البحث
الاعتكاف
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه.
وبعدُ،
فهذه مقتطفات من أحْكام الاعتكاف؛ أذكِّر بها نفسي وإخواني؛ لعَلَّنا نحيي هذه السُّنَّة التي هجرَها أكثرُ الناس في زماننا هذا، أسأل الله عز وجل أن ينفعَ بها.
قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
وقال تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
1- معناه:
لغة: لزوم الشيء وحبْس النفْس عليه.
شرعًا: المُقام في المسجد من شخصٍ مخصوصٍ على صفة مخصوصة؛ "الفتح"، (4/341).
2- حُكمه:
قال ابن قُدامة: "قال الموفق: ولا نعلم بين العلماء خلافًاً في أنه مسنون، ولا خِلاف في الجملة أنه لا يجبُ إلاَّ أن يكونَ نذْرًا، قال ابن المنذر: أجمعَ أهلُ العِلْم على أنَّ الاعتكافَ لا يجب على الناس فرضًا، إلاَّ أن يُوجبَ المرءُ على نفْسه الاعتكافَ نذرًا؛ فيجب عليه. ومما يدلُّ على أنه سُنَّة: فعلُ النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه؛ تقرُّبًا إلى الله تعالى وطلبًا لثوابه، واعتكاف أزواجه معه وبعده، وأمَّا إذا نذره فيلزمه"؛ المغني، (2/153).
3- وقته:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكفُ العشر الأواخر من رمضان؛ متفق عليه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه اعتكفَ في شوَّال. وأمرَ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يوفي نذرَه ولم يحدِّد له زمنًا، فدلَّ ذلك على أنه مشروع في كلِّ وقتٍ، والله أعلم.
4- مُدته وهل يُشترط له صوم؟
قال ابن حجر في "الفتح" (4/ 342): "واتفقوا على أنَّه لا حدَّ لأكثره، واختلفوا في أقلِّه، فمن شرط فيه الصيام، قال: أقلُّه يوم، ومنهم مَن قال: يصحُّ مع شرط الصيام في دون اليوم؛ حكاه ابن قدامة، وعن مالك يشترط عشرة أيام، وعنه يوم أو يومان، ومَن لم يشترط الصوم، قالوا: أقلُّه ما يطلق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود، وقيل: يكفي المرور مع النيَّة كوقوف عَرَفة، وروى عبدالرزَّاق عن يعلى بن أُميَّة الصحابي: "إني لأمكثُ في المسجد الساعة، وما أمكث إلاَّ لأعتكفَ".
ويصحُّ أن يعتكفَ ليلة واحدة؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن عمر سألَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنتُ قد نذرتُ في الجاهليَّة أن أعتكفَ ليلة في المسجد الحرام، قال: «أوفِ بنذْرك»؛ (متفق عليه).
قال ابن حجر: "استُدلَّ به على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأنَّ الليلَ ليس ظرفًا للصوم، فلو كان شرطًا، لأمرَه النبي صلى الله عليه وسلم به".
وقال ابن قدامة: "ولو كان الصوم شرطًا، لَمَا صحَّ اعتكاف الليل"؛ المغني (2/154).
5- مكانه:
يشرعُ الاعتكاف في المساجد التي تُقام فيها الصلاة جماعة؛ قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
قال ابن حجر في "الفتح" (4/ 342): "ووجه الدَّلالة من الآية أنَّه لو صحَّ في غير المسجد، لم يختص تحريم المباشرة به؛ لأن الجماع منافٍ للاعتكاف بالإجماع، فعُلِمَ من ذِكْر المساجد أنَّ المراد أنَّ الاعتكاف لا يكون إلا فيها".
قال ابن قدامة: "لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد تُقام الجماعة فيه؛ لأنَّ الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تُقام فيه الجماعة يُفضي إلى أحد أمرين؛ إمَّا ترك الجماعة الواجبة، وإمَّا خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيرًا مع إمكان التحرُّز منه، وذلك منافٍ للاعتكاف؛ إذ هو لزوم المُعتكف والإقامة على طاعة الله"؛ المغني، (2/156).
وقد اشترطَ بعضُ العلماء أن يكونَ المسجد جامعًا إنْ كان يتخلل أيَّام اعتكافه صلاة جمعة.
6- متى يدخل معتكفه؟
عن عائشة -رضي الله عنها- قالتْ: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنتُ أضربُ له خباءً، فيصلي الصبحَ ثم يدخله"؛ (رواه البخاري)، (4/346).
7- متى يخرج من مُعتكفه؟
عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: "اعتكفْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشرَ الأوسط، فلمَّا كان صبيحة عشرين نقلْنا متاعنا"؛ (رواه البخاري)، (4/ 356).
