1. المقالات
  2. الجزء الثاني_زاد المعاد
  3. فصل في قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم

فصل في قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم

6005 2007/11/27 2024/03/19

 
فصل في قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم


قال ابن إسحاق وفد على رسول الله وفد نصارى نجران بالمدينة فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال لما قدم وفد نجران على رسول الله دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده فأراد الناس منعهم فقال رسول الله دعوهم فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم قال وحدثني يزيد بن سفيان عن ابن البيلماني عن كرز بن علقمة قال قدم على رسول الله وفد نصارى نجران ستون راكبا منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب أمير القوم ودو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس  وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم

 

 

فلما وجهوا إلى رسول الله من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال له كرز تعس الأبعد يريد رسول الله فقال له أبو حارثة بل أنت تعست فقال ولم يا أخي فقال والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره فقال له كرز فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك قال ابن إسحاق وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال حدثني سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله فتنازعوا عنده فقالت الأحبار ما كان إبراهيم إلا يهوديان وقالت النصارى ما كان إلا نصرانيا فأنزل الله عز وجل فيهم (   قل يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوارة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) ( آل عمران 65 , 66 ) فقال رجل من الأحبار أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم وقال رجل من نصارى نجران أو ذلك تريد يا محمد وإليه  تدعونا فقال رسول الله معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا أمرني فأنزل الله عز وجل في ذلك (   ما كان لبشر أن يؤتية الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) ( آل عمرآن 79 )

 

 

 ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه وإقرارهم به على أنفسهم فقال (   وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) إلى قوله (   من الشاهدين ) ( آل عمرآن 81 ) وحدثني محمد بن سهلة بن أبي أمامة قال لما قدم وفد نجران على رسول الله يسألونه عن عيسى بن مريم نزل فيهم فاتحة آل عمران إلى رأس الثمانين منها وروينا عن أبي عبدالله الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده قال يونس وكان نصرانيا فأسلم إن رسول الله كتب إلى أهل نجران باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه فظع به وذعر به ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزل معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب فدفع الأسقف كتاب رسول الله إليه فقرأه فقال الأسقف يا أبا مريم ما رأيك فقال شرحبيل قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما  يؤمن أن يكون هذا هو ذلك الرجل ليس لي في النبوة رأي لو كان من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فاجلس فتنحى شرحبيل فجلس ناحية فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبدالله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل فقال له الأسقف تنح فاجلس فتنحى فجلس ناحية فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل وعبدالله فأمره الأسقف فتنحى فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ورفعت المسوح في الصوامع وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار وإذا كان فزعهم بالليل ضرب الناقوس ورفعت النيران في الصوامع فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل فقرأ عليهم كتاب رسول الله وسألهم عن الرأي فيه فاجتمع رأي أهل الوادي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض الحارثي فيأتوهم بخبر رسول الله

 

 


فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من الحبرة وخواتيم الذهب ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم كانا   يخرجان العير في الجاهلية إلى نجران فيشترى لهما من برها وثمرها وذرتها فوجدوهما في ناس من الأنصار والمهاجرين في مجلس فقالوا يا عثمان ويا عبد الرحمن إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد علينا سلامنا وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما أنعود فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم فقال علي لعثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يأتوا إليه ففعل الوفد ذلك فوضعوا حللهم وخواتيمهم ثم عادوا إلى رسول الله فسلموا عليه فرد سلامهم ثم سألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له ما تقول في عيسى عليه السلام فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى فيسرنا إن كنت نبيا أن نعلم ما تقول فيه فقال رسول الله ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى عليه السلام فأصبح الغد وقد أنزل الله عز وجل (   إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) ( آل عمران 59 - 61 ) فأبوا أن يقروا بذلك

 

 

