1. المقالات
  2. الإصلاح
  3. قواعد في إصلاح الأسر المسلمة

قواعد في إصلاح الأسر المسلمة

تحت قسم : الإصلاح
100 2024/08/01 2024/08/01


من النعم التي من الله بها على عباده في هذه الحياة أن هيَّأ لهم الأُسرَ، وجعلها سكنًا ورحمةً، ولباسًا وموَّدة.

قال –جلَّ جلاله -ممتناً على عباده

 ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾

[الروم:21]

وتأمل إلى ذلك التعبير الجليل {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} لم يقل معها، ولم يقل معهم، نعم، إنها مخلوقة للراحة، فيسكن إليها، وتسكن إليه، مما يؤكد معنى الاستقرار والهدوء، ويحقق الراحة والطمأنينة بأسمى معانيها،

ولذا فقد جعل لهذا الكيان العظيم (الأسرة) أوفرَ نصيب، وشغلت الأسرة في الشريعة الإسلامية أوسعَ مساحة؛ فعُنِيَ القرآن ببيان أحكامها، وأولاها عنايته الكبيرة، فأحاطها بسياج من التشريعات، وحدد لها الحقوق والواجبات، وهذبها بجملة من التوجيهات والإرشادات، وقدم لمشكلاتها الحلول والمعالجات.

وشريعة ‌الإسلام ‌تحرص على بناء صرح الأسرة القوية المتماسكة الجادة المتعاونة؛ لكونها اللَّبِنة الأولى للمجتمع، فالزوج والزوجة، والأولاد والأحفاد يعملون بجدٍّ ونشاط؛ لتحقيق الأهداف التي أرادها الإسلام من الأسرة؛ والغاية من ذلك كله: إصلاح الأسرة وتزكيتها، وتنمية جوانب الخير والصلاح فيها؛ لأنه بصلاح الأسرة يصلح المجتمع؛ إذ هي من المجتمع بمنـزلة القلب من الجسد، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وإذا فسد القلب فسد الجسد كله.

فلابد إن أردنا صلاحا للأسر، أو أردنا أن نستنبط قواعد لإصلاحها فإنه لابد إذا من الرجوع إلى القرآن الكريم، لنستطيع مواجهة التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة المعاصرة، فالقرآن قد أعطى للأسرة تلك الأهمية البالغة، والمكانة الرفيعة، والعناية الفائقة، وقد أثبتت الأيام والتجارب عمق النظرة القرآنية؛ إذ بقيت الأسرة معقل الإسلام، وقلعته الحصينة، حين سقطت كل المعاقل، وتهاوت كل الحصون!

فحين يعيش المسلمون في ظل غياب كامل للشرائع الإسلامية، وفي ظل فساد وإفساد شامل للمؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية والسياسية، فإنه يراد بهم ساعتها أن ينخلعوا من دينهم، وأن ينسلخوا من هويتهم.

لكن مهما كانت المحاولات كثيرة ومهما سخّروا لتحقيقها من جهود وإمكانات، فإنهم لن يستطيعوا الوصول إلى مرادهم، ولا تحقيق بغيتهم في وجود أسرة مسلمة مبنية على أسس وقواعد الدين الإسلامي، وتلك القواعد نذكر منها:

أولا: -حسن العشرة والإمساك بمعروف

فالعلاقة الأسرية قوامها وجود التفاهم والانسجام بين الزوجين، وشيوع المودة والرحمة بينهما،

قال تعالى

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾

[الروم21]

والحد الأدنى من العلاقات الإنسانية الذي يرتضيه القرآن بين الزوجين هو العشرة بالمعروف، فإذا خبت جذوة الحب بين الزوجين، وجف نهر المودة بينهما؛ فلا أقل من العشرة بالمعروف،

قال تعالى

﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾

[النساء19]

