البحث
مواقف النبي مع زعيم المنافقين عبد اللَّه بن أُبيّ
قدم النبي المدينة، وقد أجمع الأوس والخزرج على تمليك عبد اللَّه بن أُبيّ، ولم يختلف عليه في شرفه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، وكانوا قد نظموا لـه الخرز، ليُتَوِّجوه ثم يملِّكوه عليهم، فجاءهم اللَّه – تعالى – برسول اللَّه وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام امتلأ قلبه حقداً وعداوة وبغضاً، ورأى أن رسول اللَّه قد استلبه ملكه، فلما رأى قومه أبوا إلا الإسلام، دخل فيه كارهاً مصراً على النفاق والحقد والعداوة([1])، ولم يأل جهداً في الصد عن الإسلام، وتفريق جماعة المسلمين، والذب عن اليهود ومساعدتهم.
وقد ظهرت مواقفه الخبيثة في معاداته لدعوة الإسلام، ولكن عن طريق التستر والنفاق، وقد كان النبي يقابل عداوته بالعفو والصفح والحلم؛ لأنه يُظهر الإسلام؛ ولأن لـه أعواناً من المنافقين، هو رئيسهم وهم تبع لـه، فكان يحسن إليه بالمقال والفعل، ويقابل إساءته بالعفو والإحسان في عدة مواقف، منها على سبيل المثال ما يأتي:
( أ ) شفاعته لليهود (بنو قينقاع) عندما نقضوا العهد:
نقض بنو قينقاع العهد بعد بدر بكشف عورة امرأة من المسلمين في السوق، وبقتل رجل نصرها من المسلمين([2])، فسار إليهم رسول اللَّه يوم السبت للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة، وحاصرهم خمسة عشر يوماً، وتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وقذف اللَّه في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول اللَّه فأمر بهم فَكُتِّفُوا، وكانوا سبعمائة مقاتل، فقام إلى النبي عبد اللَّه بن أُبيّ حين أمكنه اللَّه منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأبطأ عليه رسول اللَّه ، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع النبي ، وقال: واللَّه لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاث مائة دارع([3])، قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني واللَّه امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم النبي لـه([4])، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام، وقبض منهم أموالهم، وخمس غنائمهم صلوات اللَّه وسلامه عليه([5]).
(ب) ما فعله مع النبي يوم أُحد:
خرج النبي إلى معركة أحد، فلما صار بين أحد والمدينة انخزل عبد اللَّه بن أُبيّ بنحو ثلث العسكر، ورجع بهم إلى المدينة فتبعهم عبد اللَّه بن عمرو بن حرام، والد جابر فوبّخهم، وحضهم على الرجوع، وقال: تعالوا قاتلوا في سبيل اللَّه أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم وسبهم([6]).
فلم يعاقبه رسول اللَّه على هذا الجرم العظيم، وتخذيل المسلمين.
(ج) صده الرسول × عن الدعوة إلى اللَّه تعالى:
ركب النبي إلى سعد بن عبادة، فمر بعدو اللَّه عبد اللَّه بن أٌبيّ وحوله رجال من قومه، فنزل فسلم ثم جلس قليلاً، فتلا القرآن، ودعا إلى اللَّه ، وذكَّر باللَّه، وحذر وبشر وأنذر، وعندما فرغ النبي من مقالته، قال لـه عبد اللَّه بن أٌبيّ: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقاً فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغته([7])، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه([8])، فلم يؤاخذه النبي وعفا عنه وصفح.
(د) تثبيته بني النضير:
عندما نقض يهود بني النضير العهد بِهَمِّهِم بقتل النبي ، بعث إليهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق – وعلى رأسهم عبد اللَّه بن أُبيّ – أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قُوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فقويت عزيمة اليهود، ونابذوا رسول اللَّه بنقض العهد، فخرج إليهم حتى نزل بهم وحاصرهم، فقذف اللَّه في قلوبهم الرعب، وأجلاهم النبي وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام([9]).
وترك النبي عبد اللَّه بن أُبيّ فلم يعاقبه على ذلك.
(هـ) كيده وغدره للنبي ومن معه من المسلمين في غزوة المريسيع:
في هذه الغزوة قام عبد اللَّه بن أُبيّ بعدة مواقف مخزية توجب قتله وعقابه منها:
1- دبر المنافقون في هذه الغزوة قصة الإفك، وتولى كبره عبد اللَّه بن أُبيّ بن سلول([10]).
2- وفي هذه الغزوة قال عبد اللَّه بن أُبيّ: ﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾ ([11]).
3- وفي هذه الغزوة قال عدو اللَّه: ﴿لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا﴾ ([12]).
وقد ظهرت الحكمة المحمدية، وتجلت السياسة الرشيدة في إخماد النبي نار الفتنة، وقطع دابر الشر – بفضل اللَّه ثم بصبره – على عبد اللَّه بن أُبيّ، وتحمله لـه، والإحسان إليه، ومقابلة هذه المواقف المخزية من هذا الزعيم المنافق بالعفو؛ لأن هذا الرجل لـه أعوان، ويخشى من شرهم على الدعوة الإسلامية؛ ولأنه يظهر إسلامه، ولهذا قال النبي لعمر بن الخطاب – حينما قال: يا رسول اللَّه دعني أضرب عنق هذا المنافق -: ((دعه حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه))([13]).
فلو قتله رسول اللَّه لكان ذلك منفِّراً للناس عن الدخول في الإسلام؛ لأنهم يرون أن عبد اللَّه بن أُبيّ مسلم، ومن ثم سيقول الناس: إن محمداً يقتل المسلمين، فعند ذلك تظهر المفاسد، وتتعطل المصالح.
فظهرت حكمة النبي وصبره على بعض المفاسد خوفاً من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم؛ ولتقوى شوكة الإسلام، وقد أُمر بالحكم الظاهر، واللَّه يتولى السرائر.
وقد ظهرت الحكمة لعمر بعد ذلك في عدم قتل عبد اللَّه بن أُبيّ فقال: "قد واللَّه علمت، لأمر رسول اللَّه أعظم بركة من أمري"([14]).
وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله أن يسلكوا طريق الحكمة في دعوتهم اقتداء بنبيهم .
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
([3]) الحاسر: هو الذي لا درع لـه، والدارع: هو لابس الدرع. انظر: المعجم الوسيط، مادة (حسر)، 1/172، ومادة (درع)، 1/280.
([6]) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، 3/194، وسيرة ابن هشام، 3/8، 3/57، والبداية والنهاية، 4/51.
([7]) أي: لا تكثر عليه به وتتردد به عليه، أو لا تعذبه به. انظر: القاموس المحيط، باب التاء، فصل الغين، ص200، والمعجم الوسيط، مادة (غت)، 2/644.
([10]) انظر قصة الإفك في البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، 7/431، (رقم 4141)، وكتاب التفسير، سورة النور، باب ﴿وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ 8/452، (رقم 4750)، ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث الإفك، 4/2129، وزاد المعاد، 3/256-268.
([11]) سورة المنافقون، الآية: 8.
وانظر: البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، 8/648، 652، (رقم 4905)، وفي كتاب المناقب، باب ما ينهى عنه من دعوى الجاهلية، 6/546، (رقم 3518)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، 4/1998، (رقم 2584/63)، وانظر: سيرة ابن هشام، 3/334.
([12]) سورة المنافقون، الآية: 7.
والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾، 8/648، (رقم 4904)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، 4/2140، (رقم 2772).