 فلما أصبح رسول الله الغد بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين رضي الله عنهما في خميل له وفاطمة رضي الله عنها تمشي عند ظهره للمباهلة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبية يا عبد الله بن شرحبيل ويا جبار بن فيض قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله أرى أمرا مقبلا وأرى والله إن كان هذا الرجل  ملكا مبعوثا فكنا أول العرب طعن في عينه ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور قومه حتى يصيبونا بجائحة وإنا أدنى العرب منهم جوارا وإن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك فقال له صاحباه فما الرأي فقد وضعتك الأمور على ذراع فهات رأيك فقال رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له أنت وذاك فلقي شرحبيل رسول الله فقال إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك فقال وما هو قال شرحبيل حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز فقال رسول الله لعل وراءك أحدا يثرب عليك فقال له شرحبيل سل صاحبي فسألهما فقالا ما ير الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل فقال رسول الله كافر أو قال جاحد موفق

 

 

فرجع رسول الله ولم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه فكتب لهم في الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لنجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر ألف حلة وكل حلة أوقية ما زادت على الخراج أو نقصت على الأواقي فبحساب وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بحساب وعلى نجران مثواة رسلي ومتعتهم بها عشرين فدونه ولا يحبس رسول فوق شهر وعليهم عارية ثلاثين  درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومغدرة وما هلك مما أعاروا رسولي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسولي حتى يؤديه إليهم ولنجران وحسبها جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وتبعهم وأن لايغيروا مما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا وافه عن وفهيته وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وليس عليهم ريبه ولا دم جاهلية ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم جقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير منقلبين بظلم شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة وكتب حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له بشر بن معاوية وكنيته أبو علقمة فدفع الوفد كتاب رسول الله إلى الأسقف فبينا هو يقرؤه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر غير أنه لا يكني عن رسول الله فقال له الأسقف عند ذلك قد تعست والله نبيا مرسلا فقال بشر لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى آتيه فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثنى الأسقف ناقته عليه فقال له  افهم عني إنما قلت هذا لتبلغ عني العرب مخافة أن يقولوا إنا أخذنا حمقة أو نخعنا لهذا الرجل بما لم تنخع به العرب ونحن أعزهم وأجمعهم دارا فقال له بشر لا والله لا أقيلك ما خرج من رأسك أبدا فضرب بشر ناقته وهو مول ظهره للأسقف وهو يقول

 

 

 

 


إليك تعدو قلقا وضينها معترضا في بطنها جنينها مخالفا دين النصارى دينها حتى أتى النبي ولم يزل مع النبي حتى استشهد أبو علقمة بعد ذلك ودخل الوفد نجران فأتى الراهب ابن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعة له فقال له إن نبيا قد بعث بتهامة وإنه كتب إلى الأسقف فأجمع أهل الوادي أن يسيروا إليه شرحبيل بن وداعة وعبدالله ابن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبره فساروا حتى أتوه فدعاهم إلى المباهلة فكرهوا ملاعنته وحكمه شرحبيل فحكم عليهم حكما وكتب لهم كتابا ثم أقبل الوفد بالكتاب حتى دفعوه إلى الأسقف فبينا الأسقف يقرؤه وبشر معه حتى كبت ببشر ناقته فتعسه فشهد الأسقف أنه نبي مرسل فانصرف أبو علقمة نحوه يريد الإسلام فقال الراهب أنزلوني وإلا رميت بنفسي من هذه الصومعة فانزلوه فانطلق الراهب بهدية إلى رسول الله منها هذا البرد الذي يلبسه الخلفاء والقعب والعصا وأقام الراهب بعد ذلك يسمع كيف ينزل الوحي والسنن والفرائض والحدود وأبي الله للراهب الإسلام فلم يسلم واستأذن رسول الله في الرجعة إلى قومه وقال إن لي حاجة ومعادا إن شاء الله تعالى فرجع إلى قومه فلم يعد حتى قبض رسول الله وإن الأسقف أبا الحارث أتى رسول الله ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه وأقاموا عنده يستمعون ما ينزل الله عليه فكتب للأسقف هذا الكتاب وللأساقفة بنجران بعده بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وأهل بيعهم ورقيقهم وملتهم وسوقتهم وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا مما كانوان عليه على ذلك جوار الله ورسوله أبدا ما نصحوا وأصلحوا عليهم غير منقلبين بظالم ولا ظالمين وكتب المغيرة بن شعبة فلما قبض الأسقف الكتاب استأذن في الانصراف إلى قومه ومن معه فأذن لهم فانصرفوا وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى ابن مسعود أن السيد والعاقب أتيا رسول الله فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه لا تلاعنه فوالله إن كان نبيا فلاعنته لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالوا له نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال رسول الله لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين فاستشرف لها أصحابه فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام قال هذا أمين هذه الأمة ورواه البخاري في صحيحه من حديث حذيفة بنحوه وفي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة قال بعثني رسول الله   إلى نجران فقالوا فيما قالوا أرأيت ما يقرؤون يا أخت هارون وقد كان بين عيسى وموسى ما قد علمتم قال فأتيت النبي فأخبرته قال أفلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين الذين كانوا قبلهم وروينا عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال وبعث رسول الله علي بن أبي طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم

