البحث
تيسير النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه
تيسير النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه
كان صلى الله عليه وسلم مثالاً للإنسان الرفيق ، رقيق القلب ، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: < يسِّروا ولا تعسروا، وسكِّنوا ولا تنفروا> رواه البخاري
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :< دعوه، وأهرقوا على بوله ذنوبًا من ماء، أو سجلاً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسِّرين> رواه البخاري
وهو القائل صلى الله عليه وسلم في الرفق: <من يُحرم الرفق يحرم الخير"رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه> رواه مسلم
وقال أيضاً :صلى الله عليه وسلم <إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه> رواه مسلم
هكذا أدَّبه ربه فأحسن تأديبه ، فتواضع صلى الله عليه وسلم للنَّاس فأقبلوا على دعوته وآمنوا به ، وصدَّقوه وعزَّروه ، ونصروه ، حتَّى كان الإسلام في سنوات معدودة مسيطرًا على جلِّ جزيرة العرب سلمًا ، ثم تمدد في عهد الخلفاء الراشدين خارج الجزيرة العربية ، ففي بضع سنين دخل إلى الشام والعراق ومصر وكانت حواضر الدنيا في ذلك العصر.
عدم تميزه على أصحابه :
من مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يتميز على أصحابه بملبس ، ولا مجلس ، ولا غير ذلك ، وكان الغريب إذا أتاه لا يعرفه من بين أصحابه ، فهذا ضمام بن ثعلبة دخل على جمله فأناخه في المسجد ثم عقله ، ثم قال لمن كان في المسجد : أيكم محمد والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم . فقالوا : هذا الرجل الأبيض المتكئ> رواه البخاري
ويبدو أنَّ هذا قد تكرَّر دائمًا ، فرأى الصحابة أن يُظهروا مكانه صلى الله عليه وسلم ؛ حتى يُعرف ، لئلا يحوجوا كلَّ من لا يعرفه للسؤال عنه صلى الله عليه وسلم ، فعن أبي ذر وأبي هريرة قالا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه ، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه ، قال : فبنينا له دُكَّانًا من طين ، فجلس عليه ، وكُنَّا نجلس بجنبتيه>أخرجه أبو داود في سننه
ولم يكن شخصٌ أحبَّ إليهم رؤيةً منه ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لِما يعلمون من كراهيته لذلك([1]) .
جلوسه مع الأرملة والمسكين والصغير :
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي في حاجاتهم ويُساعدهم ، فعن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأنف ، ولا يستنكِف أن يمشي مع الأرملة والمسكين ، فيقضي لهُما حاجتَهُما>أخرجه الدارمي في مسنده
وهو بهذا يضرب لأمَّته أروع الأمثلة في التواضُع ولين الجانب ، فهو يقول مُرشدًا ومُعلِّمًا : < ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله>البخاري
وهذا أنس يُخبر : أنَّ امرأةً كان في عقلها شيءٌ ، فقالت : يا رسول الله ! إنَّ لي إليك حاجة ؟ فقال : يا أم فلان ! انظُري أي السِّكك شئت ، حتى أقضي لك حاجتك ، فخلا معها في بعض الطُّرق ، حتى فرغت من حاجتها.أخرجه مسلم في صحيحه
وهكذا ظهر بهذه الصور الرائعة ما كان عليه الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام من كمال الخُلُق ، وروعة التواضُع ، حتى ألفه الصغير والكبير ، والخادم والمرأة .
زيارته لأصحابه وإجابته للدعوة وأكله من كل الطعام :
كان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة من دعاه ، ولا يتردد في ذلك وإن كان على شيءٍ يسير ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : أنَّ خياطًا بالمدينة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خبز شعير وإهالة سنخة ، وكان فيها قرعٌ ، قال أنس : فكنتُ أرى النبي صلى الله عليه وسلم يُعجبه القرع . قال : فكنت أقدِّمه بين يديه ، فلم يزل القرع يعجبني منذ رأيته يعجبه صلى الله عليه وسلم > أخرجه ابن حبان في صحيحه ."[2]
لقد كان ذلك القائد أبعد الناس عن مطامع الحياة فلا عجب أن يغرى ذلك أصحاب المثل العليا بالإعجاب . رجل يعرض نفسه للحتوف و المخاطر و الخصومات و يحتمل الأذى في أشد صوره قسوة و مرارة في سبيل فكرة لا مطمع من ورائها .
