البحث
صيانة الله عز وجل لجناب النبوة
3515
2012/01/02
2024/11/15
صيانة الله عز وجل لجناب النبوة
قال الله تعالى :" إنا أرسلناك شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً. لتؤمنوا بالله ورسوله وتُعزِّروه وتوقِّروه وتسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً"، فضرب الله تعالى حول رسوله صلى الله عليه وسلم سياجاً منيعاً من الحفظ والصون، وجعل لشخصه الكريم حريماً يصون به جنابَه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الإمام البيهقي رحمه الله في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره أن هذه المنزلة فوق منزلة المحبة؛ لأنه ليس كل مُحَبٍّ معظَّماً، فالوالد يحبُ ولده ولكن حبَّه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه، والولد محبُّ والده يجمع له بين التكريم والتعظيم، فعُلم أن التعظيم رتبةٌ فوق المحبة، ولئن كان الداعي إلى المحبة ما يفيض عن المحبوب على المحِب من الخيرات، فإن الداعي إلى التعظيم ما يجب للمُعَظَّم في نفسه من الصفات العلية. ثم قال رحمه الله بعد أن بيَّن أن التعزير هو التعظيم، :"فأبان أن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون مُعزَّزاً موَّقراً مهيباً، ولا يُعامل بالاسترسال والمباسطة كما يعاملُ الأكفاء بعضهم بعضاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معقد بيان ما يجب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خصوصية التعزير والتوقير والتشريف :"إن الله سبحانه وتعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقاً زائدةً على مجرد التصديق بنبوته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أموراً زائدةً على مجرد التصديق به سبحانه، وحرَّم سبحانه لحرمة رسوله مما يُباح أن يُفعل مع غيره أموراً زائدةً على مجرد التكذيب بنبوته"، قلت: وإن معرفة وفهم هذه الواجبات التي فرضها الله تعالى صوناً لحرمة نبيه صلى الله عليه وسلم أمرٌ لازمٌ لكل مؤمن، ليعلم أن أحداً من المخلوقين ليس له مكانته صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن تعدياً على جنابه صلى الله عليه وسلم ليس كاعتداء على أحد، والله المستعان.
ولنشرع في بيان جملةٍ من التشريفات التي وضعها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حتى يستيقن المؤمن ويتعرف الجاهل على قدر هذا النبي بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، وحتى يُعذر كل امرئ تسول له نفسه الخبيثة التطاول على مقام النبوة أو انتهاك حريمها، ألا فليعلم أن الله تعالى هو الذي وضع وأوجب هذه التشريفات لنبيه العظيم وأنه تعالى هو المتكفل بالانتقام ممن تطاول عليه صلى الله عليه وسلم، فلقد قال تعالى :"إنا كفيناك المستهزئين"، فحسبُ نبينا صلى الله عليه وسلم كفاية الله تعالى له عدوه وشانئه ومبغضه، والله المستعان.
أولاً: باب قوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا لا تُقدِّموا بين يدي الله ورسوله":
لقد صان الله تعالى جناب نبيه صلى الله عليه وسلم فمنع أحداً من أن يُدلي بقول أو رأي أو مشورة أو فعل قبل أن يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بشيء، وهذه الآية الكريمة أصلٌ في هذا الباب، بل هو أصلٌ من أصول الدين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُشرِّع، ومن تقدَّمه بقول أو رأي فقد شرَّع معه، وكأن فاعل ذلك يقول بلسان حاله : لا حاجة لي ببعثة اللهِ تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم ليبلغ أحكامه ويشرع لأهل ملته ويسن طريق شريعته، وهذا غاية البطلان وطريق الخسران. قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية:"لا تعجلوا بقضاء أمرٍ في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله، مَحكيٌ عن العرب: فلانٌ يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه". وقال البخاري رحمه الله :"وقال مجاهد (لا تقدموا) :لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه"،
وفي سبب نزول هذه الآية أخرج البخاري رحمه الله عن ابن أبي مليكة:" أن عبد الله بن الزبير أخبرهم أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أَمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أَمِّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلى - أو إلا- خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك:"يا أيها الذين آمنوا لا تُقَدِّموا بين يدَي الله ورسوله" حتى انقضت الآية"، فهذان خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم يسبقون بين يديه بمشورة في أمر من الأمور فينزل القرآن ناهياً زاجراً عن ذلك، مخوِّفاً مَن عاد إليه بحبوط العمل، قال القاضي عياض رحمه الله :" ونهى عن التقدم بين يديه بالقول، وسوء الأدب بسبقه بالكلام"، قلت: ولئن كان السبق بين يديه بالكلام منهياً عنه فالنهي عن سبقه صلى الله عليه وسلم بالتصرف والفعل من باب أَولى.
فهذا أول سور ضربه الله تعالى حول حمى النبوة، إجلالاً وتعظيماً لقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل هذا السور حراماً حتى على أقرب صحابته وأحبهم إليه صلى الله عليه وسلم. ولا يفوت محلُّ هذا الأمر بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل النهي عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم يكون بعدم تقديم رأي أو اجتهاد على السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام المروزي رحمه الله:"فنهى الله المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم أو يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض إعظاماً له وإجلالاً، وأعلمَ أن ذلك يحبط أعمالهم، فكيف بمن جعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وغيرَه في دين الله وأحكامه مِلَّتين، ثم يؤخِّر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدمه؛ إذا حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يوافقه قال هذا منسوخ، فإذا حدث عنه بما لا يعرفه قال هذا شاذ، فمِن رسول الله صلى الله عليه وسلم المنسوخ ومنه الناسخ، ثم مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاذ ومنه المعروف، ومِن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتروك ومنه المأخوذ"،
ولابن قيم الجوزية رحمه الله كلامٌ نفيسٌ في هذا المعنى أيضاً حيث قال:"فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقدم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟ قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر، ومعلوم قطعاً أن من قدَّم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وأشدهم تقدماً بين يديه، وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به"، قلت: لا شك أن هذا غاية الخسران، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك.