البحث
فصل هديه في الصلاة 2
فصل هديه في الصلاة 2
وحديث أبي قتادة المتفق عليه ظاهر في الإقتصار على فاتحة الكتاب في الركعتين الأخريين وقال أبو قتادة رضي الله عنه وكان رسول الله يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا الآية أحيانا زاد مسلم ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والحديثان غير صريحين في محل النزاع وأما حديث أبي سعيد فإنما هو حزر منهم وتخمين ليس إخبارا عن تفسير نفس فعله وأما حديث أبي قتادة فيمكن أن يراد به أنه كان يقتصر على الفاتحة وأن يراد به أنه لم يكن يخل بها في الركعتين الأخريين بل كان يقرؤها فيهما كما كان يقرؤها في الأوليين فكان يقرأ الفاتحة في كل ركعة وإن كان حديث أبي قتادة في الإقتصار أظهر فإنه في معرض التقسيم فإذا قال كان يقرأ في الأوليين بالفاتحة والسورة وفي الأخريين بالفاتحة كان كالتصريح في إختصاص كل قسم بما ذكر فيه
وعلى هذا فيمكن أن يقال إن هذا أكثر فعله وربما قرأ في الركعتين الأخريين بشيء فوق الفاتحة كما دل عليه حديث أبي سعيد وهذا كما أن هديه كان تطويل القراءة في الفجر وكان يخففها أحيانا وتخفيف القراءة في المغرب وكان يطيلها أحيانا وترك القنوت في الفجر وكان يقنت فيها أحيانا والإسرار في الظهر والعصر بالقراءة وكان يسمع الصحابة الآية فيها أحيانا وترك الجهر بالبسملة وكان يجهر بها أحيانا والمقصود أنه كان يفعل في الصلاة شيئا أحيانا لعارض لم يكن من فعله الراتب ومن هذا لما بعث فارسا طليعة ثم قام إلى الصلاة وجعل يلتفت في الصلاة إلى الشعب الذي يجيء منه الطليعة ولم يكن من هديه الإلتفات في الصلاة وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله عن الإلتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد وفي الترمذي من حديث سعيد بن المسيب عن أنس رضي الله عنه قال قال لي رسول الله يا بني إياك والإلتفات في الصلاة فإن الإلتفات في الصلاة هلكة فإن كان ولا بد ففي التطوع لا في الفرض ولكن للحديث علتان إحداهما أن رواية سعيد عن أنس لا تعرف الثانية أن في طريقه علي بن زيد بن جدعان وقد ذكر البزار في مسنده من حديث يوسف بن عبدالله بن سلام عن أبي الدرداء عن النبي لا صلاة للملتفت
فأما حديث ابن عباس أن رسول الله كان يلحظ في الصلاة يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره فهذا حديث لا يثبت قال الترمذي فيه حديث غريب ولم يزد وقال الخلال أخبرني الميموني أن أبا عبدالله قيل له إن بعض الناس أسند أن النبي كان يلاحظ في الصلاة فأنكر ذلك إنكارا شديدا حتى تغير وجهه وتغير لونه وتحرك بدنه ورأيته في حال ما رأيته في حال قط أسوأ منها وقال النبي كان يلاحظ في الصلاة يعني أنه أنكر ذلك وأحسبه قال ليس له إسناد وقال من روى هذا إنما هذا من سعيد بن المسيب ثم قال لي بعض أصحابنا إن أبا عبدالله وهن حديث سعيد هذا وضعف إسناده وقال إنما هو عن رجل عن سعيد وقال عبدالله بن أحمد حدثت أبي بحديث حسان بن إبراهيم عن عبدالملك الكوفي قال سمعت العلاء قال سمعت مكحولا يحدث عن أبي أمامة وواثلة كان النبي إذا قام إلى الصلاة لم يلتفت يمينا ولا شمالا ورمى ببصره في موضع سجوده فأنكره جدا وقال اضرب عليه فأحمد رحمه الله أنكر هذا وهذا وكان إنكاره للأول أشد لأنه باطل سندا ومتنا والثاني إنما أنكر سنده وإلا فمتنه غير منكر والله أعلم ولو ثبت الأول لكان حكاية فعل فعله لعله كان لمصلحة تتعلق بالصلاة ككلامه عليه السلام وهو وأبو بكر وعمر وذو اليدين في الصلاة لمصلحتها أو لمصلحة المسلمين كالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية قال ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح فجعل رسول الله يصلي وهو يلتفت إلى الشعب قال أبو داود يعني وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس فهذا الإلتفات من الإشتغال بالجهاد في الصلاة وهو يدخل في مداخل العبادات كصلاة الخوف وقريب منه قول عمر إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة فهذا جمع بين الجهاد والصلاة ونظيره التفكر في معاني القرآن واستخراج كنوز العلم منه في الصلاة فهذا جمع بين الصلاة والعلم فهذا لون والتفات الغافلين اللاهين وأفكارهم لون آخر وبالله التوفيق...