ومعنى العشرة بالمعروف: أي من غير ضرار، فإذا تعذّر على الزوجين إقامة العشرة بينهما على أساس من المعروف، وفشلت كل محاولات الإصلاح بينهما، فمن الخير لهما حينئذ أن يفترقا بإحسان ومعروف،

قال تعالى

﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾

[البقرة229]

وقال سبحانه

﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾

[البقرة231]

وكيف تكون الراحة؟ وأين السكن والمودة؟ إذا كان رب البيت ثقيل الطبع، سيء العشرة، ضيق الأفق، يغلبه حمق، ويعميه تعجل، بطيء في الرضا، سريع في الغضب، إذا دخل فكثير المَنّ، وإذا خرج فسيء الظن، وقد علم أن حسن العشرة وأسباب السعادة لا تكون إلا في اللين، والبعد عن الأوهام والظنون التي لا أساس لها.

إن الغيرة قد تذهب ببعض الناس إلى سوء ظن، فيحمله سوء الظن على تأويل الكلام، والشك في التصرفات، مما ينغص العيش، ويقلق البال من غير مستند صحيح،

قال تعالى

﴿ولا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾

[الطلاق 6]

كيف وقد أخبرت السيدة عائشة رضي الله عنها أن الرسول قال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»

أما المرأة المسلمة فلتعلم أن السعادة و المودة و الرحمة لا تتم إلا حين تكون ذات عفة ودين، تعرف ما لها فلا تتجاوزه ولا تتعداه، تستجيب لزوجها فهو الذي له القوامة عليها يصونها و يحفظها و ينفق عليها، فتجب طاعته و حفظه في نفسها و ماله، تتقن عملها و تقوم به، و تعتني بنفسها و بيتها، فهي زوجة صالحة، و أم شفيقة، راعية في بيت زوجها، و مسئولة عن رعيتها، تعترف بجميل زوجها و لا تتنكر للفضل و العشرة الحسنة، فلا بد من العفو عن الزلات، و غض البصر عن الهفوات ... لا تسيء إليه إذا حضر ، و لا تخونه إذا غاب، بهذا يحصل التراضي، و تدوم العشرة و تسود الألفة و المودة و الرحمة.

وليعلم الزوجان أنه بحصول الوئام تتوفر السعادة، ويتهيأ الجو الصالح للتربية، وتنشأ الناشئة في بيت كريم مليء بالمودة عامر بالتفاهم.. بين حنان الأمومة وحدب الأبوة.. بعيد عن صخب المنازعات والاختلاف وتطاول كل واحد على الآخر. فلا شقاق ولا نزاع، ولا إساءة إلى قريب أو بعيد،

﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾

[الفرقان74]

إن العلاقة بين الزوجين علاقة روحية وإن مما يحفظ هذه العلاقة ويحافظ عليها.. المعاشرة بالمعروف، ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة كل طرف ما له وما عليه. وإن نشدان الكمال في البيت وأهل البيت أمر متعذر، والأمل في استكمال كل الصفات فيهم أو في غيرهم شيء بعيد المنال في الطبع البشري.

ومن رجاحة العقل ونضج التفكير، توطين النفس على قبول بعض المضايقات، والغض عن بعض المنغصات، والرجل -وهو رب الأسرة -مطالب بتبصير نفسه أكثر من المرأة، وقد علم أنها ضعيفة في خَلْقِها وخُلُقِها، إذا حوسبت على كل شيء عجزت عن كل شيء، والمبالغة في تقويمها يقود إلى كسرها، وكسرها طلاقها.

ثانيا: - الشورى

وهذا الأساس المهم يعتبر من أخطر الأسس التي عليه يقوم التوافق الأسري والتعاون البنائي لأي بناء مجتمعي او هيكلي، فينبغي مراعاة هذا الأساس في الحياة الأسرية، حيث أن أجواء الاستبداد والتسلط الأسري لن تمد المجتمع إلا بأفراد جبناء ضعفاء، أو قساة مستبدين!

