1. المقالات
  2. الجزء الاول_زاد المعاد
  3. مقدمة

مقدمة

5144 2007/11/21 2024/12/12

فصل

وإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الإختيار والتخصيص فيه دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته وأنه الله الذي لا إله إلا هو فلا شريك له يخلق كخلقه ويختار كإختياره ويدبر كتدبيره فهذا الإختيار والتدبير والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته وأكبر شواهد وحدانيته وصفات كماله وصدق رسله فنشير منه إلى يسير يكون منبها على ما وراءه دالا على ما سواه فخلق الله السماوات سبعا فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه وأسكنها من شاء من خلقه فلها مزية وفضل على سائر السماوات ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى وهذا التفضيل والتخصيص مع تساوي مادة السماوات من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته وأنه يخلق ما يشاء ويختار ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها وفي بعض الآثار إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم على سائرهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل وكان النبي يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم اصطفائهم وقربهم من الله وكم من ملك غيرهم في السماوات فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة فجبريل صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح وميكائيل صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات وأخرجتهم من قبورهم وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا واختياره الرسل منهم وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه واختياره أولي العزم منهم وهم خمسة المذكورون في سورة الأحزاب والشورى في قوله تعالى ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ) الأحزاب 7 وقال تعالى ( شرح لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) الشورى13 واختار منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وآلهما وسلم ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بني آدم ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة ثم اختار من ولد كنانة قريشا ثم اختار من قريش بني هاشم ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمد وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين واختار منهم السابقين الأولين واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان واختار لهم من الدين أكمله ومن الشرائع أفضلها ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها واختار أمته على سائر الأمم كما في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله قال علي بن المديني وأحمد حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح وظهر أثر هذا الإختيار في أعمالهم وأخلاقهم وتوحيدهم ومنازلهم في الجنة ومقاماتهم في الموقف فإنهم أعلى من الناس على تل فوقهم يشرفون عليهم وفي الترمذي من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي قال قال رسول الله أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم قال الترمذي هذا حديث حسن والذي في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي في حديث بعث النار والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة ولم يزد على ذلك فإما أن يقال هذا أصح وإما أن يقال إن النبي طمع أن تكون أمته شطر أهل الجنة فأعلمه ربه فقال إنهم ثمانون صفا من مائة وعشرين صفا فلا تنافي بين الحديثين والله أعلم ومن تفضيل الله لأمته واختياره لها أنه هبها من العلم والحلم ما لم يهبه لأمة سواها وفي مسند البزار وغيره من حديث أبي الدرداء قال سمعت أبا القاسم يقول إن الله تعالى قال لعيسى ابن مريم إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ولا حلم ولا علم قال يا رب كيف هذا ولا حلم ولا علم قال أعطيهم من حلمي وعلمي ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه وجعله مناسك لعباده وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين كاشفي رؤوسهم متجردين عن لباس أهل الدنيا وجعله حرما آمنا لا يسفك فيه دم ولا تعضد به شجرة ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه ولا تلتقط لقطته للتمليك بل للتعريف ليس إلا وجعل قصده مكفرا لما سلف من الذنوب ماحيا للأوزار حاطا للخطايا كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ولم يرض لقاصده من الثواب دون الجنة ففي السنن من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده وأحبها إليه ومختاره من البلاد لما جعل عرصاتها مناسك لعباده فرض عليهم قصدها وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه فقال تعالى (وهذا البلد الأمين ) التين3 وقال تعالى (   لا أقسم بهذا البلد ) البلد1 وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها والطواف بالبيت الذي فيها غيرها وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني وثبت عن النبي أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ففي سنن النسائي والمسند بإسناد صحيح عن عبدالله ابن الزبير عن النبي أنه قال صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة ورواه ابن حبان في صحيحه وهذا صريح في أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض على الإطلاق ولذلك كان شد الرحال إليه فرضا ولغيره مما يستحب ولا يجب وفي المسند والترمذي والنسائي عن عبدالله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة يقول والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح بل ومن خصائصها كونها قبلة لأهل الأرض كلهم فليس على وجه الأرض قبلة غيرها ومن خواصها أيضا أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض وأصح المذاهب في هذه المسألة أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان لبضعة عشر دليلا قد ذكرت في غير هذا الموضع وليس مع المفرق ما يقاومها البتة مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان وليس هذا موضع استيفاء الحجاج من الطرفين ومن خواصها أيضا أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض كما في الصحيحين عن أبي ذر قال سألت رسول الله عن أول مسجد وضع في الأرض فقال المسجد الحرام قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون عاما وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به فقال معلوم أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام وهذا من جهل هذا القائل فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار ومما يدل على تفضيلها أن الله تعالى أخبر أنها أم القرى فالقرى كلها تبع لها وفرع علهيا وهي أصل القرى فيجب ألا يكون لها في القرى عديل فهي كما أخبر النبي عن الفاتحة أنها أم القرآن ولهذا لم يكن لها في الكتب الإلهية عديل ومن خصائصها أنها لا يجوز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلا بإحرام وهذه خاصية لايشاركها فيها شيء من البلاد وهذه المسألة تلقاها الناس عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روي عن ابن عباس بإسناد لا يحتج به مرفوعا لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام من أهلها ومن غير أهلها ذكره أبو أحمد بن عدي ولكن الحجاج بن أرطاة في الطريق وآخر قبله من الضعفاء وللفقهاء في المسألة ثلاثة أقوال النفي والإثبات والفرق بين من هو داخل المواقيت ومن هو قبلها فمن قبلها لا يجاوزها إلا بإحرام ومن هو داخلها فحكمه حكم أهل مكة وهو قول أبي حنيفة والقولان الأولان للشافعي وأحمد ومن خواصه أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها قال تعالى ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) الحج 25 فتأمل كيف عدى فعل الإرادة ها هنا بالباء ولا يقال أردت بكذا إلا لما ضمن معنى فعل هم فإنه يقال هممت بكذا فتوعد من هم بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه لا كمياتها فإن السيئة جزاؤها سيئة لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها وصغيرة جزاؤها مثلها فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات والله أعلم

