البحث
مواقفه في مرحلة الدعوة الجهرية بمكة
أمر اللَّه نبيه بإنذار عشيرته الأقربين، فقال ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ([1]).
فقام رسول اللَّه بتنفيذ أمر ربه بالجهر بالدعوة والصدع بها، وإنذار عشيرته، فوقف مواقف حكيمة أظهر اللَّه بها الدعوة الإسلامية، وبين بها حكمة النبي وشجاعته، وصبره وإخلاصه للَّه رب العالمين، وقمع بها الشرك وأهله، وأذلهم إلى يوم الدين. ومن هذه المواقف الحكيمة ما يأتي:
( أ ) موقفه الحكيم في صعوده على الصفا ونداؤه العام:
عن ابن عباس ^ قال: لما نزلت ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ صعد النبي على الصفا فجعل ينادي: ((يا بني فهر، يا بني عدي)) – لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي))؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)). فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ ([2]).
وفي رواية لأبي هريرة t أنه ناداهم بطناً بطناً، ويقول لكل بطن: ((أنقذوا أنفسكم من النار...))، ثم قال: ((يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من اللَّه شيئاً، غير أن لكم رحماًَ سأبلها ببلاها))([3]).
وهذه الصحيحة العالمية غاية البلاغ، وغاية الإنذار، فقد أوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأوضح أن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار، الذي جاء من عند اللَّه تعالى، فقد دعا قومه – في هذا الموقف العظيم – إلى الإسلام، ونهاهم عن عبادة الأوثان، ورغبهم في الجنة، وحذرهم من النار، وقد ماجت مكة بالغرابة والاستنكار، واستعدت لحسم هذه الصرخة العظيمة التي ستزلزل عاداتها وتقاليدها وموروثاتها الجاهلية؛ ولكن الرسول الكريم لم يضرب لصرخاتهم حساباً، لأنه مرسل من اللَّه U، ولابد أن يبلغ البلاغ المبين عن رب العالمين، حتى ولو خالفه أو رد دعوته جميع العالمين، وقد فعل ([4]).
استمر يدعو إلى اللَّه – تعالى – ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك رادّ، ولا يصده عن ذلك صادّ، استمر يتتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من: حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير، جميع الخلق عنده في ذلك سواء.
وقد تسلَّط عليه وعلى من اتبعه الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية، وانفجرت مكة بمشاعر الغضب؛ لأنها لا تريد أن تفارق عبادة الأصنام والأوثان([5])، ومع ذلك لم يفتر محمد في دعوته، ولم يترك العناية والتربية الخاصة لأولئك الذين دخلوا في الإسلام، فقد كان يجتمع بالمسلمين في بيوتهم على شكل أسر بعيدة عن أعين قريش، وتتكون هذه الأسر من الأبطال الذين عقد عليهم رسول اللَّه الأمل بعد اللَّه – تعالى – في حمل العبء والمهام الجسيمة لنشر الإسلام، وبذلك تكونت طبقة خاصة من المؤمنين الأوائل قوية في إيمانها، متينة في عقيدتها، مدركة لمسئوليتها، منقادة لأمر ربها، طائعة لقائدها، مطبقة لكل أمر يصدر عنه برغبة وشوق واندفاع لا يعادله اندفاع، وحب لا يساويه حب.
وبهذه المواقف الحكيمة، والتربية الصالحة المتينة استطاع محمد أن يؤدي الأمانة، ويبلغ الرسالة، وينصح الأمة، ويجاهد في اللَّه حق جهاده، ويرسم لنا طريقاً نسير عليه في دعوتنا وعملنا وسلوكنا، فهو قدوتنا وإمامنا الذي نسير على هديه، ونستنير بحِكَمِهِ .
فقد بدأ الدعوة بعناصر اختارها ورباها، فلبت الدعوة، وآمنت به، وكانت دعوته عامة للناس، وفي أثناء هذه الدعوة يركز على من يجد عندهم الإمكانات أو يتوقع منهم ذلك، وقد تكوَّن من هذه العناصر نواة القاعدة الصلبة التي ثبتت عليها أركان الدعوة([6]).
ومع هذا الجهد المبارك العظيم لم يلجأ رسول اللَّه إلى الاغتيال السياسي، ولم يتخلص بالاغتيال من أفراد بأعينهم، وكان بإمكانه ذلك وبكل يسر وسهولة، إذ كان يستطيع أن يكلف أحد الصحابة بقتل بعض قادة الكفر: كالوليد بن المغيرة المخزومي، أو العاص بن وائل السهمي، أو أبي جهل عمرو بن هشام، أو أبي لهب: عبد العزى ابن عبد المطلب، أو النضر بن الحارث، أو عقبة بن أبي معيط، أو أُبّي بن خلف، أو أُمية بن خلف...، وهؤلاء هم من أشد الناس أذية لرسول اللَّه ، فلم يأمر أحداً من أصحابه باغتيال أحد منهم أو غيرهم من أعداء الإسلام؛ فإن مثل هذا الفعل قد يُوْدي بالجماعة الإسلامية كاملة، أو يعرقل مسيرتها مدة ليست باليسيرة، كرد فعل من أعداء الإسلام، الذين يتكالبون على حربه، والنبي لم يؤمر في هذه المرحلة باغتيالهم؛ لأن الذي أرسله هو أحكم الحاكمين.
وعلى هذا يجب أن يسير الدعاة إلى اللَّه فوق كل أرض، وتحت كل سماء، وفي كل وقت، يجب أن تكون الدعوة على حسب المنهج الذي سار عليه رسول اللَّه سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها، فطريق الدعوة الصحيح هو هديه والتزام أخلاقه وحكمه وتصرفاته على حسب ما أرادها ([7]).
(ب) صموده وثباته أمام ممثلي قريش واضطهادهما:
رأت قريش أن تجرب أسلوباً آخر تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذي يحميه تحذره مغبة هذا التأييد والنصر لمحمد ، وتطلب منه أن يكف عنها محمداً ودينه([8]).
([2]) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾، 8/501، (رقم 4770)، ومسلم بنحوه في كتاب الإيمان، باب قوله: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾، 1/194، (رقم 208)، والآيتان من سورة المسد: 1-2.
([3]) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الشعراء، باب ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ 5/382، 8/501، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ 1/192 (رقم 206).