البحث
غزوة حُنَيْنٍ والطائف - 6 شوال 8 هـ - 26 يناير 630 م
4535
2011/12/26
2024/12/04
غزوة حُنَيْنٍ والطائف
6 شوال 8 هـ - 26 يناير 630 م
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) } [ التوبة].
هكذا كان تعليق الله ـ تبارك وتعالى ـ على ما حدث يوم حنين.
كان درسًا تأديبيًا من الله رب العالمين لعباده المؤمنين، الذين أسكرتهم نشوة النصر في فتح مكة، وقالوا وهم خارجون لملاقاة هوزان وثقيف : لن نغلب اليوم من قلة، ونسوا أن الله تعالى نصرهم يوم بدر وهم أذلة : {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }آل عمران123
كان مشهدًا مهيبًا والجيش الإسلامي الفاتح يزحف من مكة نحو " حنين "، بعدد كثيف وعدة كثيرة، عشرة آلاف جندي، ومعهم ألفان ممن أسلموا حديثًا، وقد استعان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسلحة المشركين المكيين.
لقد دب الغررو في النفوس، وكانت من قبلُ تتذلل لرب العالمين يوم بدر أنْ ينزل نصره، ويعز جنده، فإن تهلك هذه العصابة فلن يُذكر اللهُ في الأرض.
لكن في حنين، لم نر مشاهد التذلل تلك .
لذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحذر أصحابه مراراً من شر الاغترار بالكثرة، وقص عليهم قصةَ نبيٍ أُعجب بكثرة أتباعه، فسلط اللهُ عليهم الموتَ.
***
أما هوازن فكان الغيظُ قد ملأها، بعدما سقطت قريش، أحسوا بالخطر المحدق بهم، وأن المسلمين عما قليل سيفتحون الطائف وما حولها، لذا خاض مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّصْرِيّ ـ قائد من قادات العرب الشجعان ـ حملة للتعبئة العسكرية ضد الفاتحين الجدد الذين جاسوا خلال ديار اليهود وقريش وحاربوا الرومان، فَاجْتَمَعَ إلى جيش مالك بن عوف، ثَقِيفٌ كُلّهَا ، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرٌ، وَجُشَمٌ كُلّهَا ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ ، ورجالٌ مِنْ بَنِي هِلالٍ، وَهُمْ قَلِيلٌ، وتغيبت عن الجيش قبيلاتان كبيرتان مِنْ هَوَازِنَ هما "كَعْبٌ "، و " كِلابٌ " .
***
جيش مالك بن عوف
كان في جيش مالك بن عوف ـ من بَنِي جُشَمٍ ـ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ، وكان شيخًا كبيرًا جدًا، ليس فيه شيء، إلا التّيَمّنَ بِرَأْيِهِ، وَمُعْرِفَتَهُ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ شَيْخًا خبيرًا مُجَرّبًا ، خاض حروبًا كثيرة على مدار عمره الطويل، ودارت بينه وبين مالك بن عوف القائد الشاب محادثة طريفة مفيدة .
ذلك أن " دريد بن الصمة" لما نزل مع الجيش، سأل : بِأَيّ وَادٍ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : بِأَوْطَاسٍ[1]، فأثنى على هذا الميدان، وأشار إلى صلاحيته العسكرية للخيل، فقَالَ : نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ، لا حَزْنٌ ضِرْسٌ[2]، وَلا سَهْلٌ دَهْسٌ .. مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَبُكَاءَ الصّغِيرِ، وَيُعَارَ الشّاءِ ؟
قَالُوا : سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ .
قَالَ : أَيْنَ مَالِكٌ ؟
قِيلَ : هَذَا مَالِكٌ ، وَدُعِيَ لَهُ[3] .
فَقَالَ : يَا مَالِكُ إنّك قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِك ، وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ، مَالِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَبُكَاءَ الصّغِيرِ، وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ قَالَ : سُقْت مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ، وَأَبْنَاءَهُمْ، وَنِسَاءَهُمْ .
قَالَ : وَلِمَ ذَاكَ ؟
قَالَ : أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَهْلَهُ، وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ .
فَأَنْقَضَ بِهِ[4] . ثُمّ قَالَ : رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ، وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَك لَمْ يَنْفَعْك إلا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ، وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك.
ثُمّ قَالَ : مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلابٌ ؟
قَالُوا : لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ .
