البحث
مواقفه الحكيمة
ومن مواقفه الحكيمة في ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
1 – ما فعله في غزوة بدر الكبرى:
من مواقفه التي تزخر بالحكمة في هذه الغزوة أنه استشار الناس قبل بدء المعركة؛ لأنه يريد أن يعرف مدى رغبة الأنصار في القتال؛ لأنه شُرِطَ لـه في البيعة أن يمنعوه في المدينة مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأبناءهم وأزواجهم، أما خارج المدينة فلم يحصل أي شرط، فأراد أن يستشيرهم، فجمعهم واستشارهم، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم عمر بن الخطاب – رضي اللَّه عنه – فقال وأحسن، ثم استشارهم ثانياً، فقام المِقْدَاد فقال: يا رسول اللَّه، امض لما أمرك اللَّه فنحن معك، واللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، [نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك، ثم استشار الناس ثالثاً، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول اللَّه كأنك تريدنا]، وكان النبي يعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم؛ ليعلم ما عندهم، فقال لـه سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرتنا فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فواللَّه لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فَخُضْتَهُ لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء، ولعل اللَّه يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة اللَّه، فأشرق وجه رسول اللَّه وسُرَّ بما سمع، ونشطه ذلك، ثم قال: ((سيروا وأبشروا، فإن اللَّه قد وعدني إحدى الطائفتين، ولكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم))([1]).
ومن مواقفه العظيمة في بدر: اعتماده على ربه – تبارك وتعالى – لأنه قد علم أن النصر لا يكون بكثرة العدد ولا العدة، وإنما يكون بنصر اللَّه مع الأخذ بالأسباب والاعتماد على اللَّه.
عن عمر بن الخطاب t قال: لما كان يوم بدر نظر رسول اللَّه إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه([2]): ((اللَّهم أنجز لي ما وعدتني، اللَّهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))، فمازال يهتف بربه، ماداً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي اللَّه كفاك مناشدة ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل اللَّه – عز وجل -: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ ([3]) فأمده اللَّه بالملائكة([4]).
وقد خرج رسول اللَّه من العريش وهو يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ ([5]).
وقاتل في المعركة، وكان من أشد الخلق وأقواهم وأشجعهم، ومعه أبو بكر كما كانا في العريش يُجاهِدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا، وحثا على القتال، وقاتلا بالأبدان جمعاً بين المقامين الشريفين>([6]).
وكان أشجع الناس الرسول، فعن علي بن أبي طالب t قال: <لقد رأَيْتُنَا يوم بدر، ونحن نلوذ برسول اللَّه وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً>([7]).
وعنه قال: <كنا إذا حمي البأس، ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول اللَّه فلا يكون أحدنا أدنى إلى القوم منه>([8]).
([1]) سقت هذه القصة بالمعنى، وانظر: سيرة ابن هشام، 2/253، وفتح الباري، 7/287، وزاد المعاد، 3/173، والرحيق المختوم، ص200، وقد أخرج البخاري مواضع منها. انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ﴾ 7/287، (رقم 3952)، وكتاب التفسير، 8/273، وأخرج مسلم بعض المواضع من القصة. انظر: صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، 3/1403 (1779)، وانظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/194.