 

 

 


فصل في فقه هذه القصة


ففيها جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين وفيها تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضا إذا كان ذلك عارضا ولا يمكنون من اعتياد ذلك وفيها أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله بأنه نبي لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته فإذا تمسك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردة منه ونظير هذا قول الحبرين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل فلما أجابهما قالا نشهد أنك نبي قال فما يمنعكما من اتباعي قالا نخاف أن تقتلنا اليهود ولم يلزمها بذلك الإسلام ونظير ذلك شهادة عمه أبي طالب له بأنه صادق هو وأن دينه من خير أديان البرية دينا ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب  والمشركين له بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا وقد اختلف أئمة الإسلام في الكافر إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله ولم يزد هل يحكم بإسلامه بذلك على ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد إحداها يحكم بإسلامه بذلك والثانية لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بشهادة أن لا إله إلا الله والثالثة أنه إذا كان مقرا بالتوحيد حكم بإسلامه وإن لم يكن مقرا لم يحكم بإسلامه حتى يأتي به وليس هذا موضع اسيتفاء هذه المسألة وإنما أشرنا إليه إشارة وأهل الكتابين مجمعون على أن نبيا يخرج في آخر الزمان وهم ينتظرونه ولا يشك علماؤهم في أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وإنما يمنعهم من الدخول في الإسلام رئاستهم على قومهم وخضوعهم لهم وما ينالونه منهم من المال والجاه ومنها جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة فليول ذلك إلى أهله وليخل بين المطي وحاديها والقوس وباريها ولولا خشية الإطالة لذكرنا من الحجج التي تلزم أهل الكتابين الإقرار بأنه رسول الله بما في كتبهم وبما يعتقدونه بما لا يمكنهم دفعه ما يزيد على مائة طريق ونرجو من الله سبحانه إفرادها بمصنف مستقل

 

 

 

 


ودار بيني وبين بعض علمائهم مناظرة في ذلك فقلت له في أثناء  الكلام ولا يتم لكم القدح في نبوة نبينا إلا بالطعن في الرب تعالى والقدح فيه ونسبته إلى أعظم الظلم والسفه والفساد تعالى الله عن ذلك فقال كيف يلزمنا ذلك قلت بل أبلغ من ذلك لا يتم لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبى صادق وهو بزعمكم ملك ظالم فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه ما لم يقله ثم يتم له ذلك ويستمر حتى يحلل ويحرم ويفرض الفرائض ويشرع الشرائع وينسخ الملل ويضرب الرقاب ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق ويسبي نساءهم وأولادهم ويغنم أموالهم وديارهم ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض وينسب ذلك كله إلى أمر الله تعالى له به ومحبته له والرب تعالى يشاهده وما يفعل بأهل الحق وأتباع الرسل وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثا وعشرين سنة وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ويعلي أمره ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر وأعجب من ذلك أنه يجيب دعواته ويهلك أعداءه من غير فعل منه نفسه ولا سبب بل تارة بدعائه وتارة يستأصلهم سبحانه من غير دعاء منه ومع ذلك يقضي له كل حاجة سأله إياها ويعده كل وعد جميل ثم ينجز له وعده على أتم الوجوه وأهنئها وأكملها هذا وهو عندكم في غاية الكذب والافتراء والظلم فإنه لا أكذب ممن كذب على الله واستمر على ذلك ولا أظلم وتبديلها بما يريد هو وقتل أولياءه وحزبه وأتباع رسله واستمرت نصرته عليهم دائما والله تعالى في ذلك كله يقره ولا يأخذ منه باليمين ولا يقطع منه الوتين وهو يخبر عن ربه أنه أوحى إليه أنه لا ( فمن  أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال  أوحي إلى ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) ( الأنعام 93 ) فيلزمكم معاشر من كذبه أحدا أمرين لا بد لكم منهما إ

