البحث
المبحث الرابع: دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام
هو أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم بن آزر عليه الصلاة والسلام، جعل الله تعالى في ذريته النبوة والكتاب، فما نزل كتاب من السماء بعده عليه السلام إلا كان في ذريته وشيعته، وهذه مرتبة عظيمة ومقام رفيع اختص الله بها خليله إبراهيم عليه السلام
قال عز وجل:
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
وقال جل شأنه:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
وقد بعث الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام في فترة من الرسل عم فيها الشرك بأنواعه الأرض وسادت الوثنية واستحكم الجهل والضلال، فاختار الله رسوله إبراهيم واصطفاه لهذه المهمة العظيمة، فقام بها خير قيام، وأدى الأمانة خير أداء، وهو أحد أولي العزم من الرسل، دعا الله عز وجل أن يبعث رسولاً في هذه الأمة فاستجاب الله تعالى دعوته وبعث خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً عليه الصلاة والسلام، وكان من إكرام الله تعالى لخليله عليه السلام أن أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وقص الله تعالى دعوة إبراهيم عليه في سور كثيرة من كتابه١.والحديث عن إبراهيم عليه السلام ودعوته طويل، والمواقف والعبر فيها كثير،
أكتفي بذكر أهمها
١- في دعوة أبيه:
كان أبوه أول المكذبين بدعوته، والمعرضين عنها، والمعارضين لها، وقد بذل إبراهيم عليه السلام جهده في دعوة أبيه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتخليصه من عبادة غير الله تعالى، واتسمت دعوته لأبيه بالأدب الجم والتواضع العظيم، مع بلاغة في الحجة، وقوة في البرهان، وقص الله تعالى ذلك في كتابه الكريم
فقال سبحانه:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً}
يعرض القرآن الكريم هذا الحوار بين إبراهيم عليه السلام وأبيه أبلغ العرض وأحسنه، وقد تجلت فيه حكمة إبراهيم الخليل عليه السلام وأدبه مع أبيه، وحرصه على هدايته إلى الصراط المستقيم، وما قابله به أبوه من التكذيب والتهديد والوعيد الذي لم يزد إبراهيم عليه إلا أدباً إلى أدبه وحرصاً وصبراً على دعوة أبيه ووعده بأن يستغفر الله تعالى له، وقد وفى بوعده عليه السلام، حتى نهاه الله تعالى عن ذلك فانتهى
.ولم يقتصر حرصه على هداية أبيه في الدنيا بل سيكون ذلك حتى في يوم القيامة، فقد أخرج البخاري رحمه الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار"
وهذا الحرص من الخليل عليه السلام على هداية أبيه يشبه حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هداية عمه أبي طالب، وحرصه الشديد على ذلك حتى وهو في سكرات الموت، وهو يقول:"يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله"، ولكن جلساء السوء ما زالوا به يذكرونه ما كان عليه من دين آبائه وأجداده حتى مات وهو على كفره، ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار له حتى نزل قوله تعالى:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}
ونزل في أبي طالب خاصة:
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
وحين رأى إبراهيم عليه السلام إصرار أبيه على الكفر، وإعراضه وعداءه للحق، وعدم استجابته لدعوته، عند ذلك أعلن البراءة منه، كما بينت ذلك الآية التي سبق ذكرها، وكما جاء في قوله تعالى: في براءته عليه السلام مما كان أبوه وقومه:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
وهذه البراءة التي أعلنها الخليل عليه السلام من الشرك وأهله، وأولهم أقرب الناس إليه أبوه، هذه البراءة من أول لوازم تحقيق التوحيد وإخلاصه لله عز وجل، وهي مرتبة عالية يصل إليها من رزقه الله تعالى إيماناً صادقاً وعملاً صالحاً خالصاً لله وحده، وكلمة التوحيد لا إله إلا الله معناها الولاء والبراء، وهي العروة الوثقى،
قال الله تعالى:
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
وقد أولى القرآن الكريم والسنة النبوية عقيدة الولاء والبراء اهتماماً كبيراً،
قال الله تعالى:
{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
وقال جل شأنه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
وقال سبحانه:
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
ومن السنة ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"
وما جاء في الصحيحين أيضاً عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار"
فهذان الحديثان وغيرهما يدلان على أن المسلم يجب أن تكون ولايته ومحبته لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لا يجوز له أن يشرك فيهما أحداً مهما كانت قرابته أو مكانته،
كما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
"لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال: "والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، فقال: "الآن يا عمر"
والآيات والأحاديث وأقوال السلف في هذا الباب كثير، في الأمر بالولاء والبراء لله تعالى والنهي عما يخالفه، وبيان لمن يكون الولاء