قَالَ : غَابَ الْحَدّ وَالْجِدّ[5]، وَلَوْ كَانَ يَوْمَ عَلاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلا كِلابٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلابٌ فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ ؟
قَالُوا : عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ .
قَالَ : ذَانِكَ الْجَذَعَانِ[6] مِنْ عَامِرٍ لا يَنْفَعَانِ، وَلا يَضُرّانِ .. يَا مَالِكُ إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا ، ارْفَعْهُمْ إلَى مُتَمَنّعِ بِلادِهِمْ، وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ ثُمّ الْقَ الصّبَاءَ[7] عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَك لَحِقَ بِك مَنْ وَرَاءَك، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك، أَلْفَاك ذَلِكَ قَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك .
قَالَ : وَاَللّهِ لا أَفْعَلُ ذَلِكَ إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبِرَ عَقْلُك . وَاَللّهِ لَتُطِيعُنّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ أَوْ لَأَتّكِئَنّ عَلَى هَذَا السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي .
وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ ؟
فَقَالُوا : أَطَعْنَاك !
فَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ : هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي :
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزّمَعْ ... كَأَنّهَا شَاةٌ صَدَعْ[8].
وهو موقف يبين لك أهمية وجود الخبراء المجربين، فلا غنى للقائد عنهم مهما بلغ من حنكة وعبقرية .
ويفيدك أيضًا إلى خطر الاستبداد بالرأي، وخطر الاعتماد المطلق على القيادات المتهورة .
ويبين لك أن ما تراه أنت صوابًا محضًا قد يكون هو الخطأ بعينه !
مخابرات المشركين :
تأهب جيش المشركين لملاقاة المسلمين، ونادى مالكٌ في قومه :
إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ[9] سُيُوفِكُمْ، ثُمّ شُدّوا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ[10] .
وجاءت العيون إلى مالك بن عوف مذعورة ترتعد، فقال لهم : ويلكم ! ما شأنكم ؟
فَقَالُوا : رَأَيْنَا رِجَالاً بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، فَوَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ . أَصَابَنَا مَا تَرَى[11] .
مخابرات المسلمين :
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " عَبْدَ اللّهِ بن أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ" عينًا للمسلمين، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي المشركين، فَيُقِيمَ في جيش مالك، حَتّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ثُمّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، ففعل[12] !
وفي ذلك بطولة منقطعة النظير، أن يتخف الجاسوس المسلم في الجيش العدو، يسمع منهم ويجمع .
مزيد من التعبئة :
وسأل رسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صفوان بن أمية أن يعيره أسلحةً ـ وكان صفوان يمتلك عددًا هائلاً من الأسلحة ـ، فقال رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يا أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَك هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا"، فَقَالَ صَفْوَانُ : أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ : "بَلْ عَارِيَةٌ وَمَضْمُونَةٌ حَتّى نُؤَدّيَهَا إلَيْك"؛ فَأَعْطَاهُ مِئَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ[13] .
وفيه أن المسلمين لا يتوانوا في التعبئة العسكرية، فيسعون إلى كل وسيلة قاصدة، ويجمعون كل سلاح متاح، تنفيذًا لأمر الله تعالى :
"وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ " [الأنفال60].
خطر التقليد الأعمى :
وخرج الجيش الإسلامي بعجره وبجره نحو العدو، فمر المسلمون بجماعة من مشركي العرب لهم شجرة عظيمة، يقال لها : ذات أنواط، يقدسونها، ويعبدونها، فقال جماعةٌ من الطلقاء الذين أسلموا بالأمس : يَا رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ . فقَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ :
" اللّهُ أَكْبَرُ ! قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى :( اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، إنّهَا السّنَنُ لَتَرْكَبُنّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"[14]
وقال: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ"، قال الصحابة: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : " فَمَنْ ؟ "[15].
وهو تحذير من السير في ركاب اليهود والنصارى، كما يحدث اليوم من ظهور حركات التغريب، ومذاهب العَلمانية، والأفكار التي تدعو إلى السير وارء الغرب .
إن وجود هيئات وشخصيات تُحسب على المسلمين تدعو في هذا الزمان إلى التطبيع مع اليهود، والحوار مع الصليبيين ـ لهو من الإعجاز في دعوة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ أخبر بذلك، وكأنما كان ينظر من وراء الحجب إلى واقع المسلمين الـمُر .
