البحث
مواقف الحكمة الفردية
كان النبي أحكم خلق اللَّه، فقد كان يتألف الناس ليدخلوا في الإسلام، ويصبر على أذاهم، ويعفو عن إساءتهم، ويقابلها بالإحسان، وله مواقف في الكرم، والجود، والعفو، والحلم، والرفق، والعدل، تظهر في النقاط الآتية:
1 – موقفه مع ثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة t أنه قال: بعث رسول اللَّه خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال لـه ثمامة بن أُثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول اللَّه فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم([1])، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول اللَّه حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول اللَّه حتى كان من الغد، فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول اللَّه : ((أطلقوا ثمامة)), فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! واللَّه ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، واللَّه ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، واللَّه ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول اللَّه ، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال لـه قائل: أصبوت؟ فقال: [لا واللَّه]، ولكني أسلمت مع رسول اللَّه ، ولا واللَّه لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول اللَّه ([2]).
"ثم خرج t إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً، فكتبوا إلى رسول اللَّه : إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فكتب رسول اللَّه إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل([3]).
وذكر ابن حجر أن ابن منده روى بإسناده عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة، ومنعه عن قريش الميرة، ونزول قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ ([4]).
وقد ثبت ثمامة على إسلامه لما ارتد أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين([5]).
اللَّه أكبر، ما أحكم النبي محمداً . وما أعظمه من موقف، فقد كان يتألف القلوب، ويلاطف من يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير.
وهكذا ينبغي للدعاة إلى اللَّه أن يعظموا أمر العفو عن المسيء، لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة؛ لما أسداه النبي إليه من العفو والمنّ بغير مقابل، وقد ظهر لهذا العفو الأثر الكبير في حياة ثمامة، وفي ثباته على الإسلام ودعوته إليه([6]).
([1]) معناه: أن تقتل تقتل صاحب دم يدرك قاتله به ثأره لرئاسته وفضيلته، وقيل: معناه تقتل من عليه دم مطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله. انظر: فتح الباري، 8/88.
([2]) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، 8/87، (رقم 4372)، ومسلم – واللفظ لـه إلا ما بين المعقوفين فمن البخاري – في كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه، 3/1386، (رقم 1764).