فهديه الراتب إطالة الركعتين الأوليين من الرباعية على الأخريين وإطالة الأولى من الأوليين على الثانية ولهذا قال سعد لعمر أما أنا فأطيل في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله وكذلك كان هديه إطالة صلاةالفجر على سائر الصلوات كما تقدم قالت عائشة رضي الله عنها فرض الله الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله زيد في صلاة الحضر إلا الفجر فإنها أقرت على حالها من أجل طول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وأصله في صحيح البخاري وهذا كان هديه في سائر صلاته إطاله أولها على آخرها كما فعل في الكسوف وفي قيام الليل لما صلى ركعتين طويلتين ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما حتى أتم صلاته ولا يناقض هذا افتتاحه صلاة الليل بركعتين خفيفتين وأمره بذلك لأن هاتين الركعتين مفتاح قيام الليل فهما بمنزلة سنة الفجر وغيرها وكذلك الركعتان اللتان كان يصليهما أحيانا بعد وتره تارة جالسا وتارة قائما مع قوله واجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا فإن هاتين الركعتين لا تنافيان هذا الأمر كما أن المغرب وتر للنهار وصلاة السنة شفعا بعدها لا يخرجها عن كونها وترا للنهار وكذلك الوتر لما كان عبادة مستقلة وهو وتر الليل كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب من المغرب ولما كان المغرب فرضا كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهرا جدا وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين إن شاء الله تعالى وهي مسالة شريفة لعلك لا تراها في مصنف والله التوفيق
فصل
وكان إذا جلس في التشهد الأخير جلس متوركا وكان يفضي بوركه إلى الأرض ويخرج قدمه من ناحية واحدة فهذا أحد الوجوه الثلاثة التي رويت عنه في التورك ذكره أبو داود في حديث أبي حميد الساعدي من طريق عبدالله بن لهيعة وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه هذه الصفة من حديث أبي حميد الساعدي من غير طريق ابن لهيعة وقد تقدم حديثه الوجه الثاني ذكره البخاري في صحيحه من حديث أبي حميد أيضا قال وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته فهذا هو الموافق للأول في الجلوس على الورك وفيه زيادة وصف في هيئة القدمين لم تتعرض الرواية الأولى لها ..
الوجه الثالث ما ذكره مسلم في صحيحه من حديث عبدالله ابن الزبير أنه كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه ويفرش قدمه اليمنى وهذه هي الصفة التي اختارها أبو القاسم الخرقي في مختصره وهذا مخالف للصفتين الأوليين في إخراج اليسرى من جانبه الأيمن وفي نصب اليمنى ولعله كان يفعل هذا تارة وهذا تارة وهذا أظهرويحتمل أن يكون من اختلاف الرواة ولم يذكر عنه عليه السلام هذا التورك إلا في التشهد الذي يليه السلام قال الإمام أحمد ومن وافقه هذا مخصوص بالصلاة التي فيها تشهدان وهذا التورك فيها جعل فرقا بين الجلوس في التشهد الأول الذي يسن تخفيفه فيكون الجالس فيه متهيئا للقيام وبين الجلوس في التشهد الثاني الذي يكون الجالس فيه مطمئنا وأيضا فتكون هيئة الجلوسين فارقة بين التشهدين مذكرة للمصلي حاله فيهما وأيضا فإن أبا حميد إنما ذكر هذه الصفة عنه في الجلسة التي في التشهد الثاني فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وأنه كان يجلس مفترشا ثم قال وإذا جلس في الركعة الآخرة وفي لفظ فإذا جلس في الركعة الرابعة وأما قوله في بعض ألفاظه حتى إذا كانت الجلسة التي فيها التسليم أخرج رجله اليسرى وجلس على شقه متوركا فهذا قد يحتج به من يرى التورك يشرع في كل تشهد يليه السلام فيتورك في الثانية وهو قول الشافعي رحمه الله وليس بصريح في الدلالة بل سياق الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد الذي يليه السلام من الرباعية والثلاثية فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وقيامه منه ثم قال حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم جلس متوركا فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني
فصل