 

 

 

وقد ظهر سر هذا التفضيل والإختصاص في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائ

( محاسنه هيولى كل حسن % ومغناطيس أفئدة الرجال )

 ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس أي يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ولا يقضون منه وطرا بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا

( لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها % حتى يعود إليها الطرف مشتاقا )

فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ورضي المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل والأحباب والأوطان مقدما بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاق وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه ويراه لوظهر سلطان المحبة في قلبه أطيب من نعم المتحلية وترفهم ولذاتهم

( وليس محبا من يعد شقاءه % عذابا إذا مال كان يرضى حبيبه )

وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله (   وطهر بيتي ) الحج 26 فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه فله من المزية والإختصاص على غيره ما أوجب له الإصطفاء والإجتباء ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلا آخر وتخصيصا وجلالة زائدا على ما كان له قبل الإضافة ولم يوفق لفهم هذا المعنى من سوى بين الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن وزعم أنه لا مزية لشيء منها على شيء وإنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجها قد ذكرت في غير هذا الموضع ويكفي تصور هذا المذهب الباطل في فساده فإن مذهبا يقتضي أن تكون ذوات الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها وكذلك نفس البقاع واحدة بالذات ليس لبقعة على بقعة مزية البتة وإنما هو لما يقع فيها من الأعمال الصالحة فلا مزية لبقعة البيت والمسجد الحرام ومنى وعرفة والمشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض وإنما التفضيل باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعود إليها ولا إلى وصف قائم بها والله سبحانه وتعالى قد رد هذا القول الباطل بقوله تعالى ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) قال الله تعالى ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) الأنعام124 أي ليس كل أحد أهلا ولا صالحا لتحمل رسالته بل لها محال مخصوصة لا تليق إلا بها ولا تصلح إلا لها والله أعلم بهذه المحال منكم ولو كانت الذوات متساوية كما قال هؤلاء لم يكن في ذلك رد عليهم وكذلك قوله تعالى (   وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) الأنعام 53 أي هو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمته فيختصه بفضله ويمن عليه ممن لا يشكره فليس كل محل يصلح لشكره واحتمال منته والتخصيص بكرامته فذوات ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها مشتملة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها ولأجلها اصطفاها الله وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات وخصها بالإختيار فهذا خلقه وهذا اختياره ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) القصص67 وما أبين بطلان رأي يقضي بأن مكان البيت الحرام مساو لسائر الأمكنة وذات الحجر الأسود مساوية لسائر حجارة الأرض وذات رسول الله مساوية لذات غيره وإنما التفضيل في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها وهذه الأقاويل وأمثالها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة ونسبوها إليها وهي بريئة منها وليس معهم أكثر من اشتراك الذوات في أمر عام وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة لأن المختلفات قد تشترك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية وما سوى الله تعالى بين ذات المسك وذات البول أبدا ولا بين ذات الماء وذات النار أبدا والتفاوت البين بين الأمكنة الشريفة وأضدادها والذوات الفاضلة وأضدادها أعظم من هذا التفاوت بكثير فبين ذات موسى عليه السلام وذات فرعون من التفاوت أعظم مما بين المسك والرجيع وكذلك التفاوت بين نفس الكعبة وبين بيت السلطان أعظم من هذا التفاوت أيضا بكثير فكيف تجعل البقعتان سواء في الحقيقة والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات والأذكار والدعوات ولم نقصد استيفاء الرد على هذا المذهب المردود المرذول وإنما قصدنا تصويره وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكم ولا يعبأ الله وعباده بغيره شيئا والله سبحانه لا يخصص شيئا ولا يفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه فهو الذي خلقه ثم اختاره بعد خلقه وربك يخلق ما يشاء ويختار ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض فخير الأيام عند الله يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر كما في السنن عنه أنه قال أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر وقيل يوم عرفة أفضل منه وهذا هو المعروف عند أصحاب الشافعي قالوا لأنه يوم الحج الأكبر وصيامه يكفر سنتين وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة ولأنه سبحانه تعالى يدنو فيه من عباده ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف والصواب القول الأول لأن الحديث الدال على ذلك لا يعارضه شيء يقاومه والصواب أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر لقوله تعالى (   وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) التوبة 3 وثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعليا رضي الله عنهما أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول الله قال يوم الحج الأكبر يوم النحر وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والإبتهال والإستقالة ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ثم أذن لهم ربهم يوم النحر في زيارته والدخول عليه إلى بيته

 

 

 