والأمر الذي يجب أن نعيه في هذا المقام أن الشورى لن تترسخ في حياة أي أمة ما لم تترسخ في حياة الأسرة أولا.

والقرآن يلفت أنظارنا إلى أهمية التشاور بين الزوجين بقوله سبحانه:

﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾

[البقرة233]

وهذه الآية جاءت في سياق تقرير الأحكام المتعلقة برضاعة الطفل، وفيها دعوة للزوجين لكي يتشاورا ولو بعد انفصالهما وموضع الشورى هنا: مسألة رضاعة طفلهما، هل تكون حولين كاملين أم يفطم الطفل قبل الحولين (السنتين)؟

والقرآن مع تحبيذه أن تكون الرضاعة حولين كاملين:

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾

[البقرة:233]

إلا أنه لا يرى بأسا فيما إذا أراد الزوجان (فصالا) أي فطاما قبل الحولين، ما دام القرار قد اتخذ عن تراض وتشاور.

ويلفت القرآن أنظارنا كذلك إلى مشاورة الأبناء، خاصة في الأمور التي تمسهم، فهذا إبراهيم ، عليه السلام، لما أمره الله بذبح ولده إسماعيل ، خاطب إسماعيل قائلا:

﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾

[الصافات102]

والحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب أن يطلع ابنه على هذه الواقعة، ليظهر له صبره في طاعة الله، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية، ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة، والثناء الحسن في الدنيا.

ما أحوج الأزواج في هذه الأيام لإحياء مبدأ التشاور، فليحاول كل فرد أن يرسّخ مبدأ المشورة بين أفراد عائلته وأسرته، وذلك لا يعني أبدا أنك -عزيزي الزوج- تنازلت عن رجولتك لأنك صاحب القرار، بل على العكس تماما، فالزوجة عندما تسمع كلمة «أريد آخذ رأيك في شيء مهم» يكون لذلك أثرا قويا على نفسيتها، لأن ذلك يعني أن لها مكانة غالية لديك، وهذا هو ما تريده الزوجة، ولعل في موقف الرسول -- وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية دليلا وهاديا، فعندما تأثر الصحابة من بعض ما جاء في الصلح واحتار الرسول -- في كيفية إزالة هذا الأثر عنهم وحثهم على الحلق والعودة إلى المدينة، فسأل السيدة أم المؤمنين فاقترحت عليه أن يخرج أمام الناس ويحلق هو أمامهم، فإذا رأوه - وهو قدوتهم - سيفعلون مثله وينتهي الموقف وفعلا هذا ما كان .. فإذا كان رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- يستشير زوجته في قرار غاية في الأهمية، فهل يمتنع بعضنا عن مشاورة زوجاتهم عن أمور أقل من ذلك بكثير؟!

 ثالثا: - التكامل

فالعلاقة بين الزوجين في المنظور القرآني تقوم على التكامل والتعاون، وليست علاقة صراع وتناقض بين الرجل والمرأة،

وفي تقرير هذا المبدأ نقرأ قول الله تبارك وتعالى

﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾

[البقرة187]

وقوله سبحانه

﴿ولَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾

[النساء32]

فللرجال أعمالهم الكسبية، وللنساء أعمالهن الكسبية كذلك، وكل ينال أجره وثوابه على العمل الذي يؤديه على قاعدة: ((كل ميسر لما خلق له))، والتفاوت الموجود بين الرجال والنساء يجب أن يكون سببا لإثراء الحياة الإنسانية وترقيتها، لا سببا للتنازع والتصارع.

إن الشعور بالتكامل بين الزوجين يقتضي ألا يتعالى أحد على الآخر، فلا يعلو زوج على زوجته، ولا تنتقص زوجة زوجها، بل يتعاملان بتقدير وتكامل، فيؤدي هذا التكامل إلى الحب والتراحم بين الزوجين، ويظهر أثر هذا على الأبناء.