وكان إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وضم أصابعه الثلاث ونصب السبابة وفي لفظ وقبض أصابعه الثلاث ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ذكره مسلم عن ابن عمر وقال وائل بن حجر جعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها وهو في السنن وفي حديث ابن عمر في صحيح مسلم عقد ثلاثة وخمسين وهذه الروايات كلها واحدة فإن من قال قبض أصابعه الثلاث أراد به أن الوسطى كانت مضمومة لم تكن منشورة كالسبابة ومن قال قبض ثنتين من أصابعه أراد أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى وقد صرح بذلك من قال وعقد ثلاثة وخمسين فإن الوسطى في هذا العقد تكون مضمومة ولا تكون مقبوضة مع البنصر
وقد استشكل كثير من الفضلاء هذا إذ عقد ثلاث وخمسين لا يلائم واحدة من الصفتين المذكورتين فإن الخنصر لا بد أن تركب البنصر في هذا العقد وقد أجاب عن هذا بعض الفضلاء بأن الثلاثة لها صفتان في هذا العقد قديمة وهي التي ذكرت في حديث ابن عمر تكون فيها الأصابع الثلاث مضمومة مع تحليق الإبهام مع الوسطى وحديثه وهي المعروفة اليوم بين أهل الحساب والله أعلم وكان يبسط ذراعه على فخذه ولا يجافيها فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه وأما اليسرى فممدودة الأصابع على الفخذ اليسرى وكان يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه في ركوعه وفي سجوده وفي تشهده ويستقبل أيضا بأصابع رجليه القبلة في سجوده وكان يقول في كل ركعتين التحيات وأما المواضع التي كان يدعو فيها في الصلاة فسبعة مواطن أحدها بعد تكبيرة الإحرام في محل الإستفتاح الثاني قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك فإن فيه نظرا الثالث بعد الإعتدال من الركوع كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى
كان رسول الله إذا رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ الرابع في ركوعه كان يقول سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي الخامس في سجوده وكان فيه غالب دعائه السادس بين السجدتين السابع بعد التشهد وقبل السلام وبذلك أمر في حديث أبي هريرة وحديث فضالة بن عبيد وأمر أيضا بالدعاء في السجود وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه أصلا ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه ولا أرشد إليه أمته وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما والله أعلم
وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها وهذا هو اللائق بحال المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه ثم يسأله إذا انصرف عنه ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي إلا أن ها هنا نكتة لطيفة وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة استحب له أن يصلي على النبي بعد ذلك ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية لا لكونه دبر الصلاة فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه وصلى على رسول الله استحب له الدعاء عقيب ذلك كما في حديث فضالة بن عبيد إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء قال الترمذي حديث صحيح
فصل
ثم كان يسلم على يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك هذا كان فعله الراتب رواه عنه خمسة عشر صحابيا وهم عبدالله ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد الساعدي ووائل بن حجر وأبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وعبدالله بن عمر وجابر بن سمرة والبراء بن عازب وأبو مالك الأشعري وطلق بن علي وأوس بن أوس وأبو رمثة وعدي بن عميرة رضي الله عنهم وقد روي عنه أنه كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولكن لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح وأجود ما فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنه كان يسلم تسليمة واحدة السلام عليكم يرفع بها صوته حتى يوقظنا وهو حديث معلول وهو في السنن لكنه كان في قيام الليل والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شاهدوه في الفرض والنفل على أن حديث عائشة ليس صريحا في الإقتصار على التسليمة الواحدة بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها ولم تنف الأخرى بل سكتت عنها وليس سكوتها عنها مقدما على رواية من حفظها وضبطها وهم أكثر عددا وأحاديثهم أصح وكثير من أحاديثهم صحيح والباقي حسان