ولهذا كان فيه ذبح القرابين وحلق الرؤوس ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة كالطهور والإغتسال بين يدي هذا اليوم وكذلك تفضيل عشر ذي الحجة على غيره من الأيام فإن أيامه أفضل الأيام عند الله وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله (   والفجر وليال عشر ) الفجر 1 2 ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد كما قال النبي فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد ونسبتها إلى الأيام كنسبة مواضع المناسك في سائر البقاع ومن ذلك تفضيل شهر رمضان على سائر الشهور وتفضيل عشره الأخير على سائر الليالي وتفضيل ليلة القدر على ألف شهر فإن قلت أي العشرين أفضل عشر ذي الحجة أو العشر الأخير من رمضان وأي الليلتين أفضل ليلة القدر أو ليلة الإسراء قلت أما السؤال الأول فالصواب فيه أن يقال ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من الليالي عشر ذي الحجة وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان وبهذا التفصيل يزول الإشتباه ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر وهي من اليالي وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه إذ فيه يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية وأما السؤال الثاني فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل قال ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر وقال آخر بل ليلة القدر أفضل فأيهما المصيب فأجاب الحمد لله أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر فإن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد من ليلة القدر بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين وهو معلوم الفساد بالإطراد من دين الإسلام هذا إذا كانت ليلة الإسراء تعرف عينها فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا على عشرها ولا على عينها بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ليس فيها ما يقطع به ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره بخلاف ليلة القدر فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان وفي الصحيحين عنه أنه قال من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر وأنه أنزل فيها القرآن وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي وحصل له فيها ما لم يحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة فهذا صحيح وليس إذا أعطى الله نبيه فضيلة في مكان أو زمان يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلةالقدر وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه بها والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمور ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها لا سيما على ليلة القدر ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت وإن كان الإسراء من أعظم فضائلة ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية بل غار حراء الذي ابتدىء فيه بنزول الوحي وكان يتحراه قبل النبوة لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها ولا خص المكان الذي ابتدىء فيه بالوحي ولا الزمان بشيء ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات كيوم الميلاد ويوم التعميد وغير ذلك من أحواله وقد رأى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جماعة يتبادرون مكانا يصلون فيه فقال ما هذا قالوا مكان صلى فيه رسول الله فقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك من كان قبلكم بهذا فمن أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض وقد قال بعض الناس إن ليلة الإسراء في حق النبي أفضل من ليلة القدر وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم وليلة الإسراء في حق رسول الله أفضل له فإن قيل فأيهما أفضل يوم الجمعة أو يوم عرفة فقد روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة وفيه أيضا حديث أوس بن أوس خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة قيل قد ذهب بعض العلماء إلى تفضيل يوم الجمعة على يوم عرفة محتجا بهذا الحديث وحكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد أن ليلة الجمعة أفضل من ليلة القدر والصواب أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام وكذلك ليلة القدر وليلة الجمعة ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام من وجوه متعددة أحدها اجتماع اليومين اللذين هما أفضل الأيام الثاني أنه اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة وأكثر