البحث
الهجرة إلى الحبشة
8599
2011/07/27
2024/11/15
الهجرة إلى الحبشة
عن أم سلمة؛ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
" إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ؛ فَالْحَقُوا بِبِلاَدِهِ؛ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ "[1] .
دعوة وملاذ
اشتد العذابُ على المسلمين في مكة؛ فأذن لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهجرة إلى الحبشة؛ فرارًا بالدين، ولإنشاء قاعدة إسلامية هناك؛ وهي نظرة بعيدة من صاحب الدعوة؛ تبين أن بقاء الدعوة أهم من بقاء الرجال، تبين أهمية وجود تجمع إسلامي إضافي يكفل الحياة للدعوة إذا ضربها الباطل في معقلها الأول بمكة.
فهب أن الوثنية انقضت على الإسلام، وقُتل المسلمون عن آخرهم في مكة، ألا ترى بقاءً للإسلام بعد هذا اليوم ؟ ألا ترى أن من الحنكة أو من التفكير الاستراتيجي بناء أكثر من قاعدة للدعوة في أماكن عدة ـ وذلك في مهدها ـ حتى إذا قويت شوكتها، واشتد ساعدها، وقامت دولتها؛ لملمت أشتاتها، وجمّعت منتشرها ؟ وهذا ما حدث بالفعل بعد فتح خيبر سنة 7 هـ، حيث أذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمهاجري الحبشة بالعودة إلى الوطن الجديد؛ إذ أن مهمتهم قد انتهت، ورسالتهم قد اكتملت؛ وكانوا من قبلُ يرغبون في العودة إلى مكة أو إلى المدينة ـ في فترة الحرب الدفاعية ـ فلا يأذن لهم.
لذلك كان هدف الجالية الإسلامية في بلاد أوربا؛ التترس بقوانين الحرية والاستعانة بها في تبليغ الإسلام .
***
" إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ... "
إن المسلم ليس درويشًا لا يعلم البيئة التي تحيط به . إنما المسلم حصيفًا ذكيًا يعرف جياد الأوطان، وعقلاء الملوك . يعرف الأرض الصالحة للأمن، ويفهم تاريخ حكام المنطقة، ويستطيع أن يأخذ قراره أن فلانًا يصلح وأن فلانًا لا يصلح، وأن هذه الأرض مناسبة وأن تلك غير مناسبة .
ومن هنا دعوة لجموع الدعاة أن يتثقفوا سياسيًا وجغرافيًا وتاريخًا؛ وأن يستعينوا بهذه الثقافة في خدمة دين الله.
ليس الداعية بالذي يحفظ ويلفظ؛ إنما الداعية الفقيه البصير، والسياسي الخبير، والاقتصادي الحاذق، والجغرافي الماهر، والمؤرخ البارع.
أو باختصار، يفقه واقعه .
***
" فَالْحَقُوا بِبِلاَدِهِ؛ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ".
نعم .. سيجعل الله بعد عسرٍ يسرًا، ستنفرج الحلقة، وستنكشف الغمة، وينتشر الإسلام، ويعم العدل، ويسود الخير، ويأمن الخائف، ويَطعم الجائع، ويكسى العريان، ويسير الراكب من القاهرة إلى القدس إلى تل أبيب لا يَخَافُ إِلَّا اللَّه، ويهل بحجة وعمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، لا يَخَافُ إِلَّا اللَّه.
وماذا علينا لو آمنا ودفعنا ضريبة الصبر والثبات والتضحية ـ طيبة بها نفوسُنا حتى يُنزل الله نصره، ساعتها سيعلم الجمعُ أن للصبر ثمرة أغلى من الذهب، وأن للثبات أجرٌ يناطح الجوزاء، وأن التضحية لم تذهب هباء منثورًا.
ياَ هَنَاهُ ... ويْحُكَ ! لا تقل : تأخر نصر الله . بل قل : ألا إن نصر الله قريب.
***
الهجرة .. والجهاد الدبلوماسي
ومضى المؤمنون في هجرتهم الأولى ـ وكانت في العام الخامس من البعثة ـ وكانوا عشرة رجال، وأربع نسوة، نعم، جماعة صغيرة، لكنها نواة لجالية عظيمة في الحبشة، سيكون بها سلطان عظيم في مملكة النجاشي.
وهؤلاء تسللوا سرًا؛ لضرورة الواقع المتربص بالدعوة.
وكانوا جميعًا من الأشراف؛ ليعلم الدارس أنها نخبة إسلامية خرجت للدعوة بأرض الحبشة إضافة إلى الاستعانة بها كدار أمن وملاذ من الاضطهاد .
