهو كتاب فقه أيضاً: وقد ظهر فقهه في تراجمه، وقد جاء عن عدد من شيوخه أنهم قالوا: «محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة»[30].


ولهذا كتب له القبول في الأرض، وكان العلماء يحرصون على خدمته، وقد جمع محمد عصام عرار في كتابه إتحاف القاري بمعرفة جهود وأعمال العلماء على صحيح البخاري (376) عملاً علمياً مفرداً  ما بين شرح ورجال ومقدمات وأختام ودفع شبهات وأوهام. وقد استدرك عليه أحد الباحثين فوصل العدد إلى (500) عمل علمي حوله. هذا ما عدا الكتب التي تناولته عرضاً من غير إفراد، فهي مما يصعب إحصاؤه.


وقد كان الملوك واﻷمراء يحرصون على اقتناء النسخ النفيسة منه، ومن صوره: أن اﻷمير أقبغافي القرن السابع الهجري قد بذل في ضبط نسخته من البخاري عشرة آلاف دينار، وقد اعتنى بها الحافظ شرف الدين اليونيني الحنبلي فقابها وضبطها مع شيخ العربية ابن مالك.

وأصبحت نسخته هي العمدة في العالم الإسلامي، وعليها المعول إلى يومنا هذا[31].

وقد قدِّر عدد مخطوطاته في مكتبات العالم بأكثر من (25000) قطعة من الصحيح، وهناك نسخ لم يكشف عنها بعد، مما يرسخ جذر صحيح البخاري في ضمير الأمة[32].


وأخيرا: لا يستغرب ما لهذا الكتاب من منزلة رفيعة، فقد جاء عنه أنه قال: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام، "وكأنني واقفٌ بين يَدَيْه، وبيدي مروحة أذبُّ بها عنه، فسألتُ بعض المعبِّرين؛ فقال لي: أنت تذبُّ عنه الكذب؛ فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح"[33].

وقد شملته بركات الحرمين، فقد ابتدأ تصنيفه في  المسجد الحرام، وحوَّل تراجمه في الرَّوضة الشريفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتَيْن[34] .

السبب الثالث: تميزه في الجانب الإيماني والسلوكي التطبيقي:

والحديث عن الجانب الإيماني في حياة الإمام البخاري واسع جدا، وقد حفلت الكتب التي ترجمت له بذكر نماذج كثيرة عن تعبده، وسلوكه.

ومما يلفت النظر في هذا الجانب، أنه رغم كثرة مؤلفاته في علوم الجرح والتعديل، إلا أن الجانب السلوكي كان ظاهراً في جهوده تأصيلاً وتطبيقاً.


ففي جانب التأصيل: ألف عدة كتب منها: كتاب: اﻷدب المفرد. وما أشد حاجتنا لموضوعات هذا الكتاب في زمن ضياع القيم، واﻷخلاق في المجتمع.

وفي الجانب التطبيقي: يظهر ذلك واضحاً في مؤلفاته التي كتبها في الجرح والتعديل، وكان فيه من الورع والتقوى ما يدعو للدهشة والإعجاب، ويكفي في ذلك قوله: "أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبتُ أحدًا"[35].


قال الذهبي معلِّقًا على كلام البخاري هذا: "قلتُ: صدقَ - رحمه الله - ومن نظرَ في كلامه في الجرح والتعديل، عَلِمَ ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعِّفه، فإنه أكثر ما يقول: "منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر"، ونحو هذا، وقلَّ أنْ يقول: "فلانٌ كذَّاب، أو كان يضعُ الحديث"، حتى إنَّه قال: "إذا قلتُ: فلانٌ في حديثه نظرٌ، فهو متَّهمٌ واهٍ"، وهذا معنى قولِه: "لا يحاسبني الله أني اغتبتُ أحدًا"، وهذا هو - والله - غاية الورع"[36].


وهذا جانب مهم ينبغي اﻹشارة إليه، واﻹشادة به، وقد رأينا عددا ممن تخصص في علوم الجرح والتعديل قد غلبت عليه نزعة المبالغة في الجرح، فأخرجه ذلك عن جادة الصواب، فأصبح طعانا لعانا بل قد وصل بعضهم إلى البذاءة والفحش في خصوماتهم العلمية مع أقرانهم من العلماء. وهذا أمر يأسف له.