الأقوال أنها آخر ساعة بعد العصر وأهل الموقف كلهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع الثالث موافقته ليوم وقفة رسول الله الرابع أن فيه اجتماع الخلائق من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة ويوافق ذلك اجتماع أهل عرفة يوم عرفة بعرفة فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه الخامس أن يوم الجمعة يوم عيد ويوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة ولذلك كره لمن بعرفة صومه وفي النسائي عن أبي هريرة قال نهى رسول الله عن صوم يوم عرفة بعرفة وفي إسناده نظر فإن مهدي بن حرب العبدي ليس بمعروف ومداره عليه ولكن ثبت في الصحيح من حديث أم الفضل أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه وقد اختلف في حكمة استحباب فطر يوم عرفة بعرفة فقالت طائفة ليتقوى على الدعاء وهذا هو قول الخرقي وغيره وقال غيرهم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة فلا يستحب صومه لهم قال والدليل عليه الحديث الذي في السنن عنه أنه قال يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام قال شيخنا وإنما يكون يوم عرفة عيدا في حق أهل عرفة لإجتماعهم فيه بخلاف أهل الأمصار فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر فكان هو العيد في حقهم والمقصود أنه إذا اتفق يوم عرفة ويوم جمعة فقد اتفق عيدان معا السادس أنه موافق ليوم إكمال الله تعالى دينه لعباده المؤمنين وإتمام نعمته عليهم كما ثبت في صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب فقال ياأمير المؤمنين آية تقرؤونها في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ونعلم ذلك اليوم الذي نزلت فيه لاتخذناه عيدا قال أي آية قال ( اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) المائدة 3 فقال عمر بن الخطاب إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله بعرفة يوم جمعة ونحن واقفون معه بعرفة السابع أنه موافق ليوم الجمع الأكبر والموقف الأعظم يوم القيامة فإن القيامة تقوم يوم الجمعة كما قال النبي خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه ولهذا شرع الله سبحانه وتعالى لعباده يوما يجتمعون فيه فيذكرون المبدأ والمعاد والجنة والنار وادخر الله تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة إذ فيه كان المبدأ وفيه المعاد ولهذا كان النبي يقرأ في فجره سورتي السجدة (   وهل أتى على الإنسان ) لاشتمالهما على ما كان وما يكون في هذا اليوم من خلق آدم وذكر المبدء والمعاد ودخول الجنة والنار فكان يذكر الأمة في هذا اليوم بما كان فيه وما يكون فهكذا يتذكر الإنسان بأعظم مواقف الدنيا وهو يوم عرفة الموقف الأعظم بين يدي الرب سبحانه في هذا اليوم بعينه ولا يتنصف حتى يستقر أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم الثامن أن الطاعة الواقعة من المسلمين يوم الجمعة وليلة الجمعة أكثر منها في سائر الأيام حتى إن أكثر أهل الفجور يحترمون يوم الجمعة وليلته ويرون أن من تجرأ فيه على معاصي الله عز وجل عجل الله عقوبته ولم يمهله وهذا أمر قد استقر عندهم وعلموه بالتجارب وذلك لعظم اليوم وشرفه عند الله واختيار الله سبحانه له من بين سائر الأيام ولا ريب أن للوقفة فيه مزية على غيره التاسع أنه موافق ليوم المزيد في الجنة وهو اليوم الذي يجمع فيه أهل الجنة في واد أفيح وينصب لهم منابر من لؤلؤ ومنابر من ذهب ومنابر من زبرجد وياقوت على كثبان المسك فينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى ويتجلى لهم فيرونه عيانا ويكون أسرعهم موافاة أعجلهم رواحا إلى المسجد وأقربهم منه أقربهم من الإمام فأهل الجنة مشتاقون إلى يوم المزيد فيها لما ينالون فيه من الكرامة وهو يوم جمعة فإذا وافق يوم عرفة كان له زيادة مزية واختصاص وفضل ليس لغيره العاشر أنه يدنو الرب تبارك وتعالى عشية يوم عرفة من أهل الموقف ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء أشهدكم أني قد غفرت لهم وتحصل مع دنوه منهم تبارك وتعالى ساعة الإجابة التي لا يرد فيها سائلا يسأل خيرا فيقربون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة ويقرب منهم تعالى نوعين من القرب أحدهما قرب الإجابة المحققة في تلك الساعة والثاني قربه الخاص من أهل عرفة ومباهاته بهم ملائكته فتستشعر قلوب أهل الإيمان هذه الأمور فتزداد قوة إلى قوتها وفرحا وسرورا وابتهاجا ورجاء لفضل ربها وكرمه فبهذه الوجوه وغيرها فضلت وقفة يوم الجمعة على غيرها وأما ما استفاض على ألسنة العوام بأنها تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة والتابعين والله أعلم