ثم كان الفوج الثاني من مهاجرة الحبشة، وكانت خرجتهم الثانية هذه أعظم مشقة من الأولى، ولقوا من المشركين أذىً كثيرًا .
كانت عدتهم ثلاثة ثمانون رجلاً وثماني عشرة أمرأة .
وسعت قريشٌ للوقيعة بين النجاشي والمسلمين، وأرسلت وفدًا دبلومسيًا إلى النجاشي لتسليم المسلمين إليها، كما تفعل دول الظلام مع الدعاة في عصرنا، وكان الوفد يتألف من رجلين من دهاة العرب : عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص ـ وذلك بالطبع قبل إسلامه ـ؛ وحُملت معهما الهدايا، ورشّوا هداياهم على البطارقة وبطانة الملك، ثم كلما النجاشي، بعد أن منحاه هديةً، وطلبا أن يلقي يقبض على أفراد الجالية الإسلامية ..
أنصتْ لدهاء عمرو، وطرحه وتحليله العجيب :
قال :
" أَيّهَا الْمَلِكُ إنّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِك مِنّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِك، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ لا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْت، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْك فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ"[2].
كلمات صاروخية !
تحليلٌ أثقب من المثقاب !
لكنّ هذا الدهاء لم يحل دون غضبة الملك الكريم .
ولم تحل أيضًا شفاعة البطارقة الذين قبضوا الهدية وقالوا :
"صَدَقَا أَيّهَا الْمَلِكُ ! قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا فَلْيَرُدّاهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ "[3].
قال النجاشي ـ وقد أغضبته هذه الكلمات ـ وهي في ظاهر الأمر حسنة جزلة فصيحة جدًا ـ :
" لاهَا اللّهِ ! إذَنْ لا أُسْلِمُهُمْ إلَيْهِمَا، ولا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلادِي ، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ، حَتّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولانِ أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا، وَرَدَدْتُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي ."[4].
هذا درسٌ في السلطانيات؛ إذ لا غنى للحُكم عن الحكمة، ولا غنى للمُلك عن الفطنة، ولا قوام لدولة غادرة، ولا بقاء لزعيم خائن.
وليس فوق الحاكم العادل منزلةً إلا نبيٌ مرسل، أو َملَكٌ مقرّب ..
إن السلطان الصالح مثل الرياح المباركة التي يرسلها الله ـ سبحانه ـ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، فيسوق بها الغمام، ويجعلها لقاحًا للزرع، وسقاء ً للضرع، وحياةً للعبد.
هذا هو الرئيس الحُر، النجاشي، لم يكن جبانًا كبعض حكام زماننا؛ إذا نظرتْ له أمريكا نظرةَ تفيد أن سلّم إلينا الشيخ فلان والدكتور علان، سرعان ما يرضخ ويقبل الأيادي والأحذية، ويسلم تسليمًا كثيرًا !
***
وأرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : مَا تَقُولُونَ لِلرّجُلِ إذَا جِئْتُمُوهُ، قَالُوا : نَقُول ـ وَاَللّهِ ـ مَا عَلِمْنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيّنَا ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ . فَلَمّا جَاءُوا، وَقَدْ دَعَا النّجَاشِيّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ؛ سَأَلَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ : مَا هَذَا الدّينُ الّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا دِينِي، وَلا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ[5] ؟.
فَكَانَ الّذِي كَلّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ( رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ )؛ فطرح عليه الإسلام في كلمات دقيقة معدودة، فبدأ بذكر مساوىء الجاهلية، ثم ذكر صفات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سطر واحد، ثم عدّد له فضائل الإسلام ومحاسن تعاليمه، ثم أوضح له الإيذاء الذي تعرض له المسلمون، ولم ينس استمالة النجاشي ومدحه بما هو أهله..
قال جعفر :
أ)أَيّهَا الْمَلِكُ، كُنّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيّ مِنّا الضّعِيفَ، فَكُنّا عَلَى ذَلِكَ...
ب) حَتّى بَعَثَ اللّهُ إلَيْنَا رَسُولاً مِنّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ ...
ج)فَدَعَانَا إلَى اللّهِ لِنُوَحّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصّلاةِ، وَالزّكَاةِ، وَالصّيَامِ ... فَصَدّقْنَاهُ وَآمَنّا بِهِ وَاتّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ فَعَبَدْنَا اللّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرّمْنَا مَا حَرّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلّ لَنَا..
