البحث
حلمه صلى الله عليه وسلم على أعداءه
خامساً: حلمه –صلى الله عليه وسلم - على أعداءه
لما تطورت الظروف في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين ، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئاً فشيئاً ، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام ، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام .؛أُري رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي المنام ، وهو بالمدينة ، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام ، وأخذ مفتاح الكعبة ، وطافوا واعتمروا ، وحلق بعضهم وقصر بعضهم ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا ، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك ، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر .ولكن قريشاً صدتهم ومنعتهم من دخول مكة رغم إفصاحه صلى الله عليه وسلم بأنه ما جاء وأصحابه إلا لأداء العمرة ، وحينئذ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلمأن يبعث عثمان بن عفان سفيراً يؤكد لدى قريش موقفه وهدفه من هذا السفر ،ولكنهم حبسوه ، ولما أشيع أن عثمان قد قتل ، وتمت بيعة الرضوان بين الرسول وأصحابهعلى الجهاد وعدم الفرار، وبايعته جماعة على الموت، وعرفت قريش ضيق الموقف ،فاستجابت قريش لنداء الرّسول صلى الله عليه وسلم لمّا رأت قوّته وإصراره على ما يريد، وأدركت ما بها من ضعف وعجز عن المقاومة؛فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح ، وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً ، فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه عليه السلام قال : ( قد سهل لكم أمركم ) ، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح ، وهي هذه :
1. الرسول صلى الله عليه وسلميرجع من عامه ، فلا يدخل مكة ، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً ، معهم سلاح الراكب ، السيوف في القُرُب ، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض .
2. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض .
3. من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق ، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق .
4. من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه .
ثم دعا علياً ليكتب الكتاب ، فأملى عليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال سهيل : أما الرحمن فو الله لا ندري ما هو ؟ ولكن اكتب : باسمك اللّهم . فأمر النبي صلى الله عليه وسلمبذلك . ثم أملى : ( هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ) فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله فقال : ( إني رسول الله وإن كذبتموني ) ، وأمر علياً أن يكتب : محمد بن عبد الله ، ويمحو لفظ رسول الله ، فأبي علي أن يمحو هذا اللفظ . فمحاه صلى الله عليه وسلمبيده ، ثم تمت كتابة الصحيفة ، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلمـ وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب ، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش .ولما اطلع المسلمون على نص المعاهدة ، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : < أتكتب هذا يا رسول الله ؟ كيف نرد إليهم من جاءنا مسلماً ولا يردون إلينا من جاءهم مرتداً ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: مطمئناً : <من ذهب إليهم ، فهذا قد أبعده الله ، ومن جاءنا منهم فرددناه ، فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً> [1]ولقد حكى القرآن الكريم قصة بيعة الرضوان هذه في سورة الفتح حين قال: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا"(الفتح-18)
ولقد أثنى"جوستاف لوبون" العالم النفسي و الاجتماعي الفرنسي المعروف على حلمه- صلى الله عليه وسلم - قائلاً :" إن محمد رغم ما يشاع عنه من قبل خصومه و مخالفيه في أوروبا قد أظهر الحلم الوافر و الرحابة الفسيحة إزاء أهل الذمة جميعا"
--------------------------------------------------------------------------------
محمد مهدي عامر.المصدر السابق، ص243-247، بتصرف يسير [1]