 

 

 

 

فصل

والمقصود أن الله سبحانه وتعالى اختار من كل جنس من أجناس المخلوقات أطيبه واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره فإنه تعالى طيب لا يحب إلا الطيب ولا يقبل من العمل والكلام والصدقة إلا الطيب فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى وأما خلقه تعالى فعام للنوعين وبهذا يعلم عنوان سعادة العبد وشقاوته فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب ولا يرضى إلا به ولا يسكن إلا إليه ولا يطمئن قلبه إلا به فله من الكلام الكلم الطيب الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو وهو أشد شيء نفرة عن الفحش في المقال والتفحش في اللسان والبذاء والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور وكل كلام خبيث وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفطر السليمة مع الشرائع النبوية وزكتها العقول الصحيحة فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ويؤثر مرضاته على هواه ويتحبب إليه جهده وطاقته ويحسن إلى خلقه ما استطاع فيفعل بهم ما يحب أن يفعلوا به ويعاملوه به ويدعهم مما يحب أن يدعوه منه وينصحهم بما ينصح به نفسه ويحكم لهم بما يحب أن يحكم له به ويحمل أذاهم ولا يحملهم أذاه ويكف عن أعراضهم ولا يقابلهم بما نالوا من عرضه وإذا رأى لهم حسنا أذاعه وإذا رأى لهم سيئا كتمه ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة ولا يناقض لله أمرا ولا نهيا وله أيضا من الأخلاق أطيبها وأزكاها كالحلم والوقار والسكينة والرحمة والصبر والوفاء وسهولة الجانب ولين العريكة والصدق وسلامة الصدر من الغل والغش والحقد والحسد والتواضع وخفض الجناح لأهل الإيمان والعزة والغلظة على أعداء الله وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله والعفة والشجاعة والسخاء والمروءة وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها وهو الحلال الهنيء المريء الذي يغذي البدن والروح أحسن تغذيةمع سلامة العبد من تبعته وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها وأزكاها ومن الرائحة إلا أطيبها وأزكاها ومن الأصحاب والعشراء إلا الطيبين منهم فروحه طيب وبدنه طيب وخلقه طيب وعمله طيب وكلامه طيب ومطعمه طيب ومشربه طيب وملبسه طيب ومنكحه طيب ومدخله طيب ومخرجه طيب ومنقلبه طيب ومثواه كله طيب فهذا ممن قال الله تعالى فيه (   الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) النحل 32 ومن الذين يقول لهم خزنة الجنة (   سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) الزمر 72 وهذه الفاء تقتضي السببية أي بسبب طيبكم ادخلوها وقال تعالى (   الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ) النور 26 وقد فسرت الآية بأن الكلمات الخبيثات للخبيثين والكلمات الطيبات للطيبين وفسرت بأن النساء الطيبات للرجال الطيبين والنساء الخبيثات للرجال الخبيثين وهي تعم ذلك وغيره فالكلمات والأعمال والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين والكلمات والأعمال والنساء الخبيثة لمناسبها من الخبيثين فالله سبحانه وتعالى جعل الطيب بحذافيره في الجنة وجعل الخبيث بخذافيره في النار فجعل الدور ثلاثة دارا أخلصت للطيبين وهي حرام على غير الطيبين وقد جمعت كل طيب وهي الجنة ودارا أخلصت للخبيث والخبائث ولا يدخلها إلا الخبيثون وهي النار ودارا امتزج فيها الطيب والخبيث وخلط بينهما وهي هذه الدار ولهذا وقع الإبتلاء والمحنة بسبب هذا الإمتزاج والإختلاط وذلك بموجب الحكمة الإلهية فإذا كان يوم معاد الخليقة ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم فعاد الأمر إلى دارين فقط الجنة وهي دار الطيبين والنار وهي دار الخبيثين وأنشأ الله