وكان إلى ذلك يحلب شاته بيده ويرقع ملابسه ويخصف نعله وقد عمل فى المسجد و الخندق بيده وحمل التراب وجمع الحطب وكان يردف خلفه . ويكره أن يتمثل له الناس قياما ؛ ويجلس حيث ينتهى به المجلس ؛ وإذا مشى مشى الناس من أمامه وحوله.
وكان يدخل الداخل إلى المسجد فلا يعرف محمدا بين أصحابه من بساطته حتى يسأل أيكم النبى؛ هذا بالإضافة الى بساطة فى الطعام و الملبس[3]
عن عباس أن رسول الله دخل على أم هانئ يوم فتح مكة وكان جائعا فقال لها : أعندك طعام ؟
قالت : ان عندى لكسرة يابسة . وانى لأستحى أن اقدمها لك .
فقال : هلميها .
فكسرها فى ماء وجاءته بملح . فقال : ما من ادام ؟ .
قالت : ما عندى الا شئ من خل .
قال : فهلميه.
فلما جاءت به صبه على طعامه فأكل منه ثم حمد الله و أثنى عليها وقال : نعم الإدام الخل يا أم هانئ. لا يقفر بيت فيه خل وهذه كانت مائدة الرسول يوم الفتح الاكبر .[4]
حُسن عشرته لزوجاته:
كانت سيرته صلى الله عليه وسلم مع أزواجه حسن المعاشرة وحسن الخلق، فهو خير قُدوة للأزواج ، وهو الذي قال صلوات الله عليه وسلامه:< خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم > رواه ابن عساكر عن علي، والترمذي عن عائشة، وابن ماجة عن ابن عباس
ومن حسن عشرته لزوجاته رضوان الله تعالى عليهن هذه الصور المشرقة:
كان صلى الله عليه وسلم يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها. وكان إذا هويت شيئا لا محذور فيه تابعها عليه وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها وشرب وكان إذا تعرقت عرقا - وهو العظم الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها وكان يتكئ في حجرها ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها وربما كانت حائضا وكان يأمرها وهي حائض فتتزر ثم يباشرها وكان يقبلها وهو صائم وكان من لطفه وحسن خلقه مع أهله أنه يمكنها من اللعب ويريها الأحباش[5]وهم يلعبون في مسجده وهي متكئة على منكبيه تنظر.
و سابقها في السفر على الأقدام مرتين، فسبقته مرة، وسبقها مرة؛ فقال لها: " هذه بتلك".
وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة . وكان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ولم يقض للبواقي شيئا وإلى هذا ذهب الجمهور .
وكان إذا صلى العصر دار على نسائه فدنا منهن واستقرأ أحوالهن فإذا جاء الليل انقلب إلى بيت صاحبة النوبة فخصها بالليل . وقالت عائشة :"كان لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندهن في القسم وقل يوم إلا كان يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو في نوبتها فيبيت عندها".
وكان إذا سافر وقدم لم يطرق أهله ليلا (أي لم يفزعهن بطرق الباب ليلاً )وكان ينهى عن ذلك. [6]
وكان عليهن حليماً، و بهن رفيقا عطوفاً ، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها :
كان بيني وبين رسول الله كلام فقال : من ترضين ان يكون أن يكون حكما بيني وبينك ؟ أترضين بأبي عبيدة بن الجراح ؟ قلت : لا ذلك رجل هين لين يقضى لك قال : أترضين بأبيك ؟ قلت : نعم.