وإن أنسب ما يقال في شكل العلاقة بين الزوجين هو التكامل، فلكل من الزوج والزوجة دور في الحياة الزوجية، وبأداء هذا الدور يحدث تكامل الأدوار بينهما، وهذا التناغم في أداء الأدوار يشبه حركة التروس، فإذا تأملنا حركة التروس والفراغات التي تتداخل مع بعضها أثناء تحركها لتنتج لنا حركة الموتور، وجدنا نوع غريب ومتناسق من التناغم بين التروس لإحداث الحركة المطلوبة.

إن اختلال توزيع المسئوليات والأدوار في الأسرة نذير بتفككها وخرابها ويبتدئ ذلك ببزوغ الأنانية والإهمال والسيطرة والابتزاز المالي والنفسي وينتهي بالتفكك، ويجب ألا ينفرد الزوج باتخاذ القرار لأن قراره سيكون ناقصًا، وليتذكر كل زوج أنه المدير الإداري في المنزل، أما المدير التنفيذي فهي الزوجة لأنها أكثر اتصالًا منه بالمنزل. بعض المشاركات من قبل الرجل، في الأدوار المنزلية لها مفعول الدواء بالنسبة للزوجة. الإدارة الناجحة هي الإدارة القائمة على التشاور والتفاهم، والالتزام الدائم بالأسرة والمرونة في التعامل بين الزوجين، وأنجح القرارات الأسرية هو ما اتخذ بالتشاور بين جميع الأطراف المعنية.

إن توزيع الأدوار ضمن الأسرة الواحدة وفق الخطوط الأساسية التي شرعها الله، إنما هو تكامل للأسرة وعامل قوة ذاتية فيها، وهو أحد متطلبات المودة الإنسانية والتراحم والتكافل الإسلامي. فبالتفاهم والمصارحة بالمسئوليات نحقق أسباب الاستقرار والحفاظ على الأسرة هادئة.

رابعا: - المساواة والعدل

من الأمور المهمة لإرساء قواعد الإصلاح في الأسر وجود العدل في التعامل والمساواة بين من يوجد بينهما فارق ومن الممكن ان يُظلموا، فليعدل ولي الأمر بين الأولاد، التي ينبغي رعايتها، وهذا الحق أشار إليه النبي في الحديث الصحيح: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» فلا يجوز -مثلا -تفضيل الإناث على الذكور، كما لا يجوز تفضيل الذكور على الإناث، كما كان أهل الجاهلية يفعلون فكانوا يفضلون الذكر على الأنثى، وكانوا يغضبون إذا بشروا بولادة الأنثى، 

كما أخبر الله عز وجل في كتابه حيث قال

﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾

[النحل٥٨]

فإذا بُشّر بالإناث تمعّر وجهه وتغير، وكأنه يُبشر بسوء، نسأل الله السلامة والعافية.

فلذلك أدب الله عز وجل المسلمين على الرضا بقسمة الله عز وجل، يرضى الإنسان بالولد ذكراً كان أو أنثى، إذً كما قلنا: لا يفضل الإناث على الذكور ولا الذكور على الإناث، وإنما يعدل بين الجميع.

وكذلك حث الشرع على العدل بينهم في العطايا، وقد أشار النبي إلى هذا المعنى بقوله في الحديث الصحيح الذي يرويه لنا سيدنا النعمان بن بشير فيقول: انطلقَ بي أبي يحمِلُني إلى رسولِ اللَّهِ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ أشهد أنِّي قد نَحلتُ النُّعمانَ مِن مالي كذا وَكَذا، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ : «أَكُلَّ ولدِكَ نحَلتَ» قالَ: لا، قالَ: «أما يُسرُّكَ أن يَكونوا لَكَ في البرِّ سواءً» قالَ: بلى، قالَ: «فلا إذًا»