د)فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذّبُونَا ، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لِيَرُدّونَا إلَى عِبَادَةِ الأوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللّهِ تَعَالَى، وَأَنْ نَسْتَحِلّ مَا كُنّا نَسْتَحِلّ مِنْ الْخَبَائِثِ فَلَمّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيّقُوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا...
هـ)خَرَجْنَا إلَى بِلادِك، وَاخْتَرْنَاك عَلَى مَنْ سِوَاك؛ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِك، وَرَجَوْنَا أَنْ لا نُظْلَمَ عِنْدَك أَيّهَا الْمَلِكُ [6].
***
هكذا فليتخير الداعية كلماته، وليتقن المسلمُ كيف يُعرّفُ بدينه، وكيف يشرح منهجه في كلمات قليلة، خاصة أمام أصاحب السطوة والسلطان.
إن حسن البيان عن الإسلام يرفع قدره، ويعلى ذكره، ويعظم خطره، ويدل على فضل نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
هذا الدين يحتاج منا في هذا العصر إلى الإيجاز في شرحه، والتبسيطِ في طرحه، بحيث لا تأخذ من وقت السامع وقتًا يدفعه إلى الملالة والانصراف عنك إلى غيرك.
وأنت قد رأيتَ كيف شرح جعفرُ القضيةَ في دقائق قليلة .
ذلك بأن المكثار كحاطب الليل؛ لا يأمن العقرب والحية، وأفصح الناس من زين المعنى العزيز باللفظ الوجيز. وأوَل العيّ الاختلاط والاضطراب، وأسوء القول الإفراط في الإطناب، ومن أكثر أسقط، ومن أكثر أهجر . وإذا كثر الكلام اختل، وإذا اختل اعتل، وخير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل.
يا مسلم، لا تكن طويل اللسان قصير الرأي، مسهبًا ثرثارًا، خطلاً مكثارًا !
تخير الآيات
فَقَالَ لَهُ النّجَاشِيّ : هَلْ مَعَك مِمّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ؟
فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ سورة مريم .. فَبَكَى ـ وَاَللّهِ ـ النّجَاشِيُّ حَتّى اخْضَلّتْ لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتّى أَخْضَلّوا مَصَاحِفَهُمْ حِين سَمِعُوا مَا تَلا عَلَيْهِمْ .
ثُمّ قَالَ النّجَاشِيّ : إنّ هَذَا وَاَلّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى؛ لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ [7]!
***
هكذا القرآن، إذا وقع على القلوب الصادقة؛ سكن بها، وشرح صدرها، وأسال دمعتها، وحرك وجدانها .
هكذا الآية المناسبة في الموقف المناسب، والسورة الكريمة في الموضوع المناسب ، إنها سورة مريم بين أقوام يحبون مريم، وآيات كريمة تتحدث بأدب جم عن ولادة المسيح، وتحكي عن زكريا ويحيى، وتتلو دعاء خاشعًا خاضعًا ... هنا سالت المدامع، واهتزت الأضالع، وزفرت الأنفاس، وهمدت الحواس، ولهثت ألسنه البطاركة بالتسابيح والدعاء ..
" ...ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " [المائدة: 82، 83].
محاولة أخرى
وهكذا هُزم وفد قريش في الجولة الأولى، فقال عمرو :
وَاَللّهِ لَآتِيَنّهُ غَدًا عَنْهُمْ بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ..
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرّجُلَيْنِ: لا نَفْعَلُ فَإِنّ لَهُمْ أَرْحَامًا ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا ؛ قَالَ: وَاَللّهِ لأخْبِرَنّهُ أَنّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ.
ثُمّ غَدًا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ: أَيّهَا الْمَلِكُ إنّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمّا يَقُولُونَ فِيهِ .
فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ ؟ قَالُوا : نَقُولُ ـ وَاَللّهِ ـ مَا قَالَ اللّهُ وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ .
فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ : مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؟
فَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : نَقُولُ فِيهِ الّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيّنَا ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ : هُوَ عَبْدُ اللّهِ، وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ . فَضَرَبَ النّجَاشِيّ بِيَدِهِ إلَى الأرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمّ قَالَ: وَاَللّهِ مَا عَدَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ !!
فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ ..
فَقَالَ : وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاَللّهِ، ! اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ بِأَرْضِي - وَالشّيُومُ الْآمِنُونَ - مَنْ سَبّكُمْ غَرِمَ، مَنْ سَبّكُمْ غَرِمَ . مَا أُحِبّ أَنّ لِي دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ[8]، وَأَنّي آذَيْت رَجُلًا مِنْكُمْ، رُدّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا ، فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا، فَوَاَللّهِ مَا أَخَذَ اللّهُ مِنّي الرّشْوَةَ حِينَ رَدّ عَلَيّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النّاسَ فِيّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ.