وطبق ذلك عملياً في حياته، فقد بلغ من شدَّة وَرَعِه، أنه أرسل إليه بضاعةً، فطلبها بعض التجار بربح خمسة آلاف درهم؛ فقال: "انصرفوا الليلة؛ فجاءه من الغد تجارٌ آخَرون، وطلبوها بربح عشرة آلاف؛ فقال: إني نويتُ أن أبيعها للذين أتوا البارحة، ولا أحبُّ أن أغيِّر نيَّتي"[37].

كما أنَّ اشتغاله بالحديث النبوي وعلومه لم يشغله عن كتاب الله سبحانه، ولم يمنعه عن التهجد، والقيام بين يدي الله سبحانه في الأسحار، فقد كان آيةً في العبادة، وأذكر مثالا عمليا على ذلك، فقد ذكر في ترجمته أنه كان يصلِّي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، ويوتِر منها بواحدة[38].


ولو درسنا ما رواه في صحيحه عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم، لرأينا أنه روى حديث ابن عباس رضي الله عنهما: كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة. يعني: بالليل[39].

وروى حديث عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة، منها الوتر، وركعتا الفجر[40].

ولكنه من حيث التطبيق العملي كان يعمل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما.


وكان يختم القرآن في رمضان عند السحر في كل ثلاث ليال، وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة، ويقول: عند كل ختم دعوة مستجابة[41].

والذي أراه أنَّ البخاري كان مستجاب الدعوة، فقد كان يقول: "لا ينبغي للمسلم أنْ يكون بحالةٍ إذا دعا لم يُسْتَجَبْ له"[42].

وكان يقول: "دعوت ربي مرتين فاستجاب لي، -يعني: في الحال-، فلن أحب أن أدعو بعد فلعله يُنقِص حسناتي"[43]. وكان ذلك من أسباب القبول الذي حظي به عند المسلمين.


السبب الرابع: جهوده العظيمة في مجال نشر الحديث النبوي الشريف بين المسلمين.

عاش اﻹمام البخاري حياته متنقلا في البلدان في بداية أمره طالبا، وبعد أن استكمل الطلب، ناشراً لكنوزها، ومحدثاً بها. ومن يقرأ سيرته يجد ذلك واضحاً، بينما لا نجد تفصيلاً عن حياته الشخصية واﻷسرية. ومن يطلع على حياته يجد عجبا في هذا الباب، ويصدق فيه وصف: الحال المرتحل.


ويكفي للتدليل على ذلك: أن كتابه الصحيح سمعه منه تسعون ألف إنسان في عدد من البلدان.

وقد ذكر اﻹمام محمد بن يوسف الفربري (ت: 320) وهو آخر من روى الجامع الصحيح عن البخاري أنه سمعه منه ثلاث مرات، مرة بفربر سنة (240) ومرة ثانية ببخارى سنة (250) ومرة ثالثة بفربر سنة (253) و(254) و(255).


ورواية الفربري هي: "أتم الروايات" كما قال ابن حجر. وهي العمدة، وهي التي شاعت في الشرق والغرب إلى يومنا هذا.

وقد ذكر الحاكم النيسابوري أنَّ البخاري ورد نيسابور سنة (250) فأقام بها خمس سنين يحدث على الدوام»[44].

وهذا يدل على أنه كان يتنقل في البلاد لنشر سنة النبي صلى الله عليه وسلم.


ومن أيامه المشهودة، ومجالسه العامرة يوم دخل (البصرة): "قال يوسفُ بنُ موسى المروزي: كنتُ بالبصرة في (جامعها) إذ سمعتُ مناديًا يُنادي: يا أهلَ العلم لقد قدمَ محمد بن إسماعيل البخاري. فقاموا إليه، وكنتُ معهم، فرأينا رجلًا شابًا ليس في لحيته بياضٌ، فصلى خلف الأسطوانة، فلما فرغ أحدقوا به وسألوه أنْ يعقد لهم مجلسًا للإملاء، فأجابهم إلى ذلك، فقام المنادي ثانيًا في جامع البصرة فقال: يا أهلَ العلم لقد قدمَ محمد بن إسماعيل البخاري، فسألناه أن يعقد مجلس الإملاء، فأجاب بأنْ يجلس غدًا في موضع كذا.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day