البحث
أعمال تولي الله أجرها
مما هو متفق عليه في عقيدة اهل السنة والجماعة ان الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وإذا ازدحمت الاعمال وتعددت، فالواجب على المسلم: -
((البحث عن الأعمال التي يحبها الله ويثيب عليها ثوابا لا يعلمه إلا هو))
فيبحث عنها ويتعلمها ويكثر منها، فإن العمر قصير والأجل قريب، والعبد لا يدري متى يُفَاجِئُهُ الأجل،
قال تعالى
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
[الأعراف8]
وقال تعالى
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾
[التوبة105]
وتلك الأعمال كثيرة ذكرها الله في كتابه، سنقتصر على ما ورد في القرآن فقط، فالسنة مليئة بالأجور المضاعفة، نظرا لضيق المجال، ومن أراد السعة فليقرأ في السنة أبواب الأجور المضاعفة، وقد ذكر الله لنا بعض تلك الاعمال.
- والاعمال تنقسم قسمين
- ما له أجر خاص به، ويدخل ضمن القاعدة العامة القرآنية التي يقول فيها ربنا
{مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ }
[الأنعام 160]
- أعمال ثوابها لا أحد يعلمه إلا الله، لعظم قدره عند الله، ولحرص العبد على ما يحبه ربه ومولاه، وليكون من الفائزين بما لا يعلمه إلا الله فإنه لابد عليه أن يتعرف على بعض تلك الأعمال ليعملها ويؤديها بل ويكثر منها. تلك الأعمال الصالحات كثيرة ذكرها الله في كتابه، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وأقواله وسيرته، والمفترض أن يحرص المسلم على اغتنام الفرص في اختيار تلك الاعمال.
يم الذي لا يعلمه إلا الله.
الجهاد في سبيل الله: -
يقول تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فمن يقاتل في سبيل اللَّه -في طلب إقامة دين الله وإعلاء كلمة الله -أعداءَ الله، بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله، ويكون العبد مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله. {
"فيُقتل" أي: فيقتله أعداء الله.
"أَوْ يَغْلِبْ" أو يغلبهم فيظفر بهم
"فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا "، يقول: فسوف نعطيه في الآخرة ثوابًا وأجرًا عظيمًا. وليس لما سمى جل ثناؤه " عظيمًا "، مقدار يعرِف مبلغَه عبادُ الله
فهذا الثواب للمجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فمن نال الشهادة وأكرمه الله بها وكان في سبيل الله، أي خرج للجهاد مقبلاً غير مدبر، مدافعاً عن دين الله سبحانه وتعالى، فأجره مدخور عند ربه،
عن أَنَسِ بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ». ما هي؟ ثوابها غير معروف.
وعن البَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: (أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالحَدِيدِ)، -يريد أن يجاهد ويقاتل، يلبس الخوذة والدرع- فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟) -وهو كافر- قَالَ: («أَسْلِمْ، ثُمَّ قَاتِلْ»)، (فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا»).
فقط قال: أسلم ثم جاهد فقتل، لا وقت لأن يقيم صلاة، ولا أن يزكي ولا أن يحج، عمل قليلاً، وعلمه عند الله، أُجر كثيراً.
وَكذلك المجاهد المخلص، الذي لا يفسد في الأرض ولا يظلم، أجره عظيم وثوابه جسيم، فـعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("الْغَزْوُ غَزْوَانِ") -أَيْ: الْغَزْوُ نَوْعَانِ-: ("فَأَمَّا مَنْ ابْتَغَى وَجْهَ اللهِ، وَأَطَاعَ الْإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ")، -يعطي الأشياء الجيدة والنفيسة، ("وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ")، -ياسر من اليسر والسهولة-، ("وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ")، -في الأرض-؛ ("فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنُبْهَتَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ")، -وهو نائم له أجر وهو مستيقظ له أجر، كم؟ علمه عند الله سبحانه وتعالى،
("وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا، وَرِيَاءً، وَسُمْعَةً، وَعَصَى الْإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ")، ("فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِالْكَفَافِ") هذا لا يرجع كما خرج، بل لا يرجع بالكفاف، يرجع بذنوب والعياذ بالله.
