البحث
حقوق الحيوان في الحضارة الإسلامية
مقدمة
ينظر الإسلام إلى الحيوان إجمالاً نظرة واقعيَّة؛ ترتكز على أهمِّيَّته في الحياة، ونفعه للإنسان، وتعاونه معه في عمارة الكون واستمرار الحياة، ولا أدلَّ على ذلك من أن عِدَّة سور في القرآن الكريم وضع الله لها أسماء من أسماء الحيوان؛ مثل: سورة البقرة، والأنعام، والنحل.. وغيرها.
وقد نصَّ القرآن الكريم على تكريم الحيوان، وبيان مكانته، وتحديد موقعه إلى جانب الإنسان، فقال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النحل: 5-7].
بعض حقوق الحيوان في التشريع الإسلامي
من أهمِّ الحقوق التي أصَّلها التشريع الإسلامي للحيوانعدم إيذائه؛ فقدروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم مرَّ على حمار قد وُسِمَ[1]في وجهه، فقال: "لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ"[2]. وعن عبد الله بن عمر، قال: "لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم مَنْ مَثَّلَ بِالْـحَيَوَانِ"[3]. وهذا يعني أن إيذاء الحيوان وتعذيبه وعدم الرفق به يُعتبر جريمة في نظر الشريعة الإسلاميَّة.
وكذلك شَرَع الإسلام في تأصيله لحقوق الحيوان تحريمَ حبسه وتجويعه،وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ؛ لَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَسْقِهَا، وَلَمْ تَتْرُكْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ[4]"[5]. وروى سهل ابن الْـحَنْظَلِيَّةِ قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم ببعيرٍ قد لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ[6], فقال: "اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْـمُعْجَمَةِ... فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً, وَكُلُوهَا صَالِحَةً"[7].
كما أَمَرَ الرسول صلى الله عليه و سلم أن يُستخدم الحيوان فيما خُلِقَ له، وحدَّد الغرض الرئيس من استخدام الدوابِّ، فقال: "إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ؛ فَإِنَّ اللهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ"[8].
وممَّا أرسته الشريعة الإسلامية من حقوق للحيوان أيضًا أنها نَهَتْ عن اتخاذه غرضًا، فها هو ابن عمر رضى الله عنهمايمَرَّ بِفِتْيَانٍ من قريش قد نَصَبُوا طيرًا وهم يرمونه، فقال لهم: لعن الله مَنْ فعل هذا؛ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضا[9].
ومن أهمِّ ما أصَّلَتْهُ الشريعة الإسلامية من حقوق للحيوان - أيضًا - ما كان من وجوب الرحمة والرفق به، وقد تجسَّد ذلك في قول الرسول صلى الله عليه و سلم : "بَيْنَمَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ[10]، يَأْكُلُ الثَّرَى[11]مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي. فَنَزَلَ الْبِئْرَ، فَمَلأ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ"[12]. قالوا: يا رسول الله، وإنَّ لنا في البهائم لأجرًا[13]؟ فقال: "فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ[14]"[15].
وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قائلاً: "كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرَة[16]معها فرخان، فأخذنا فَرْخَيْهَا، فجاءت الحُمَّرَة فجعلت تُعَرِّشُ[17]، فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فقال: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا"[18].
كما أَمَرَتِ الشريعة الإسلامية في حرصها على حقوق الحيوان بأن يُخْتَار لها المَرَاعي الخِصْبَة، وإن لم تُوجَدْ فيجب أن يُنتقل بها إلى مكان آخَرَ، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : "إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيَرْضَى بِهِ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإِنْ كَانَتِ الأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا[19]..."[20].
على أن هناك درجة أخرى أعلى من الرحمة وأثمن أوجبها التشريع الإسلامي في معاملة الحيوان؛ وهي: الإحسان إليه واحترام مشاعره، وإنَّ أعظم تطبيق لهذا الخُلُق حين نهى الرسول صلى الله عليه و سلم عن تعذيبه أثناء الذَّبح لأكل لحمه، سواء كان التعذيب جسديًّا بسُوءِ اقتياده للذبح, أو برداءة آلة الذبح، أو كان التعذيب نفسيًّا برؤية السكين؛ ومن ثَمَّ يجمع عليه أكثر من مَوْتة!