تعالى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم فجعل طيبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هي عين نعيمهم ولذاتهم أنشأ لهم منها أكمل أسباب النعيم والسرور وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هي عين عذابهم وآلامهم فأنشأ لهم منها أعظم أسباب العقاب والآلام حكمة بالغة وعزة باهرة قاهرة ليري عباده كمال ربوبيته وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته وليعلم أعداؤه أنهم كانوا هم المفترين الكذابين لا رسله البررة الصادقون قال الله تعالى (   وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ) النحل 38 39
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى جعل للسعادة والشقاوة عنوانا يعرفان به فالسعيد الطيب لا يليق به إلا طيب ولا يأتي إلا طيبا ولا يصدر منه إلا طيب ولا يلابس إلا طيبا والشقي الخبيث لا يليق به إلا الخبيث ولا يأتي إلا خبيثا ولا يصدر منه إلا الخبيث فالخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه والطيب يتفجر من قلبه الطيب على لسانه وجوارحه وقد يكون في الشخص مادتان فأيهما غلب عليه كان من أهلها فإن أراد الله به خيرا طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة فيوافيه يوم القيامة مطهرا فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح والحسنات الماحية والمصائب المكفرة حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ويمسك عن الآخر مواد التطهير فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه فيدخله النار طهرة له وتصفيه وسبكا فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث صلح حينئذ لجواره ومساكنة الطيبين من عبادة وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها فأسرعهم زوالا وتطهيرا أسرعهم خروجا وأبطؤهم خروجا جزاء وفاقا وما رب بظلام للعبيد
ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه بل لو خرج منها لعاد خبيثا كما كان كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه فلذلك حرم الله تعالى على المشرك الجنة

ولما كان المؤمن الطيب المطيب مبرءا من الخبائث كانت النار حراما عليه إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب وشهدت فطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ورب العالمين لا إلاه إلا هو

 

 

 

فصل

ومن ها هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به وتصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها والروح إلى حياتها فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة فحال العبد عند مفارقه قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال بل أعظم ولكن لا يحسن بهذا إلا قلب حي و ( ما لجرح بميت إيلام  ) وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

 

 

 

 فصل

وهذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى همة إلى معرفة نبيه وسيرته وهديه اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره مع البضاعة المزجاة التي لا تنفتح لها أبواب السدد ولا يتنافس فيها المتنافسون مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة والقلب بكل واد منه شعبة والهمة قد تفرقت شذر مذر والكتاب مفقود ومن يفتح باب العلم لمذاكرته معدوم غير موجود فعود العلم النافع الكفيل بالسعادة قد أصبح ذاويا وربعه قد أوحش من أهله وعاد منهم خاليا فلسان العالم قد ملىء بالغلول مضاربة لغلبة الجاهلين وعادت موارد شفائه وهي معاطبه لكثرة المنحرفين والمحرفين فليس له معول إلا على الصبر الجميل وما له ناصر ولا معين إلا الله وحده وهو حسبنا ونعم الوكيل

المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day