ذكر الله: -
فالذكر عامة أجره عظيم عند الله، فالذِّكر للقلوب قوتٌ يوميّ لا تُتصوّر الحياة دونه، ومن هذه الحقيقة جاء التمثيل النبوي الرائع؛ ليبيّن حال الذاكرين وما يُقابله من حال الغافلين اللاهين، يقول تعالى {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فمن يكثر من ذكر الله ويديم على الأذكار المطلقة والمقيدة، فإن الله يجزيه على هذا خير جزاء فيغفر لهم ذنوبهم، بل وليس هذا فقط -بل أعد لهم {أَجْرًا عَظِيمًا} لا يقدر قدره، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل اللّه أن يجعلنا منهم.
وقد ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يوضح هذا المعن ويؤكده، وهذا كثير جدا في فضائل الذكر، ومنها: -
ما رواه سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه حين قال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبِّئُكم بخير أعمالِكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهبِ والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله".
فلذِكرِ اللهِ تَعالَى فوائدُ كثيرةٌ؛ من أهمها وأعظمها وأجلها أنه من خير الأعمال "بخيرِ أعمالِكم"، أي: أفضلها وأشرَفِها، "وأزْكاها"، أي: أَنْماها وأطهَرِها وأنقاها، عندَ "مَليكِكم"، المليكُ بمَعْنى المالكِ، وهو اللهُ عزَّ وجلَّ؛ فهو المَلِكُ والمالِكُ سبحانه وتعالى، "وأرفَعِها في دَرَجاتِكم"، أي: مَنازِلِكم في الجنَّةِ يومَ القيامةِ، "وخيرٍ لَكُم مِن إنفاقِ"، أي: التَّصدُّقِ وبَذْلِ أموالِكم مِن "الذَّهبِ"، وهو المعدِنُ المعروفُ، "والوَرِقِ"، أي: الفِضَّةِ، "وخيرٍ لكم مِن أن تَلْقَوْا عدوَّكم" مِن الكُفَّارِ للقِتالِ، "فتَضْرِبوا أعناقَهم"؛ وذلك بأن تَقتُلوهم، "ويَضْرِبوا أعناقَكم؟" بأن يَقتُلوكم، وهذا بيانٌ لِبَذْلِ النُّفوسِ.
فلما سمع الصحابة رضوان الله عليهم هذا الفضل العظيم، خاصة بعد هذ التشويق الجليل، أجابوا قائلين "بلى"، أي: أخبِرْنا بهذا العمَلِ الَّذي له هذا الثَّوابُ العظيمُ، "قال" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ذِكْرُ اللهِ تعالى"، في كلِّ الأوقاتِ وعلى جميعِ الهيئاتِ والحالاتِ.
"قال مُعاذُ بنُ جَبلٍ رَضِي اللهُ عَنه: "ما شيءٌ أنْجَى"، أي: أعظَمُ الأشياءِ الَّتي يَنْجو بها العبدُ يومَ القيامةِ، "مِن عَذابِ اللهِ" وعِقابِه وسَخطِه ونارِه، "مِن ذِكْرِ اللهِ" تعالى في
مكارم الأخلاق: -
صاحب الخلق الحسن يحصل على الأجور المضاعفة، والدرجات العلى نتيجة حسن خلقه وتعامله مع الناس، ففي الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ المؤمنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه درجةَ الصائمِ القائمِ) وهناك صفات وأخلاق معينة في المسلمين، قد تكون مفقودة عند كثير من الناس، أجرها لا يعلمه إلا الله، منها: -
- كظم الغيظ:
- العفو عن الناس: -
- الإصلاح بين الناس
فيكظم المسلم غيظه عن أخيه المسلم لوجه الله، وعن جاره وصاحبه وزميله في العمل، إذا أغاظوه، فيكظم العبد غيظه، فينال عظيم الأجر والثواب عند الله، ذكر الله ذلك في كتابه
فـقال سبحانه:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
[آل عمران133–136]
كم في الجنة سيكون الأجر؟ علمه عند الله.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللهِ؛ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ")
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ")
لا عدد معين للثواب، الأجر غير محدود
يقول تعالى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فلم يحدد الله اﻷجر لمن عفا عمن ظلمه، فالعفو والصفح عن الناس من الأعمال العظيمة التي ترك الله جزاءها له وحده، فلم يحدد اﻷجر لعظمة هذا الفعل فلابد أن يحاول المسلم ان يحرص على العفو والمسامحة وان يكونا ديدين حياته ونطام معاشه، طمعا في أجر لا حدود له فما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة، نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم، فيقوم عنق كثير، فيقال لهم: ما أجركم على الله؟ فيقولون نحن الذين عفونا عمن ظلمنا " وذلك قول الله {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} فيقال لهم: " ادخلوا الجنة بإذن الله ".