 

 

 

 

ما أن تقولوا لا صانع للعالم ولا مدبر ولو كان للعالم صانع مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه ولقابله أعظم مقابلة وجعله نكالا للظالمين إذ لا يليق بالملوك غير هذا فكيف بملك السماوات والأرض وأحكم الحاكمين الثاني نسبة الرب إلى ما لا يليق به من الجور والسفه والظلم وإضلال الخلق دائما أبد الآباد لا بل نصرة الكاذب والتمكين له من الأرض وإجابة دعواته وقيام أمره من بعده وإعلاء كلماته دائما وإظهار دعوته والشهادة له بالنبوة قرنا بعد قرن على رؤوس الأشهاد في كل مجمع وناد فأين هذا من فعل أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فلقد قدحتم في رب العالمين أعظم قدح وطعنتم فيه أشد طعن وأنكرتموه بالكلية ونحن لا ننكر أن كثيرا من الكذابين قام في الوجود وظهرت له شوكة ولكن لم يتم له أمره ولم تطل مدته بل سلط عليه رسله وأتباعهم فمحقوا أثره وقطعوا دابره واستأصلوا شأفته هذه سنته في عباده منذ قامت الدنيا وإلى أن يرث الأرض ومن عليها فلما سمع مني هذا الكلام قال معاذ الله أن نقول إنه ظالم أو كاذب بل كل منصف من أهل الكتاب يقر بأن من سلك طريقه واقتفى أثره فهو من أهل النجاة والسعادة في الأخرى قلت له فكيف يكون سالك طريق الكذاب ومقتفي أثره بزعمكم من أهل النجاة والسعادة فلم يجد بدا من الاعتراف برسالته ولكن لم يرسل إليهم قلت فقد لزمك تصديقه ولا بد وهو قد تواترت عنه الأخبار بأنه رسول الله رب العالمين إلى الناس أجمعين كتابيهم وأميهم  ودعا أهل الكتاب إلى دينه وقاتل من لم يدخل في دينه منهم حتى أقروا بالصغار والجزية فبهت الكافر ونهض من فوره والمقصود أن رسول الله لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي وكذلك أصحابه من بعده وقد أمره سبحانه بجدالهم بالتي هي أحسن في السورة المكية والمدينة وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحجة إلى المباهلة وبهذا قام الدين وإنما جعل السيف ناصرا للحجة وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته وهو سيف رسوله وأمته

 

 


فصل


ومنها أن من عظم مخلوقا فوق منزلته التي يستحقها بحيث أخرجه عن منزلة العبودية المحضة فقد أشرك بالله وعبد مع الله غيره وذلك مخالف لجميع دعوة الرسل وأما قوله إنه كتب إلى نجران باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فلا أظن ذلك محفوظا وقد كتب إلى هرقل بسم الله الرحمن الرحيم وهذه كانت سنته في كتبه إلى الملوك كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقد وقع في هذه الرواية هذا وقال ذلك قبل أن ينزل عليه (   طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين ) ( النمل 1 ) وذلك غلط على غلط فإن هذه السورة مكية باتفاق وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك وفيها جواز إهانة رسل الكفار وترك كلامهم إذا ظهر منهم التعاظم والتكبر فإن رسول الله لم يكلم الرسل ولم يرد السلام عليهم حتى لبسوا ثياب سفرهم وألقوا حللهم وحلاهم

 

 

 


 ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ولم يقل إن ذلك ليس لأمتك من بعدك ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ولم ينكر عليه الصحابة ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ولم ينكر عليه ذلك وهذا من تمام الحجة ومنها جواز صلح أهل الكتاب على ما يريد الإمام من الأموال ومن الثياب وغيرها ويجري ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم فلا يحتاج إلى أن يفرد كل واحد منهم بجزية بل يكون ذلك المال جزية عليهم يقتسمونها كما أحبوا ولما بعث معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا والفرق بين الموضعين أن أهل نجران لم يكن فيهم مسلم وكانوا أهل صلح وأما اليمن فكانت دار الإسلام وكان فيهم يهود فأمره أن يضرب الجزية على كل واحد منهم والفقهاء يخصون الجزية بهذا القسم دون الأول وكلاهما جزية فإنه مال مأخوذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام
ومنها جواز ثبوت الحلل في الذمة كما تثبت في الدية أيضا وعلى هذا يجوز ثبوتها في الذمة بعقد السلم وبالضمان وبالتلف كما تثبت فيها بعقد الصداق والخلع