وفي قوله: «أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟» تعليل واضح من النبي لوجوب العدل والمساواة بين الأولاد. أي إذا كنت تريدهم أن يكونوا لك في البر سواء فاعدل بينهم، وكن منصفاً فيما تسدي إليهم، فلابد من الحرص على العدل والمساواة بين الأولاد،

ومن العدل بين الأولاد أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا هو الصحيح؛ لأنه قسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، 

وقال تعالى

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى﴾

[آل عمران:٣٦]

فإن الولد يخرج ويحتك بالناس، وتنتابه من المصاريف أكثر من الأنثى؛ ولذلك قالوا: يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا هو مذهب طائفة من أهل العلم وهو الصحيح؛ لأنه قسمة الله عز وجل ولا أعدل من الله بين خلقه، فالله عز وجل عدل بين عباده، ففضل الذكر على الأنثى من هذا الوجه، وليس في ذلك غضاضة على الأنثى ولا منقصة لها.

وقد تكون هناك موجبات خاصة استثناها بعض العلماء من العدل، فقالوا: إذا كان أحد الأولاد يتعلم أو يقوم على أمر من الأمور المختصة به، يحتاجها لصلاح دينه أو دنياه، فلا بأس أن يخص بالعطية، إذا كان عنده عمل ومحتاج إليه، قالوا: لأنه من العدل أنه عندما يتفرغ للعلم أن يعان على تعلمه؛ لأنه تفرغ لهذا العلم الذي فيه نفعه، ونفع العباد، وهكذا إذا تفرغ لكي يتعلم حدادةً أو صناعةً أو نحو ذلك؛ فإن والده إذا أراد أن يعطيه من أجل هذا التعلم فله أن ينفق عليه على قدر حاجته، ولا يلزم بإعطاء الأنثى مثل ما يعطيه أو نصف ما يعطيه؛ لأن الأنثى لا تعمل كعمله، فلو أعطى الأنثى مثل ما يعطيك؛ فإنه في هذه الحالة قد ظلم الذكر؛ لأن الأنثى أخذت من دون وجه ومن دون استحقاق، وعلى هذا فإن الواجب على الوالدين، أو من حق الأولاد على الوالدين العدل، سواءً كان ذلك في الجانب المعنوي، أو الجانب المادي.

وكان بعض العلماء يقول: ينبغي على الوالد والوالدة أن يراعيا أحاسيس ومشاعر أولادهم، فلا يحاول الوالد أن يميل إلى ولدٍ أكثر من الآخر أثناء الحديث، أو يمازحه ويباسطهُ أكثر من الآخر، وإنما يراعي العدل في جميع ما يكون منه من التصرفات لمكان الغير.

خامسا: الرحمة

الرحمة فيض من المشاركة الصادقة في الفرح والحزن، والإشفاق المخلص، والمعونة الظاهرة فيما يستطيع الإنسان أن يفعله، وقد تكون بالنظرة الحانية والابتسامة المشرقة، والكلمة الطيبة، والمساعدة المادية،

وذكر تبارك وتعالى المودة والرحمة بين الزوجين فقال

﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾

[الروم:21]

وينتج عن ذلك كله السكن النفسي الذي تتجمع فيه السعادة كلها،

قال تعالى

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾

[الروم:21]

وقال عز من قائل

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾

[الأعراف:189]

 

وصور الرحمة متعددة في نواحي الأسرة، لا تختص فيما بين الزوجين فقط، فمن صورها:

  • الرحمة بين الأزواج
  • ب‌)     الرحمة مع الآباء
  • الرحمة مع الأبناء

قال عز وجل

 ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ 

[الروم: 20]

ذلك أن البشر عامة أبناء أغيار، وكثيراً ما تتغير أحوالهم، فالقوي قد يصير إلى الضعف، والغني قد يصير إلى فقر، والمرأة الجميلة تُغيِّرها الأيام أو يهدّها المرض...إلخ.

لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما يفقد الإنسان فيها السكن، وقد يفقد المودة، وساعتها فإن الرحمة تسع كلا منهما، فليرحم الزوج زوجته إنْ قَصُرت إمكاناتها للقيام بواجبها، ولترحم الزوجة زوجها إنْ أقعده المرض أو أصابه الفقر.. إلخ.

من تجليات الرحمة مع الآباء البر والإحسان، ونجد هذا البر إما واردا في صيغ الأمر المباشر:

قال تعالى

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾

[الإسراء23-25]

كما نجد تمثل هذا الخلق في القصص القرآني؛ إذ ورد الثناء على الأبناء لالتزامهم خلق البر كما جاء في وصف يحيى بن زكريا فقد قال الله عنه 

﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾

[مريم:14]

وقال حكاية عن عيسى

 ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾

[مريم:32]

لن نجد في القرآن صيغًا للأمر المباشر بالإحسان إلى الأبناء والرحمة بهم، لأنه من دواعي الفطرة والجبلة، لذلك «يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية والعادات الجارية؛ فلا يتأكد الطلب تأكد غيره، لكننا نجد تمثلات سلوكية لهذا الأمر في القصص القرآني، ومن ذلك: -

  • نوح مع ابنه

     ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾

    [هود:42-43]

أم موسى مع موسى

﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾

[القصص:10-13]

الآثار المترتِّبة على عدم التسامح بين الزوجين: عدم التسامح بين الزوجين سيُسبِّب أمرَين:

وتتعدد تجليات الرحمة في العلاقات الأسرية في القرآن الكريم؛ مما يؤكد أن الرحمة هي المقصد الحافظ للاجتماع الأسري والتراحم الأسري هو أساس التراحم الاجتماعي، كما تعد الرحمة كليّا مقاصديا تندرج تحته مقاصد أخرى، فإذا جاز وصف شِرعة الإسلام بوصف جامع فهي شِرعة المرحمة؛ ولا ريب أن جعل الله من خصائص هذه الشرعة أن نسخت شِرعة الإصر والأغلال.

خامسا: -المحافظة على أسرار الحياة الزوجية:

من أهم أسس المحافظة على العلاقة الزوجية مراعاة خصوصياتها وعدم إفشاء أسرارها، فليس كل ما يدور بين الزوجين قابلا لأن يذاع على الأهل والجيران والأصدقاء، وهذا يشمل العلاقة الزوجية الخاصة والمعاشرة بين الزوجين، حيث بين النبي سوء من يفعل ذلك بقوله: "«إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها»، فكم تهدمت أسر حين فوجئ الزوج بأن الجيران يعرفون أدق أسرار حياته ويتناقلونها بينهم، وكم طلبت الزوجة الطلاق عندما علمت أن ما تستره عن أعين الناس قد بات مكشوفا أمام أصدقاء زوجها يتسامرون به في سهراتهم.

 كما أن خصوصية العلاقة الزوجية تتطلب حفظ ما يطرأ على الزوجين من المشكلات وعدم إذاعتها بين الناس، وذلك أدعى إلى حلها وإزالة ظلالها القاتمة، وكم من المشكلات الأسرية التي تجاوزت أسوار العلاقة الزوجية شعر صاحبها أنه يمشي مكشوفا مهتوك الستر أمام الناس فكانت أنكى في الجرح، وأعصى على الحل، لأن الزوجين اللذين ينشران أسرارهما ويخرجونها للآخرين كمن يسكن بيتا من زجاج والناس يرون ما به ويرون أعمال ساكنيه.