فقد روى شَدَّاد بن أوس قال: ثِنْتَانِ حفظتُهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ, وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ, وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ, وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"[21].
كما رَوَى عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- أن رجلاً أضجع شاة يُريد أن يذبحها وهو يَحِدُّ شَفْرته، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : "أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ، هَلاَّ حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا"[22].
وهكذا كان حقُّ الحيوان في الإسلام؛ فله أن يَنْعَمَ بالأمن والأمان، والراحة والاطمئنان، ما إن كان في بيئة رفرفت عليها الحضارة الإسلامية.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]وَسَمَه: إذا أثَّر أو علَّم فيه بكَيٍّ، والوسم والسمة العلامة المميزة للشيء، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة وسم 12/635.
[2]مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه (2117) .
[3]البخاري: كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة (5196) ، والنسائي (4442) ، والدارمي (1973) .
[4]خشاش الأرض: المراد هوام الأرض وحشراتها من فأرة ونحوها. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 6/357، والنووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 14/240.
[5]البخاري: كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء (2236) ، ومسلم عن أبي هريرة: كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة (2242) ، واللفظ له.
[6]لحق ظهره ببطنه: أي ظهر عليه الهزال من الجوع، انظر: العظيم آبادي: عون المعبود في شرح سنن أبي داود 5/448.
[7]أبو داود: كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم (2548) ، وأحمد (17662) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح. وابن حبان (546) ، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (23) .
[8]أبو داود: كتاب الجهاد، باب في الوقوف على الدابة، (2567) ، والبيهقي: السنن الكبرى (10115) ، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (22) . والمعنى: لا تجلسوا على ظهورها فَتُوقِفُونَهَا وَتُحَدِّثُونَ بالبيع والشراء وغير ذلك، بل انزلوا واقضوا حاجاتكم ثم اركبوا. والنهي مخصوص باتخاذ ظهورها مقاعد لغير حاجة، أما لحاجة لا على الدوام فجائزة؛ بدليل أن المصطفى ﷺخطب على ناقته وهي واقفة. انظر العظيم آبادي: عون المعبود 7/169، والمناوي: فيض القدير 3/174.
[9]البخاري: كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة (5196) ، ومسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم (1958) .
[10]يلهث: يرتفع نفسه بين أضلاعه، أو يخرج لسانه من شدة العطش والحَرِّ، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة لهث 2/184.
[11]الثرى: التراب الندي، وقيل: أي يَعَضُّ الأرض. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ثرا 14/110.
[12]شكر الله له: أي أثنى عليه فجزاه على ذلك بأن قَبِلَ عمله وأدخله الجنة. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/278.
[13]يعنون: أيكون لنا في سقي البهائم والإحسان لها أجر؟!
[14]كل كبد رطبة أجر: أي حية يعني بها رطوبة الحياة. فيها أجر عام مخصوص بحيوان محترم، وهو ما لم يؤمر بقتله، ونبَّه بالسقي على جميع وجوه الإحسان من الإطعام... وفيه أن الإحسان إلى الحيوان مما يغفر الذنوب، وتعظم به الأجور، ولا يناقضه الأمر بقتل بعضه أو إباحته؛ فإنه إنما أمر به لمصلحة راجحة، ومع ذلك فقد أمرنا بإحسان القتلة. انظر: المناوي: فيض القدير 4/601.
[15]البخاري عن أبي هريرة: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (5663) ، ومسلم: كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (2244) .
[16]الحُمَّرَة: طائر صغير كالعصفور، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حمر 4/208.
[17]أي: ترفرف، والتَّعْرِيش أَن ترتفع وتظلَّل بجناحيها على من تحتها، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة عرش 6/313.
[18]أبو داود: كتاب الأدب، باب في قتل الذرِّ (5268) ، والحاكم: (7599) ، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (25) .
[19]النقي: الشحم والودك، والمعنى أن ينجو عليها وهي في عافيتها؛ حتى يحصل في بلد الخصب، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نقا 15/338.
[20]الموطأ – رواية يحيى الليثي عن خالد بن معدان يرفعه: كتاب الاستئذان، باب ما يؤمر به من العمل في السفر (1767) ، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (682) .
[21]مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955) ، وأبو داود (2815) ، والترمذي (1409) .
[22]الحاكم: كتاب الأضاحي (7563) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (24) .