فالعفو يعمل على إصلاح القلوب وتهيئتها لنيل الأجور العظيمة التي لا يعلها إلا الله فتجعل العبد لها أهل.
قال تعالى
[لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ]
[النساء:114]
فالإصلاح بين الناس مما يرغب فيه المصلحون والأخيار، ومما تحلّ به المشاكل، وتجتمع به القلوب، وتزول به الشَّحناء والعداوة، فالإصلاح بين الناس مطلوبٌ، كما في هذه الآية الكريمة، لذا أمر الله به أمرا واضحا فقال
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}
[الأنفال:1]
وقال جلَّ وعلا
[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
[الحجرات:9]
فالمسلمون مطلوبٌ بينهم الصّلح، بين العامَّة والخاصَّة، بين الجيران، إذا حصل بينهم اختلافٌ بين الأقارب، بين الأصحاب والزملاء، بين الرعية والراعي، بين الطائفتين، بغت إحداهما على الأخرى، فالإصلاح مطلوبٌ.
فلا ينبغي للمؤمن أن يحتقر نفسَه، ولا يقوم بمثل هذا العمل اليسير، إذ أن له أجرا لكن لا يعلمه إلا الله، فإذا تيسر له الصّلح فليفعل، ولو بالاستعانة بآخرين.
وليحرص كثيرا على إخلاص هذا العمل لله، محتسبا عنده الأجر، لا لمصلحة يرومها ولا طلب عند أحد المتنازعين، لِهَذَا قَالَ: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} أَيْ: مُخْلِصًا فِي ذَلِكَ، مُحْتَسِبًا ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ
{فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}
[النساء:114]
أي: ثوابًا جزيلًا كَثِيرًا وَاسِعًا لا يعلم حقيقته ولا تمامه إلا الله.
الصبر: -
يقول تعالى: - {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يوضح ربنا- عزَّ وجل -عظم أجر الصابرين، وأن أجرهم قد تعدى الموازين والحساب، فلا يعلم جزاؤهم إلا الله، فلا يوزن لهم ولا يكال، وإنما يغرف لهم غرفاً، بل ولا يحسب عليهم ثواب عملهم قط، ولكن يزادون على ذلك. وهناك أنواع من الصبر خاصة لها هذا الثواب العظيم إضافة وتأكيدا لثواب الصبر أصلا، وقد وضحها الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيدا لعظيم أجرهم وكثرة ثوابهم.
فمن أحوال الصبر التي يثبت لها هذا الأجر العظيم: -
الصبر على البلاء: - فلو يعلم المبتلى ما ادخره الله له من الخير؛ لحمد واحتسب، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِى الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ"
الاستجابة لأمر الله ورسوله
مدح الله سبحانه عباده المؤمنين الصادقين الذين لم يمنعهم أي شيء عن الاستجابة لأوامر الله ورسوله حتى لو كانت جراحا وآلاما، فقال تعالى الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران172] فجراحهم وآلامهم لم تمنعهم عن الاستجابة لأمر رسولهم صلى الله عليه وسلّم كما حدث للصحابة في غزوة حمراء الأسد -فهي المرادة من هذه الآية -فقد ورد أن أبا سفيان وأصحابه بعد أن انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء، ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم، فهموا بالرجوع. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة، فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبى سفيان وقال: لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال- في أحد-. فخرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد -وهي مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة -فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا. وروى أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى. وكان كل ذلك لإثخان الجراح فيهم، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة. فهم استجابوا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، مع ما أصابهم من جروح وابتلاءات، وهذا الذي قال عنه الله {القرح} أي: الجراح الشديدة. فالله-تبارك وتعالى- لا يضيع أجر هؤلاء المؤمنين الصادقين، الذين أجابوا داعي الله وأطاعوا رسوله، بأن خرجوا للجهاد في سبيل عقيدتهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة مع مآبهم من جراح شديدة، وآلام مبرحة. ثم بين- سبحانه - جزاءهم فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: الذين أحسنوا منهم بأن أدوا جميع المأمورات، واتقوا الله في كل أحوالهم بأن صانوا أنفسهم عن جميع المنهيات، لهؤلاء أجر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله-تبارك وتعالى-
التمسك بالإسلام وترك ما سواه إخلاصا وحبا
يقول تعالى {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} يقول بعض أهل التفسير:
بأن المراد بهذه الآية أصحمة النجاشي، فقد ورد عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اخرجوا فصلوا على أخ لكم ". فصلى بنا، فكبر أربع تكبيرات، فقال: "هذا النجاشي أصحمة"، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على عِلْجٍ نصرَاني لم يره قط! فأنـزل الله: " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: يصلَّى على رجل ليس بمسلم! قال:
فنـزلت
{وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله}
قال قتادة: فقالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة!