فلما جاء أبو بكر قال رسول الله : اقصصي . قلت : اقصص أنت . فقال الرسول : هي كذا وكذا . فقلت :" أقصِد"[7]، فرفع أبو بكر يده فلطمني وقال لي : أتقولين يا بنت أم رومان لرسول الله اقصد ؟ من يقصد إذا لم يقصد رسول الله فجعل الدم يسيل من أنفي ورسول الله يحجزا بيننا ويقول لأبى بكر :
< أنا لم نرد منك هذا > وجعل يغسل الدم من ثيابى ويقول :<أرأيتِ كيف أنقذتك من الرجل؟ >[8]
ويروي البخاري في صحيحه عن أنس بنمالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام ، فضربت التي في بيتها النبي صلى الله عليه وسلم يد الخادم ، فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصفحة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: <غارت أمكم> ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها؛فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسرت صحفتها ، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت>
لقد كان صلوات الله وسلامه عليه –كما رأينا- في بيته "بشرًا كغيره ، يقوم على حاجات نفسه ، وربما ساعد أهله في شؤونهم،وهو في هذا يضرب المثل والقدوة للناس بفعله ،ثم يقول:< خيرُكُم خيرُكُم لأهله وأنا خيركُم لأهلي >أخرجه ابن حبان في صحيحه .
قال الأسود:سألت عائشة:ماكان النبي يصنع في بيته؟قالت:كان يكون في مهنة أهله-تعني خدمة أهله-فإذاحضرت الصَّلاةُ،خرج إلى الصَّلاة>(رواه البخاري)
وفي رواية قالت : كان رسول الله يخصِفُ نعله ، ويَخيطُ ثوبه ، ويعملُ في بيته كما يعمل أحدكم في بيته(أخرجه ابن حبان في صحيحه)
وفي رواية عنها : ما كان إلا بشرًا من البشر : كان يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه>أخرجه ابن حبان في صحيحه "[9]
وكان ينصح أهل بيته بالرفق :فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : (( يا عائشة أرفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً دلهم على باب الرفق )) وفي رواية :" إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق " رواه أحمد و المنذري وقال رواتهما رواة الصحيح
قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى"، فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ فقال : < إذا كنتِ راضية فإنك تقولين : لا ورب محمد ، وإذا كنت عليّ غضبى قلت : لا ورب إبراهيم>صحيح البخاري
وما أكثر الإشارات في هذا الحديث الشريف إلى رفق الرسول صلى الله عليه وسلم بالمرأة ، وعطفه عليها ، وتكريمه لها؛ فالحديث يشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم وهو النبي الرسول ، لا يأبى أن تكون زوجه عليه غضبى وليس قليلا ما تكون غضبى كما يفهم من الحديث وفي هذا توجيه لأزواج اليوم الذين يستنكرون أن تكون زوجاتهم عليهم غضباوات ولا يتقبلون استرضاءهن والإشارة الثانية في إفصاح النبي صلى الله عليه وسلم عن سر معرفته لحال
كون عائشة غضبى أو راضية ، وبقولٍ فيه من الدعابة مالا يخفى ، فأي رفق أعظم من هذا الرفق ، وأي إكرام للمرأة أبلغ من هذا الإكرام؟!
وممن ؟ من سيد البشر أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين،أفيأنف أحد بعد هذا ، من مغاضبة زوجته له ، ويعظم في نفسه استرضاؤه لها ؟
هناك بعض الفوائد أيضا نستقيها من هذا الحديث، منها : تواضعه صلى الله عليه وسلم وذلك بطلب رضا عائشة رضي الله عنها، وان رسولنا الكريم هو رسول الرحمة للعالمين والناس أجمعين[10]
--------------------------------------
يحي بن عبد الله البكري . أثر معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم في نشر الإسلام [2]
أنور الجندي . أقباس من السيرة العطرة ، ص94-95[3]
المصدر السابق، ص96[4]
وفد جاء من الحبشة قدموا عرضاَ للعب بالسيوف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.[5]
https://sirah.al-islam.com/display.asp?f=zad1036.htm[6]
أي: قُل الحق، وهي مزحة من عائشة مقصود بها الدلال على زوحها صلى الله عليه وسلم.[7]
محمد عبده قناوي.أزاهير نبوية، ص215-216.[8]
يحي بن عبد الله البكري . أثر معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم في نشر الإسلام .[9]
محمد رشيد العويد. رسالة إلى مؤمنة ، متاح في:[10]
https://akhawat.islamway.com/forum/lofiversion/index.php?t20162.html