البحث
المبحث الحادي عشر: موت النبي صلى الله عليه وسلم شهيدًا
1835
2019/01/03
2024/12/20
عن عائشة ’ قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام([1]) الذي أكلت بخيبر([2])، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَري([3]) من ذلك السم))([4]).
وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعد أكله من الشاة المسمومة بخيبر ثلاث سنين، حتى كان وجعه الذي قُبض فيه([5])، وقد ذُكِرَ أن المرأة التي أعطته الشاة المسمومة أسلمت حينما قالت: من أخبرك؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشاة المسمومة أخبرته، وأسلمت وعفا عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أولًا، ثم قتلها بعد ذلك قصاصًا ببشر بن البراء بعد أن مات رضي الله عنه ([6])، وقد ثبت الحديث متصلًا أن سبب موته صلى الله عليه وسلم هو السم، فعن أبي سلمة قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمَّتها([7])، فأكل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منها، وأكل القوم، فقال: ((ارفعوا أيديكم، فإنها أخبرتني أنها مسمومة))، فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية: ((ما حملك على الذي صنعت))؟ قالت: إن كنت نبيًّا لم يضرّك الذي صنعت، وإن كنت ملكًا أرحت الناس منك ((فأمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقتلت))، ثم قال في وجعه الذي مات فيه: ((ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري))([8])، وقالت أم بشر للنبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ما يتهم بك يا رسول اللَّه؟ فإني لا أتهم بابني إلا الشاة المسمومة التي أكل معك بخيبر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنا لا أتهم بنفسي إلا ذلك، فهذا أوان انقطاع أبهري))([9]).
وقد جزم ابن كثير رحمه اللَّه تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا([10])، ونقل: ((وإن كان المسلمون ليرون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا مع ما أكرمه اللَّه به من النبوة))([11])، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((لئن أحلف تسعًا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قتل قتلًا أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك؛ لأن اللَّه اتخذه نبيًّا، واتخذه شهيدًا))([12]).
وعن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي بهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف [في صلاة الفجر]، ففجأهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كشف سِترَ حجرةِ عائشة ’ [وهم في صفوف الصلاة]، وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف([13])، ثم تبسَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يضحك، [وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا] [برؤية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم]، [فنكص([14]) أبو بكر رضي الله عنه على عقبيه ليصل الصف، وظنَّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة]، [فأشار إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم [بيده] أن أتموا صلاتكم، [ثم دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم] [الحجرة]، وأرخى الستر، فتوفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: [وتوفي من آخر ذلك اليوم]([15])، وفي رواية: [لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا]([16])، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدَّم، فقال نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه، فلمّا وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرًا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدَّم، وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يُقدر عليه حتى مات([17]).
وخلاصة القول: إن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 - موت النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى شهيدًا؛ لأن اللَّه اتخذه نبيًّا ، واتخذه شهيدًا صلى الله عليه وسلم.
2 - عداوة اليهود للإسلام وأهله ظاهرة من قديم الزمان، فهم أعداء اللَّه ورسله.
3 - عدم انتقام النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، بل يعفو ويصفح؛ ولهذا لم يعاقب من سمَّت الشاة المصلية، ولكنها قُتِلتْ بعد ذلك قصاصًا ببشر بن البراء بعد أن مات بِصُنعها.
4 - معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم وهي أن لحم الشاة المصلية نطق، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسموم.
5 - فضل اللَّه تعالى على عباده أنه لم يقبض نبيهم إلا بعد أن أكمل به الدين، وترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
6 - محبة الصحابة رضى الله عنهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم فرحوا فرحًا عظيمًا عندما كشف الستر في صباح يوم الإثنين وهو ينظر إليهم وصلاتهم، فأدخل اللَّه بذلك السرور في قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ناصح لأمته يحب لهم الخير؛ ولهذا ابتسم وهو في شدة المرض فرحًا وسرورًا بعملهم المبارك.
---------------------------------------------
([1]) ما أزال أجد ألم الطعام: أي أحس الألم في جوفي بسبب الطعام. الفتح، 8/131.
([2]) وذلك أنه عندما فتح خيبر أُهديت له صلى الله عليه وسلم شاة مشوية فيها سم، وكانت المرأة اليهودية قد سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، فلما تناول الذراع لاك منها مضغة، ولم يسغها، وأكل معه بشر بن البراء فأساع لقمته، ومات منها، وقال لأصحابه: أمسكوا عنها، فإنها مسمومة، وقال لها: ما حملك على ذلك؟ فقالت: أردت إن كنت نبيّاً فيطلعك اللَّه، وإن كنت كاذباً فأريح الناس منك...)). انظر: فتح الباري، 7/197، والقصة في البخاري، برقم 3169، و4249، و5777، والبداية والنهاية لابن كثير، 4/208.
([3]) الأبهر عرق مستبطن بالظهر، متصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه. الفتح، 8/131.
([4]) البخاري مع الفتح، 8/131، برقم 4428 وقد وصله الحاكم والإسماعيلي. انظر: الفتح، 8/131.
([5]) انظر: الفتح، 8/131، فقد ساق آثاراً موصولة عند الحاكم، وابن سعد. الفتح، 8/131.
([6]) انظر: التفصيل في: فتح الباري، 7/497، والبداية والنهاية لابن كثير، 4/208- 212.
([7]) سمتها: جعلت فيها سماً.
([8]) أبو داود، برقم 4512، وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: صحيح سنن أبي داود، 3/855.
([9]) أبو داود، برقم 4513، وصحح إسناده الألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود، 3/855.
([10]) انظر: البداية والنهاية، 4/210، و211، و4/210 – 212، و5/223 – 244.
([11]) انظر: المرجع السابق، 4/211.
([12]) ذكره ابن كثير، وعزاه بإسناده إلى البيهقي. انظر: البداية والنهاية، 5/227.
([13]) كأن وجهه ورقة مصحف: عبارة وكناية عن الجمال البارع، وحسن البشرة، وصفاء الوجه، واستنارته. شرح الأبي على صحيح مسلم، 2/310.
([14]) فنكص على عقبيه: أي رجع القهقرى فتأخر، لظنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليصلي بالناس، الفتح، 2/165.
([15]) وقد ذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم مات حين اشتد الضحى، ويجمع بينهما بأن إطلاق الأخير بمعنى: ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار، وذلك عند الزوال، واشتداد الضحى يقع قبل الزوال، ويستمر حتى يتحقق زوال الشمس، وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب بأنه صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشمس. الفتح، 8/143 -144.
([16]) ابتداء من صلاته بهم قاعداً يوم الخميس كما تقدم. انظر: فتح الباري، 2/165، والبداية، 5/235.
([17]) البخاري، برقم 608، و681، و754، و1205، و4448، ومسلم، برقم 419، والألفاظ مقتبسة من جميع المواضع، وانظر: مختصر صحيح الإمام البخاري للألباني، 1/174، برقم 374.