 

 


ومنها أنه يجوز معاوضتهم على ما صالحوا عليه من المال بغيره من أموالهم بحسابه ومنها اشتراط الإمام على الكفار أن يؤووا رسله ويكرموهم ويضيفوهم أياما معدودة ومنها جواز اشتراطه عليهم عارية ما يحتاج المسلمون إليه من سلاح   أو متاع أو حيوان وأن تلك العارية مضمونة لكن هل هي مضمونة بالشرط أو بالشرع هذا محتمل وقد تقدم الكلام عليه في غزوة حنين وقد صرح ها هنا بأنها مضمونة بالرد ولم يتعرض لضمان التلف ومنها أن الإمام لا يقرأ أهل الكتاب على المعاملات الربوية لأنها حرام في دينهم وهذا كما لا يقرهم على السكر ولا على اللواط والزنى بل يحدهم على ذلك ومنها أنه لا يجوز أن يؤخذ رجل من الكفار بظلم آخر كما لا يجوز ذلك في حق المسلمين وكلاهما ظلم

 

 

 


ومنها أن عقد العهد والذمة مشروط بنصح أهل العهد والذمة وإصلاحهم فإذا غشواالمسلمين وأفسدوا في دينهم فلا عهد لهم ولا ذمة وبهذا أفتينا نحن وغيرنا في انتقاض عهدهم لما حرقوا الحريق العظيم في دمشق حتى سرى إلى الجامع وبانتقاض عهد من واطأهم وأعانهم بوجه ما بل ومن علم ذلك ولم يرفعه إلى ولي الأمر فإن هذا من أعظم الغش والضرر بالإسلام والمسلمين ومنها بعث الإمام الرجل العالم إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام وأنه ينبغي أن يكون أمينا وهو الذي لا غرض له ولا هوى وإنما مراده مجرد مرضاة الله ورسوله لا يشوبها بغيرها فهذا هو الأمين حق الأمين كحال أبي عبيدة بن الجراح ومنها مناظرة أهل الكتاب وجوابهم عما سألوه عنه فإن أشكل على المسؤول سأل أهل العلم ومنها أن الكلام عند الإطلاق يحمل على ظاهرة حتى يقوم دليل على خلافه وإلا لم يشكل على المغيرة قوله تعالى (   يا أخت هارون )   هذا وليس في الآية ما يدل على أنه هارون بن عمران حتى يلزم الإشكال بل المورد ضم إلى هذا أنه هارون بن عمران ولم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه أخو موسى بن عمران ومعلوم أنه لا يدل اللفظ على شيء من ذلك فإيراده إيراد فاسد وهو إما من سوء الفهم أو فسد القصد

 

 


وأما قول ابن إسحاق إن النبي بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم فقد يظن أنه كلام متناقض لأن الصدقة والجزية لا تجتمعان وأشكل منه ما ذكره هو وغيره أن النبي بعث خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا فإن استجابوا فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم فخرج خالد حتى قدم عليهم فبعث الركاب يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتب بذلك إلى رسول الله فكتب إليه رسول الله أن يقبل ويقبل إليه بوفدهم وقد تقدم أنهم وفدوا على رسول الله فصالحهم على ألفي حلة وكتب لهم كتاب أمن وأن لا يغيروا عن دينهم ولا يحشروا ولا يعشروا وجواب هذا أن أهل نجران كانوا صنفين نصارى وأميين فصالح النصارى على ما تقدم وأما الأميون منهم فبعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا وقدم وفدهم على النبي وهم الذين قال لهم رسول الله بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية قالوا كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم قال صدقتم وأمر عليهم قيس بن الحصين وهؤلاء هم بنو الحارث بن كعب فقوله بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم أو  جزيتهم أراد به الطائفتين من أهل نجران صدقات من أسلم منهم وجزية النصارى


 

المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day