قال ابن حجر: "وهو محمول على أنَّه أرادَ اعتكاف الليالي دون الأيَّام، وسبيل مَن أرادَ ذلك أن يدخلَ قُبيل غروب الشمس، ويخرج بعد طلوع الفجر، فإن أرادَ اعتكاف الأيام خاصة، فيدخل مع طلوع الفجر، ويخرج بعد غروب الشمس، فإن أرادَ اعتكاف الأيام والليالي معًا، فيدخل قبل غروب الشمس، ويخرج بعد غروب الشمس أيضًا"، (4/ 356).
8- آدابه:
قال ابن قُدامة: "يُستحبُّ للمعتكف التشاغُل بالطاعات المحضة، وتجنُّب ما لا يعنيه مِن الأقوال والأفعال، ويجتنب الجِدال والمِراء والسِّباب والفُحْش؛ لأن ذلك مكروه في غير الاعتكاف، ففيه أوْلَى، ولا يبطل الاعتكاف بشيءٍ من ذلك"؛ المغني، (2/ 164).
وينبغي للمعتكف ألا يُضيِّق على المصلِّين، وأنْ يعتني بما تفرَّغ له من التخلِّي عن الدنيا والانقطاع للعبادة، وألاَّ يشتغل بشيءٍ يفوِّت عليه قصدَه، ولا يجعلنَّ مُعتكفَه مَقصدًا للزوَّار الذين يفسدون عليه خَلوته وجواره، وإن كان خرجَ من الدنيا وانقطع عنها، فلا وجه لأنْ يأتي بالدنيا حتى يُدخلها مُعتكفه، ومما ينبغي للمعتكف أن يقلَّلَ من الطعام والشراب؛ حتى لا يثقل عن العبادة والطاعة، وأن يقللَ نومَه ما استطاع، وأن يشتغلَ بالقرآن والصلاة والدعاء وذِكْر الله.
وقد نقلَ ابن حجر عن مالك: "تُكْره الصنائع والحِرَف، حتى طلب العلم"؛ "الفتح"، (4/ 343).
9- هل يجوز للمعتكِف أن يُحضر آنية وفُرشًا في معتكفه؟
عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: "اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط، فلمَّا كان صبيحة عشرين نقلْنا متاعنا، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَن كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه؛ فإني رأيتُ هذه الليلة، ورأيتُني أسجدُ في ماءٍ وطين»؛ الحديث.
قال ابن حجر: "وحمله المُهَلَّب على نقْل أثقالهم وما يحتاجون إليه من آلة الأكْل والشرب والنوم..."؛ "الفتح"، (4/ 356).
وقد كانتْ أُمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تضرب خباءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذا أرادَ الاعتكاف؛ (متفق عليه).
فدلَّ ذلك على أنهم كانوا يحضرون ما يحتاجون إليه في معتكفِهم، والله أعلم.
10- هل يجوز للمعتكف الخروج من مُعَتكفه؟
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "وإنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدْخل رأْسَه وهو في المسجد فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيتَ إلا لحاجة الإنسان، إذا كان معتكفًا"؛ (متفق عليه).
وعند أبي داود عن عائشة -رضي الله عنها- قالتْ: "السُّنَّة على المعتكف ألاَّ يعودَ مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يَمَس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلاَّ لِمَا لا بُدَّ منه"؛ "الفتح"، (4/ 344).
قال ابن قدامة: "المعتكف ليس له الخروج من معتكفِه إلاَّ لِمَا لا بُدَّ له منه؛ لقول عائشة: "السُّنَّة للمعتكف ألاَّ يخرج إلاَّ لِمَا لا بُدَّ منه".
ولا خلاف في أنَّ له الخروج لِمَا لا بُدَّ له منه؛ قال ابن المنذر: أجمع أهلُ العلم على أنَّ للمعتكف أن يخرجَ للبول والغائط، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج لحاجته، والمراد بحاجة الإنسان: البول والغائط، كُني بذلك عنهما، وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب، إذا لم يكنْ له مَن يأتيه به، وكل ما لا بُدَّ له منه ولا يمكن فِعْله في المسجد، فله الخروج إليه، ولا يفسد اعتكافه، وهو عليه ما لم يطلْ، وكذلك له الخروج إلى ما أوجبَه الله عليه مثل الجمعة..."؛ المغني، (2/157).
11- هل للنساء اعتكاف؟
عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكفُ العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى ثم اعتكفَ أزواجُه من بعده"؛ (رواه البخاري).
قال ابن قُدامة: "وللمرأة أن تعتكفَ في كلِّ مسجدٍ؛ لأن الجماعة غير واجبة عليها، وبهذا قال الشافعي، وليس لها الاعتكاف في بيتها؛ لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. والمراد به المواضع التي بُنيتْ للصلاة فيها"؛ المغني (2/ 156)، مع مراعاة الستر والبُعْد عن أعين الرجال.