فأنـزل الله
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
[البقرة115]
ويقاس على ذلك في سائر الزمان من أسلم من أهل الكتاب، فعن مجاهد قال {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم} من اليهود والنصارى، وهم مسلمة أهل الكتاب، وذلك أنّ الله جل ثناؤه عَمّ بقوله {وإنّ من أهل الكتاب} أهلَ الكتاب جميعًا، فلم يخصص منهم أحدا ولا طائفة كالنصارى دون اليهود، ولا اليهود دون النصارى، وإنما أخبر أن من {أهل الكتاب} من يؤمن بالله.
{خاشعين لله} الخاشع، المتذلل لله الخائف. {لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا}، لا يحرِّفون ما أنـزل إليهم في كتبهم لعَرَضٍ من الدنيا خسيس يُعطوْنه على ذلك التبديل، وابتغاء الرياسة على الجهال، ولكن ينقادون للحق، فيعملون بما أمرهم الله به فيما أنـزل إليهم من كتبه، وينتهون عما نهاهم عنه فيها، ويؤثرون أمرَ الله تعالى على هَوَى أنفسهم. {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فهؤلاء الذين يؤمنون بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم {لهم أجرهم عند ربهم}، يعني: لهم عوض أعمالهم التي عملوها، وثواب طاعتهم ربَّهم فيما أطاعوه فيه {عند ربهم} فلا يعلم مقدار هذا الاجر ولا كيفيته إلا الله سبحانه وتعالى.
النفقة في سبيل الله
الإنفاق في سبيل الله من صفات المؤمنين الأساسيّة؛ ففي سورة البقرة،
يقول الله سبحانه وتعالى
﴿الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
[البقرة1-2]
من المقصود بالمتقين؟
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾
[البقرة3]
فذكر الله بعد صفة الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة عند المؤمنين، "الإنفاق ممّا رزقهم" مباشرة.
وفي آية أخرى
يقول سبحانه وتعالى
﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
[آل عمران133]
من هم هؤلاء؟ هم
﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
[آل عمران134]
فالإنفاق في سبيل الله فضائله عديدة، ولكن الله ذكر سبيلان من سلكهما تولى الله أجر نفقته، ليس إلى سبعمائة ضعف فقط، أو أضعاف كثيرة
فقط، كما قال الله
﴿مثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾
[البقرة261]
بل يتولى الله ثوابه بأجر عظيم على قدر عظمته سبحانه وتعالى، هذان السبيلان هما: -
- عدم المن: - ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ فالمسلم ينفق بيمينه، ثم تأمره نفسه الخبيثة بإذلال من أعطاه إما بالقول أو عبوس الوجه أو بالاختيال عليه وإشعاره بالدونية.
- نفقة السر واستدامتها: -
فرق كبير بين المنفق المنان الخبيث وبين هذا الفقير المعطاء كبير النفس، فهم ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله، ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب أو باللسان، بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته، ولا أذية له قولية أو فعلية، فهؤلاء لهم أجرهم اللائق بهم، لا يعلمه إلا ربهم، بل وفوق ذلك -وليس بعد ذلك فوق -ولكنه كرم الكريم، أنه بشرهم أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فحصل لهم الخير واندفع عنهم الشر لأنهم عملوا عملا خالصا لله سالما من المفسدات.