سادسا: -التسامح والعفو في العلاقة الزوجية

يتطلب الزواج الموفَّق الذي يَصمُد لأزمات الحياة وضُغوطها جهودًا مشتركة، يَبذلها كِلا الزوجين على مدى سنوات الزواج حتى يكون زواجهما ناجحًا؛ فالحياة بين أي زوجين لا تخلو من المشكلات والأخطاء مهما كان مدى سعادتِهما وتوفُّر التفاهم والمودَّة بينهما، ولا يُمكِن اعتبار الزواج زواجًا ناجحًا إلا إذا توفَّرت له عوامل التماسُك والاستقرار، والتي من أهمها التسامح والعفو، فمن منا لا يُخطئ.

ولكن هناك الكثير من الأزواج يرون التسامح نوعًا من الضعف، فإذا غضب الزوج أو الزوجة -أصحاب هذا الرأي -من الطرف الآخر، فتراه يُقرِّر ألا يُكلمه حتى لا يظن به أنه ضعيف، ويقول في نفسه: عليه هو أن يكلمني أولاً ثم سأُسامِحه بعد ذلك.

 فالكثير من الأزواج والزوجات يعتقدون أن التسامح يعطي الآخَر الفرصة ليتحكَّم فيه، كما أنهم يرون أن التسامح معناه تقبُّل الإهانة، وكذلك يرون أن التسامح معناه نسيان الأمر تمامًا والتعوُّد على هذا الفعل فيما بعد، إن مشكلة هؤلاء الأزواج أنهم يَعجزون عن النظر إلى حاضرهم ويَنشغِلون بماضيهم.

ولكن هناك نوع آخَر من الأزواج يرون أن تذكُّر المشكلات الماضية والتفاعُل معها واستِحضارها والحزن عليها هو حمق وجُنون؛ بل هو قتل للإرادة وتبديد للحياة الحاضرة، فملف الماضي عند العقلاء يُطوى ولا يُروى، وينبغي أن يغلق عليه في زنزانة النسيان، ويقيَّد بحبال قوية في سجن الإهمال، فهؤلاء يرون أن الناس لا يَنظرون إلى الوراء ولا يلتفتون إلى الخلف؛ لأن الريح دائمًا تتَّجه إلى الأمام فلا يجب أن يخالفوا سنة الحياة، كما أن القراءة في دفتر الماضي هي ضياع للحاضر، وتمزيق للجهد، ونسف للساعة الراهنة؛ فقد ذكر الله الأمم وما فعلت،

ثم قال سبحانه وتعالى

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾

[البقرة:134]

 فيَنبغي للزوجين أن يُصدِر كل منهما كل ليلة عفوًا عامًّا قبل النوم عن كل إساءة إليه من الطرف الآخَر، وبهذه الطريقة سوف يكسب كل منهما الأمن الداخلي والاستقرار النفسي والعفو من الرحمن الرحيم.

أولاً: زيادة الشعور والأحاسيس السلبية بينهما؛ فكلما فكر الإنسان في أمر سيئ، أو مشكلة مر بها، زادت مَشاعِره وأحاسيسه السلبية تجاه صاحِب هذا الأمر.

ثانيًا: سيُؤدِّي عدم التسامح إلى زيادة حدة المشكلة بينهما.

وبعد: -

فهذه -في رأيي والله اعلى واعلم -أهم الأسس اتي يتم بها صلاح الأسر، وعلاج خللها، وإنني أود أن أؤكد في الختام أن واقع الأسرة اليوم يشهد تحديات جديدة، ورهانات لا سابق لنا بها، ولا نجاة من تلك التحديات الجسام إلا الحرص على تطبيق الأسس القرآنية الكلية، إيمانا بدور الدين في تدبير شؤون الاجتماع، فلا خروج من هذا المشاكل الأسرية التي تهدر الكثير من طاقات الأسرة المسلمة، وتجعلها أسيرة للفعل وردة الفعل، إلا بالرجوع إلى المنهج القرآني الوسطي، بما يعنيه ذلك من استفراغ للوسع في فهمه وتنـزيله، والتماس الحلول والمعالجات لمشكلات الأسرة المسلمة المعاصرة من نور هدايته.

المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day