12- هل للمعتكف أن يتطيَّب ويمتشط؟
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصغي إليَّ رأْسَه وهو مجاور في المسجد، فأرجِّله وأنا حائضٌ"؛ (رواه البخاري).
قال ابن حجر: "وفي الحديث جواز التنظُّف والتطيُّب والغُسل، والحلق والتزيُّن إلحاقًا بالترجُّل، والجمهور على أنه لا يُكره فيه -أي: الاعتكاف- إلا ما يُكره في المسجد"؛ "الفتح"، (4/ 343).
13- هل يجوز للمعتكف نقض اعتكافه؟
عن عائشة -رضي الله عنها- قالتْ: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكفُ في العشر الأواخر من رمضان، فكنتُ أضربُ له خباءً، فيصلي الصبح ثم يدخله، فاستأذنتْ حفصةُ عائشةَ أن تضربَ خباءً، فأذِنتْ لها، فضربتْ خباءً، فلمَّا رأَتْه زينب بنت جحشٍ، ضربتْ خباءً آخرَ، فلمَّا أصبحَ النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأخْبِيَة، فقال: «ما هذا؟»، فأُخْبرَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألْبِرَّ ترونَ بهنَّ؟»، فتركَ الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكفَ عشرًا من شوال"؛ (رواه البخاري).
قال الحافظ ابن حجر: "وفيه أنَّ الاعتكاف لا يجب بالنيَّة، وأمَّا قضاؤه صلى الله عليه وسلم له فَعَلى طريق الاستحباب؛ لأنه كان إذا عمل عملاً أثبتَه، ولهذا لم يُنقلْ أنَّ نساءَه اعتكفْنَ معه في شوَّال"؛ "الفتح"، (4/ 349).
وقال ابن قُدامة: "وإنْ نَوَى اعتكافَ مدة، لم تلزمْه، فإنْ شرعَ فيها، فله إتمامُها وله الخروج منها متى شاء"؛ المغني (2/ 154).
هذا ما لم يكنِ اعتكافه نذرًا، فإنْ كان نذرًا، فإنَّه يلزمه إتمامُه كما سبق في حُكْم الاعتكاف (رقم 2).
14- مفسدات الاعتكاف:
قال ابن قدامة: "الوطء في الاعتكاف مُحرَّم بالإجماع، والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187].
فإنْ وَطِئ في الفرْج مُتعمِّدًا، أفسد اعتكافَه بإجماع أهل العلم، وإنْ كان ناسيًا، فكذلك عند أحمد وأبي حنيفة ومالك"؛ المغني (2 /160).
وقال ابن حجر: "اتفقوا على فساده بالجماع، حتى قال الحسن والزهْري: مَن جامَعَ فيه لزمته الكفَّارة، وعن مُجاهد يتصدَّق بدينارين..."؛ "الفتح"، (4/342).
وقال ابنُ كثير -رحمه الله- في تفسيره: "الأمر المتفق عليه عند العلماء أنَّ المعتكف يحرمُ عليه النساء ما دامَ معتكفًاً في مسجده، ولو ذهَبَ إلى منزله لحاجة لا بُدَّ له منها، فلا يحلُّ له أن يثبتَ فيه إلا بمقدار ما يفرغُ من حاجته تلك؛ مِن قضاء الغائط أو الأكل، وليس له أن يُقبِّلَ امرأته، ولا أن يضمَّها إليه، ولا يشتغل بشيءٍ سوى اعتكافه"، (1/ 294).
15- إضاءات للمعتكفين:
♦ خرجتَ من الدنيا بجسمك، وانقطعتَ عنها ببدنك، فأخْرِجْها من قلبك، يصلحْ لك أمرُك.
♦ اجعل همَّك تنقية نفسك، واشْهد عظمة ربِّك، اطَّرِحْ بين يديه، وفوِّضْ أمرَك إليه.
♦ مَن لم يجد حلاوة المناجاة، والشوق إلى لقاء مولاه، فعَلام اعتكفَ وخرج من دنياه؟!
♦ لله ساعات السحر، كم فيها للمعتكفين من آيات وعِبر!
♦ أشار إليك الناس: هذا عبد صالح! فاغتررتَ حتى أخرجتَ نفسَك من ديوان السرِّ إلى ديوان العلانية، ومن حظيرة الإخلاص إلى مَرْتع الرياء والإفلاس.
♦ حظوظ النفس ذئبٌ ضارٍ، والشيطان سَبُعٌ عقورٌ، والقلبُ شاةٌ عائرةٌ بينهما بغير راعٍ، فمتى يسلم؟ اللهم سلِّم سلِّم.
♦ مُلئت نفسك عُجبًا، فتصدَّق سرًّا؛ فالصدقة تطفِئ غضب الربِّ.
♦ اللهم إني أعوذ بك أنْ أكون في نفسي عظيمًا، وعندك حقيرًا.
♦ اجعل هِجِّيراك: اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون.
خالد بن محمد الشهري