كثرة النفقة في سبيل الله ودوامها، والحرص على إخفائها سرا، فيقول تعالى ذكره ﴿الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية﴾
وتأمل ... فهم ينفقون في عموم الأوقات، مع عموم الأحوال من الإظهار والإخفاء، وقدّم في الذكر الليل على النهار، وكذلك قدّم السر على العلانية، إيذانا منه تعالى بتفضيل صدقة السر، فهؤلاء الذين ينفقون أموالهم في كل وقت وكل حال، لا يقبضون أيديهم مهما لاح لهم طريق للإنفاق، هم الذين بلغوا نهاية الكمال في الجود والسخاء وطلب مرضاة الله -تعالى -.
فالمعنى العام: أن الذين ينفقون أموالهم في كل وقت وكل حال، لا يحصرون الصدقة في الأيام الفاضلة، أو رءوس الأعوام، ولا يمتنعون عن الصدقة في العلانية إذا اقتضت الحال العلانية، وإنما يجعلون لكل وقت حكمة ولكل حال حكمها، إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها، هؤلاء ﴿فلهم أجرهم عند ربهم﴾ وهذا يشعر أن هذا الفعل فعل عظيم، لأن له أجرا عظيما، بل وفوق ذلك أيضا أن الله سبحانه أضافهم إلى نفسه ﴿ربهم﴾ وفي إضافتهم إلى الرب ما فيها من التكريم.
فأي فضل هذا الفضل، وأي عمل عظيم هذا العمل؟!
الهجرة في سبيل الله والفرار بالدين من أرض الكفر إلى أرض الإيمان
قال تعالى ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾
ما أروع هذا التعبير القرآني، حين يعبر بتولي الله ثواب عمل معين، فيجعل له هذا الفضل، ﴿وقع أجره على الله﴾ ما أجمله من وقوع، وما أحلاه من جزاء
وقد ورد عن سيدنا سعيد بن جبير في هذه الآية العظيمة أنه قال: "كانَ رجلٌ من خزاعةَ يُقالُ لهُ ضمرة بن العيص – أو: العيص بن ضمرة بن زنباع- قال: فلما أمروا بالهجرة كان مريضًا، فأمر أهله أن يفرُشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ففعلوا، فأتاه الموتُ وهو بالتَّنعيِم، فنـزلت هذه الآية.
إنه سياق قرآنيّ يعمل على معالجةِ النفوس البشرية التي تحن للمكث في دور الكفر، وتخاف من الهجرة والفرار بدينها، فتُواجه مشاقَّ الهجرة ومتاعبها ومخاوفها، وتُشْفِقُ منَ التعرُّضِ لها، حرصا على عرض زائل كالمال، او منصب فان إلى زوال.
وقدْ عالج القرآن الكريم هذا المرض ببثِّ عوامل الطمأنينة سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه – في حالة الهجرة في سبيل الله، وبضمانِ الله للمهاجر منذُ أنْ يخرجْ من بيته مهاجراً في سبيله بسَعة المتنفَّس في الأرض والمُنطلق، فلا تضيقُ به الشعاب والفجاج.
فله أجر عظيم، كفلهُ ربُّه له ووعده به، فلمْ يذكرْ ربُّ العزّة نعيماً بعينه، أو جنّاتٍ وفردوس، بلْ قال: ﴿فقدْ وقعَ أجره على الله﴾، وهذا يدلُّ على عِظمِ هذا الأجر، فهو لم يُصنّفه إلى أيِّ شكلٍ من أشكال النعيم، فاجتمعَ في هذه الآية، مقدار العمل وعظمته ومقدار الأجر وعظمته أيضاً فهو أشبه بأنْ يكون لا متناهٍ عندما نُفكّر فيه نحنُ البشر أصحاب العقل المحدود، لهذا كانَ هذا العمل الصعب على النفس من أعظم ما خصّصه الله لعباده، ومنْ شاءَ اتخذَ إلى ربّه سبيلاً.
وبعد: - فتلك بعض الأعمال الواردة في كتاب الله سبحانه وتعالى، بدأنا بها كنقطة انطلاق لأعمال أخرى، لا حصر لثوابها، ولا عد لأجرها، يتولى أجرها ربنا الكريم، منها ما هو في القرآن مذكور، وكذلك في السنة معلوم، فانتبه لتلك الاعمال، فإن أورها عظيمة جدا، قد تأخذ بيد صاحبها من الهلاك، وتجعله في أعالي ال