قَالَتْ أم سلمة ـ رواية القصة ـ : فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ ،مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ [9]!
***
يا لله ! كلما أوقدوا نارًا للحرب؛ أطفئها الله، كلما خطّوا خطة على الإسلام؛ ردها الله في نحورهم، كلما مكروا؛ مكر الله بهم .. إنه دين الله تكفل بحفظه، يكلؤه بعنايته، إن تنم عنه عيونُ المسلمين فعين الله لم تنم .
" وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً" [النساء141].
***
أرأيتَ كيف أن الصدق نجاة، وأن حُسن البيان نعمة، ووسيل لا غنى عنها في تبليغ الإسلام، وأن الحاكم العادل خير من خِصْب الزمان، وأن ليس كل من اختلف معك فهو عدوك؟
تأمل : جعفر على دين ـ هو الإسلام ـ، والنجاشي على دين ـ هو النصرانية ـ، وعمرو على دين ـ هو الوثنية ـ، بيد أن عبقرية الداعية الإسلامي جذبت النجاشي إلى صف المسلمين؛ وذلك بالنية الصادقة، والحجة القوية، والكلمة البليغة، الأفكار البديعة، والاستمالة الرفيقة الرقيقة .
قد يكون الحق في صفك؛ ولكنك تضيعه بسوء تصرفك . وهذا هو عجز الثقة .
وقد يكون الباطل في جانبك؛ ولكنك تثبته، وتزخرفه، فتجعل منه حقًا وحقيقةً؛ بالقول البراق، والطرح المنمق، واللسان المجادل العليم . وهذا هو جلد الفاجر.
يا سيدي، تزين لدعوتك، وجوّد خطبتك، وحبر كلمتك، فأهل الباطل يسهرون آناء الليل يبتكرون، ويبدعون أنجع الطرق في حبكة درامية لفيلمٍ فسل !
***
مرة أخرى تأملْ : جعفر على دين، والنجاشي على دين، وعمرو على دين، ونجح جعفر في كسب النصرانية إلى صفه ضد الوثنية، ونحن في عصرنا نجح اليهود في استقطاب النصرانية في صفهم ضد الإسلام، ولم نستثمر العداء التاريخي بين اليهود وبين النصرانية، إذ يعتقد أغلب النصارى أن اليهود هم قتلة المسيح، وهم السبب في خراب المسيحية .
ومع ذلك نجح اليهود بنفيرهم الإعلامي والاقتصادي في جذب النصرانية إليهم.
ثم إن هذا ـ أيضًا ـ بسبب تخاذلنا عن دعوتنا الحضارية بين الأمم، واستعداء أعداء هم ليسوا لنا بأعداء، على طريقة الحرب على مذهب فقهي معين أولى من الحرب على الماسونية!
انظر كيف استقطبت الصهوينة العالمية أتباعَ النصرانية في حملاتها العسكرية والإعلامية على فلسطين، وكيف أن العالم النصراني يرى القضية الفلسطينية بعيون يهودية، في حين أن الإعلام العربي والإسلامي يكاد يكون مغيبًا.
توصيات عملية
1- اقرأ سورة مريم كما قرأها جعفر، واستمع إليها وأنصت كما صنع النجاشي، وطالع تفسيرها، واكتب خاطرة حولها، واستخلص منها توصية عملية .
2- اكتب إلى كافرٍ رسالةً من صفحة واحدة فقط ـ بخط يدك ـ تشرح له فيها الإسلام.
3- أرسلْ رسالةً، صغيرة جدًا، مؤثرة جدًا، عبر الجوال؛ لشاب تدعوه إلى الالتزام والتدين والعودة إلى الله .
4- اكتب مقالة رأي في إطار رسالة مفتوحة لمسؤول فاجر، أو لوزير فاسد، أو لحاكم ظالم، تنصحه في الله، وتأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر .
--------------------
[1]أخرجه البيهقي " السنن " ( 18190)، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم : 3190
[2] ابن هشام :1 / 334
[3] ابن هشام :1 / 334
[4] ابن هشام :1 / 334
[5] ابن هشام :1 / 335
[6] ابن هشام :1 / 335
[7] ابن هشام :1 / 335
[8]الدَّبْرُ بلسانهم الجبل، وفُسِّرَ الدَّبْرَى بالجبل قال ابن الأَثير هو بالقصر اسم جبل . [لسان العرب (4 / 268)]
[9] ابن هشام :1 / 337، 338