هو الإعجاز، أن يخبرك أن أحفاد هذه الأمة سيتبعون أنظمة الغرب وقوانينه شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع . حتى في المأكل والمشرب والملبس، أنت ترى الغربي يأنف من لباس العرب، ويستنكف أن يضعه على جسمه ترفعًا، بينما ترى من المسلم في هذا العصر يتزي بزي الغربيين مفتخرًا بذلك؛ مدعيًا أنه يسير في ركب المتحضرين .
الكمين والانتكاسة:
استقبل المسلمون وادي حنين في عماية الصبح[16]، وكان المشركون قد سبقوا إلى الوادي فكمنوا للمسلمين في الشعاب، فما إنْ انحدر المسلمون داخل الوادي حتى انهالت عليهم ضربات المشركين من كل مكان، فانشمر المسلمون راجعين، لا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ؛ وثبت الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحوله جماعة من الصحابة السابقين، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يركض على ناقته نحو العدو كالأسد الهصور ـ وهو سيد الشجعان ـ وينادي على المسلمين في بسالة : "أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ ، أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ"[17] .
والناس في هياط ومياط، وقد حملت الإبل الفارة بعضها على بعض، وظنوا الناسُ أنها الهزيمة المُرة تطل برأسها، وشك من شك، وارتد من ارتد من الطلقاء الذين أسلموا قبل ساعات، حتى قال أحدهم : الآن بطل السحر .
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ : لا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ ـ وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ ـ[18] .
بل حاول بعضهم قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهذا شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، يقص لنا موقفه في هذه الساعة، فيقول : قلتُ الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي ( مِنْ مُحَمّدٍ ) ـ وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ـ الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمّدًا قَالَ فَأَدَرْتُ بِرَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ لِأَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْت أَنّهُ مَمْنُوعٌ مِنّي[19] .
الالتفاف حول القيادة :
ولم يزل الناسُ في فرارهم، والرسول يناديهم في أُخراهم وهم لا يسمعون، فأمر النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ العباسَ ـ وكان شديد الصوت ـ أن ينادى على المسلمين: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ[20] !
فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ لَبّيْكَ !
فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ، فَيَؤُمّ الصّوْتَ، حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ مِئَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا ، حتى فتح الله على المسلمين[21] .
النصر :
حمي الوطيس، فبرز حامل راية هوازن يفعل الأفاعيل بالمسلمين؛ فانطلق إليه علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار نحوه، فأما عليٌ ـ رضي الله عنه ـ فجاءه مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ ساق الجمل فوقع، وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيّ عَلَى الرّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً قطع فيها ساقه[22] ، فسقطت راية المشركين، وانهزمت معنوياتهم، واجتلد المسلمون، فما هي إلا ساعة حتى كان الأسارى مُكَتّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ .
أم سُلَيْمٍ :
وكانت أم سليم في جيش المسلمين، فالتفت إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَهِيَ حَازِمَةٌ وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا ، وَإِنّهَا لَحَامِلٌ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَعَهَا جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ ، وفي يدها خنجر ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ :" أُمّ سُلَيْمٍ ؟"
فقالت : نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ ! اُقْتُلْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَنْهَزِمُونَ عَنْك كَمَا تَقْتُلُ الّذِينَ يُقَاتِلُونَك ، فَإِنّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَـ : " أَوَ يَكْفِي اللّهُ يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ "
فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ ـ زوجها ـ : " مَا هَذَا الْخِنْجَرُ مَعَكِ يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ "
قَالَتْ : خِنْجَرٌ أَخَذْته ، إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بقرت بها بطنه !
فقال أَبُو طَلْحَةَ : أَلَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ الرّمَيْصَاءُ ؟
فجعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضحك .
من قتل قتيلاً فله سلَبه :
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : رَأَيْت يَوْمَ حُنَيْنٍ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا ، وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ أَنْ يُعِينَ صَاحِبَهُ الْمُشْرِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ . فَأَتَيْته ، فَضَرَبْت يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا ، وَاعْتَنَقَنِي بِيَدِهِ الْأُخْرَى ، فَوَاَللّهِ مَا أَرْسَلَنِي حَتّى وَجَدْت رِيحَ الدّمِ ، وَكَادَ يَقْتُلُنِي ، فَلَوْلَا أَنّ الدّمَ نَزَفَهُ لَقَتَلَنِي ، فَسَقَطَ فَضَرَبْته فَقَتَلْته ، وَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ وَمَرّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ فَسَلَبَهُ فَلَمّا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَفَرَغْنَا مِنْ الْقَوْمِ ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ : "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُه" فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ، وَاَللّهِ لَقَدْ قَتَلْت قَتِيلاً ذَا سَلَبٍ فَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ فَمَا أَدْرِي مَنْ اسْتَلَبَهُ ؟
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي ، فَأَرْضِهِ عَنّي مِنْ سَلَبِهِ !
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ـ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ـ : لا وَاَللّهِ لَا يُرْضِيهِ مِنْهُ تَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللّهِ، يُقَاتِلُ عَنْ دِينِ اللّهِ، تُقَاسِمُهُ سَلَبَهُ، اُرْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَ قَتِيلِهِ!
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ : " صَدَقَ، اُرْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَهُ ".
فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ : فَأَخَذْته مِنْهُ فَبِعْته ، فَاشْتَرَيْت بِثَمَنِهِ مَخْرَفًا[23] ، فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ اعْتَقَدْتُهُ[24] .
نُصْرَةُ الْمَلَائِكَةِ
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُ قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ[25] أَقْبَلَ مِنْ السّمَاءِ حَتّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَنَظَرْت ، فَإِذَا نَمَلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ لَمْ أَشُكّ أَنّهَا الْمَلَائِكَةُ ثُمّ لَمْ يَكُنْ إلّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ[26] .
الغنائم :
أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجمع الغنائم بالجعرانة، وكانت غنائم كثير فيها أربعة عشرون ألفًا من الإبل، وأربعون ألفًا من الشاء، وأربعة آلاف أوقية فضة ... وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يفرغ من أمر هوازن الذين هربوا متحصنين بالطائف .
توصية عملية :
لا تغتر بالكثرة، واستعن بأهل الخبرة
----------------------
[1]واد في ديار هوزان عند الطائف
[2]الصَّعْب العَسِر
[3]ابن هشام (2 / 437)
[4]أَي نَقَرَ بلسانه في فيه كما يُزْجَرُ الحِمار فَعَله اسْتجهالاً وقال الخطابي أَنْقَضَ به أَي صَفَّق بإحدى يديه على الأُخرى حتى سُمع لها نَقِيضٌ أَي صوتٌ [لسان العرب، (7 / 242)]
[5]الحد، بفتح الحاء: البأس والنفاذ في النجدة، والجد بالكسر: الاجتهاد والسرعة في الأمر، قاله المرصفي. انظر : الكامل للمبرد (3 / 137)
[6]الصّغار
[7]يعني المسلمين، وكانت العرب تسمهيم بذلك لأنهم صبأوا عن عبادة الأصنام
[8]ابن هشام :(2 / 437)
[9]أغمادها وأغلفتها
[10]ابن هشام (2 / 439)
[11]ابن هشام (2 / 439)
[12]سيرة ابن هشام (2 / 439)
[13]سيرة ابن هشام -(2 / 439)
[14]سيرة ابن هشام -(2 / 442)
[15]البخاري : 6775
[16]في عَمايَةِ الصُّبحِ أَي في ظلمته قبل أن أَتَبَيَّنَه وفي حديث أَبي ذرّ أَنه كان يُغِيرُ على الصِّرْمِ في عَمايةِ الصُّبْحِ أَي في بقيَّة ظُلمة الليلِ،[ لسان العرب (15 / 95)]
[17]ابن هشام (2 / 442)
[18]ابن هشام (2 / 443)
[19]ابن هشام (2 / 444)
[20]يعني الشجرة، أي يا أصحاب بيعة الرضوان تحت الشجرة
[21]ابن هشام (2 / 444)
[22]ابن هشام (2 / 445)
[23]سلة، والمِخْرَفُ بالكسر ما يجتنى فيه الثمر
[24]ابن هشام (2 / 448)
[25]البجاد : الثوب، أَراد الملائكة الذين أَيدهم الله بهم وأَصبحت الأَرض بَجْدةً واحدة إِذا طبقها هذا الجراد الأَسود. [لسان العرب (3 / 77)]
[26]ابن هشام (2 / 449)