البحث
أنا عنقود عنب
أنا عنقود عنب
وكنت أتدلى من فوق كرمتي بالطائف. وكان يملك كرمتي رجل أسمه ( عتبة بن ربيعة ). وأخوه ( شيبة ). وقد رأيت من مكاني هذا محمداً رسول الله، وقد جاء إلى ( بنى ثقيف ) بالطائف، وجاء متخفياً لا يعلم به أحد. وكان يريد أن يدعوهم إلى الإسلام. وكان يرجو أن تكون (ثقيف) أقل تعصبا وأكثر تعقلاً من قريش.
ومنذ ظهرت إلى الوجود برعماً صغيراً، تتكون حباته الحصوم، وأنا أسمع عن محمد من الذين يأتون من مكة، ويستظلون بكرمتي.
عرفت أن أول من آمن به من النساء زوجته خديجة، ومن الرجال أبو بكر، ومن الأطفال علي بن أبي طالب.
ولكني عرفت أن الذين آمنوا به كانوا عدداً قليلاً، وأن أغلبية قريش لم تؤمن به، بل سخرت منه، وقاومته بكل سبيل. وقد حاولت إغراءه بالملك والمال، ليعدل عن دعوته، ويكف عن تسفيه الأصنام التي كانت قريش تعبدها.
وسمعت من جالس تحتي أنهم أرسلوا إليه مع عمه أبي طالب قولهم:
- أن قريشاً تعرض أن تأخذ من المال، على أن تترك هذا الدين الذي تدعو إليه.
فأجاب صلى الله عليه وسلم:
(والله يا عمي، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
ثم سمعت من (عتبة) صاحب كرمتي، أن قريشاً أرسلته أيضاً إلى محمد ليقول له:
-إن قريشاً مستعدة إن كنت تريد مالاً أن تعطيك حتى تصبح أغناهم. وإن كنت تريد شرفاً جعلوك سيداً لهم لا يفعلون شيئاً إلا إذا أخذوا رأيك. وإن كنت تريد أن تصبح ملكاً جعلوك ملكاً وأجلسوك على العرش. وإن كان هذا الوحي مرضاً أتوا لك بالأطباء لعلاجك حتى تشفي.
فرد محمد على (عتبة) يتلو هذه الآية الكريمة:
{قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد}.
فعاد عتبة إلى قريش يقول لها:
- سمعت كلاماً لا هو بالشعر، ولا هو بالسحر، ولا هو بالكهانة.
وطلب عتبه إلى قريش أن تترك محمداً وشأنه قائلاً:
- لقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أكرمكم خلقاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانةً.. حتى إذا كبر وجاءكم بما جاءكم قلتم: كاذبٌ وساحرٌ؟!
لم تنفع إغراءات قريش لمحمد بالمال والملك. واستمر يدعو لدين الله الواحد الأحد. فزادت قريش من إيذائها له وتنكيلها به وبأتباعه.
ودعت إلى مقاطعته وعزله ومحاصرته هو والمسلمين الذين اتبعوه. وعلقت صحيفة من الجلد في الكعبة تدعو فيها الناس إلى ذلك وتقول له:
* لا سلام ولا كلام مع المسلمين.
* لا بيع لهم ولا شراء منهم.
* لا زواج ولا مصاهرة.
* لا تعامل معهم من أي لون.
ولم تنفع هذه المقاطعة أيضاً. خاصةً وأن الخمسةً من كبار رجال قريش اعلنوا بعد ثلاث سنوات من المقاطعة، أنهم لا يعترفون بها، ومزقوا الصحيفة وأبطلوا العمل بها.
ولكن نهاية المقاطعة، لم تصرف الكفار قريش استمرار التعذيب والإيذاء لمحمد وأتباعه. وزاد التعذيب وتضاعف الإيذاء بعد موت عمه أبي طالب وزوجته خديجة.
فقد ألقوا على الرسول، وهو ساجدٌ على صلاته، أمعاء شاةٍ مذبوحة.. وهم يضحكون! كما وضع واحدٌ من الكفار ثوباً حول عنقه، وكاد يخنقه. كنت أسمع هذه الأخبار وغيرها من القادمين من مكة، وهم جالسون تحتي يستظلون بكرمتي.
كانت هذه الأخبار الحزينة تؤلمني.. وكنت أتمنى أن أجد فرصةً في حياتي القصيرة أرى فيها محمداً. ولم أكن أريد أن يطول بي العمر على كرمتي خوفاً من أن يأخذني الكفار ويعصروني خمراً تأخذ بعقولهم، فيزيدوا في عذاب المسلمين. لذلك كنت أتصور فرصتي في لقاء محمدٍ ضعيفة. ولكن الله حقق أملي إذ جاء بنفسه إلى هنا لأراه.
وبقدر ما سعدت برؤيته، حزنت لما حدث. وكدت أبكي وأنزف دمعي حين رأيت ما جرى له.. فقد جلس إلى أشراف ثقيف، يعظهم، ويدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله، وكتابه، فإذا يردونه رداً خشناً، ويغلظون له القول.
وفي الطريق إلى مكة طارده صبيةٌ صغار لا يعقلون، ومعهم بعض السفهاء، يحيطون بالرسول، ويضربونه بقسوة، ويقذفونه بالحجارة، ويشتمونه، ويهزءون به، ويمسكون به كلما حاول الجرى مبتعداً عنهم..
وأخيراً استطاع أن يفلت منهم وأن يلجأ إلى ظل الكرمة التي أتدلى منها، ويقعد تحتها في تعبٍ وإعياء. وسمعته يقول:
(اللهم.. إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين). (اللهم إن لم يكن بك عضبٌ علي فلا أبالي).
وكان عتبة وأخوه شيبة يقفان بالقرب منه ويسمعان كلماته، فإذا (عتبة) يطلب من غلامة (عداس) أن يقطفني من غصن الكرمة، ويضعني في طبق ويقدمني إلى (محمد) صلى الله عليه وسلم… شعرت بنفسي أهتز فرحاً، فوق الغصن الذي أنا عليه، وغمرتني السعادة وأنا أنزل من مكاني، إلى الطبق، ليضعني (عداس) أمام (محمد) الذي يمد يده الكريمة ويقول: بسم الله..
ويعجب (عداس) لهذه الكلمة التي لم يسمعها من أحد من قبل. فيبدي دهشته للرسول قائلاً: هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد.
فسأله الرسول: ومن أهل أي بلاد الله أنت؟
فقال عداس: من أهل (نينوى).
ورد الرسول: من قرية الرجل الصالح (يونس بن متى).
فسأله عداس: وما يدريك من (يونس بن متى)؟!
فأجاب الرسول: كان نبيا، وأنا نبي.
فانحنى (عداس) على رأس (محمد) ويده، وهو يقبله ويهتف:
- نبي.. نعم، نبي.. لا يمكن أن يحتمل أحد ما تلقى إلا في سبيل الحق ودين الحق.
وانفرطت حباتي بين أصابع الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنا أسعد عنقود عنب في تاريخ الدنيا كلها.. فأنا قد صرت طعاماً للرسول بعد طول عذابه.. وشهدت إيمان (عداس) به وبرسالته السماوية العظيمة