وقال أبو عمر بن عبدالبر روي عن النبي أنه كان يسلم تسليمة واحدة من حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث عائشة ومن حديث أنس إلا أنها معلولة ولا يصححها أهل العلم بالحديث ثم ذكر علة حديث سعد أن النبي كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة قال وهذاوهم وغلط وإنما الحديث كان رسول الله يسلم عن يمينه وعن يساره ثم ساق الحديث من طريق ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه قال رأيت رسول الله يسلم عن يمينه وعن شماله حتى كأني أنظر إلى صفحة خده فقال الزهري ما سمعنا هذا من حديث رسول الله فقال له إسماعيل ابن محمد أكل حديث رسول الله قد سمعته قال لا قال فنصفه قال لا قال فاجعل هذا من النصف الذي لم تسمع قال وأما حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي كان يسلم تسليمة واحدة فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به وذكر ليحيى بن معين هذا الحديث فقال حديث عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما قال وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئا
قال وقد روي مرسلا عن الحسن أن النبي وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يسلمون تسليمة واحدة وليس مع القائلين بالتسليمة غير عمل أهل المدينة قالوا وهو عمل قد توارثوه كابرا عن كابر ومثله يصح الإحتجاج به لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا وهذه طريقة قد خالفهم فيها سائر الفقهاء والصواب معهم والسنن الثابتة عن رسول الله لا تدفع ولا ترد بعمل أهل بلد كائنا من كان وقد أحدث الأمراء بالمدينة وغيرها في الصلاة أمورا استمر عليها العمل ولم يلتفت إلى إستمراره وعمل أهل المدينة الذي يحتج به ما كان في زمن الخلفاء الراشدين وأما عملهم بعد موتهم وبعد انقراض عصر من كان بها في الصحابة فلا فرق بينهم وبين عمل غيرهم والسنة تحكم بين الناس لاعمل أحد بعد رسول الله وخلفائه بالله التوفيق
فصل
وكان يدعو في صلاته فيقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم وكان يقول في صلاته أيضا اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي فيما رزقتني وكان يقول اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم وكان يقول في سجوده رب أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها وقد تقدم ذكر بعض ما كان يقول في ركوعه وسجوده وجلوسه واعتداله في الركوع
فصل
والمحفوظ في أدعيته في الصلاة كلها بلفظ الإفراد كقوله رب اغفر لي وارحمني واهدني وسائر الأدعية المحفوظة عنه ومنها قوله في دعاء الإستفتاح اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب الحديث وروى الإمام أحمد رحمه الله وأهل السنن من حديث ثوبان عن النبي لا يؤم عبد قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم قال ابن خزيمة في صحيحه وقد ذكر حديث اللهم باعد بيني وبين خطاياي الحديث قال في هذا دليل على رد الحديث الموضوع لا يؤم عبد قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه والله أعلم
فصل
وكان إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه ذكره الإمام أحمد رحمه الله وكان في التشهد لا يجاوز بصره إشارته وقد تقدم وكان قد جعل الله تعالى قرة عينه ونعيمه وسروره وروحه في الصلاة وكان يقول يا بلال أرحنا بالصلاة وكان يقول وجعلت قرة عيني في الصلاة ومع هذا لم يكن يشغله ما هو فيه من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم مع كمال إقباله وقربه من الله تعالى وحضور قلبه بين يديه واجتماعه عليه وكان يدخل في الصلاة وهو يريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيخففها مخافة أن يشق على أمه وأرسل مرة فارسا طليعة له فقام يصلي وجعل يلتفت إلى الشعب الذي يجيء منه الفارس ولم يشغله ما هو فيه عن مراعاة حال فارسه وكذلك كان يصلي الفرض وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ابنة بنته زينب على عاتقه إذا قام حملها وإذا ركع وسجد وضعها
وكان يصلي فيجيء الحسن أو الحسين فيركب ظهره فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره وكان يصلي فتجيء عائشة من حاجتها والباب مغلق فيمشي فيفتح لها الباب ثم يرجع إلى الصلاة وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة وقال جابر بعثني رسول الله لحاجة ثم أدركته وهو يصلي فسلمت عليه فأشار إلي ذكره مسلم في صحيحه وقال أنس رضي الله عنه كان النبي يشير في الصلاة ذكره الإمام أحمد رحمه الله وقال صهيب مررت برسول الله وهو يصلي فسلمت عليه فرد إشارة قال الراوي لا أعلمه قال إلا إشارة بأصبعه وهو في السنن والمسند وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما خرج رسول الله إلى قباء يصلي فيه قال فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو في الصلاة فقلت لبلال كيف رأيت رسول الله يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي قال يقول هكذا وبسط جعفر بن عون كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق وهو في السنن والمسند وصححه الترمذي ولفظه كان يشير بيده
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لما قدمت من الحبشة أتيت النبي وهو يصلي فسلمت عليه فأومأ برأسه ذكره البيهقي وأما حديث أبي غطفان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته فحديث باطل ذكره الدارقطني وقال لنا ابن أبي داود أبو غطفان هذا رجل مجهول والصحيح عن النبي أنه كان يشير في صلاته رواه أنس وجابر وغيرهما وكان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة فإذا سجد غمزها بيده فقبضت رجليها وإذا قام بسطتهما وكان يصلي فجاءه الشيطان ليقطع عليه صلاته فأخذه فخنقه حتى سال لعابه على يده وكان يصلي على المنبر ويركع عليه فإذا جاءت السجدة نزل القهقري فسجد على الأرض ثم صعد عليه وكان يصلي إلى جدار فجاءت بهمة تمر من بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه يدارئها يفاعلها من المدارأة وهي المدافعة وكان يصلي فجاءته جاريتان من بني عبدالمطلب قد اقتتلتا فأخذهما بيديه فنزع إحداهما من الأخرى وهو في الصلاة ولفظ أحمد فيه فأخذتا بركبتي النبي فنزع بينهما أو فرق بينهما ولم ينصرف وكان يصلي فمر بين يديه غلام فقال بيده هكذا فرجع ومرت بين يديه جارية فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله قال هن أغلب ذكره الإمام أحمد وهو في السنن
وكان ينفخ في صلاته ذكره الإمام أحمد وهو في السنن وأما حديث النفخ في الصلاة كلام فلا أصل له عن رسول الله وإنما رواه سعيد في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله إن صح وكان يبكي في صلاته وكان يتنحنح في صلاته قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان لي من رسول الله ساعة آتية فيها فإذا أتيته استأذنت فإن وجدته يصلي فتنحنح دخلت وإن وجدته فارغا أذن لي ذكره النسائي وأحمد ولفظ أحمد كان لي من رسول الله مدخلان بالليل والنهار وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح رواه أحمد وعمل به فكان يتنحنح في صلاته ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة وكان يصلي حافيا تارة ومنتعلا أخرى كذلك قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنه وأمر بالصلاة بالنعل مخالفة لليهود وكان يصلي في الثوب الواحد تارة وفي الثوبين تارة وهو أكثر
وقنت في الفجر بعد الركوع شهرا ثم ترك القنوت ولم يكن من هديه القنوت فيها دائما ومن المحال أن رسول الله كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول اللهم اهدني فيمن هديت وتولني فيمن توليت الخ ويرفع بذلك صوته ويؤمن عليه أصحابه دائما إلى أن فارق الدنيا ثم لا يكون ذلك معلوما عند الأمة بل يضيعه أكثر أمته وجمهور أصحابه بل كلهم حتى يقول من يقول منهم إنه محدث كما قال سعد بن طارق الأشجعي قلت لأبي يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ها هنا وبالكوفة منذ خمس سنين فكانا يقنتون في الفجر فقال أي بني محدث رواه أهل السنن وأحمد وقال الترمذي حديث حسن صحيح وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير قال أشهد أني سمعت ابن عباس يقول إن القنوت في صلاة الفجر بدعة وذكر البيهقي عن أبي مجلز قال صليت مع ابن عمر صلاة الصبح فلم يقنت فقلت له لا أراك تقنت فقال لا أحفظه عن أحد من أصحابنا ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله لو كان يقنت كل غداة ويدعو بهذا الدعاء ويؤمن الصحابة لكان نقل الأمة لذلك كلهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها وإن جاز عليهم تضييع أمر القنوت منها جاز عليهم تضييع ذلك ولا فرق،،
وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديه الجهر بالبسملة كل يوم وليلة خمس مرات دائما مستمرا ثم يصيع أكثر الأمة ذلك ويخفى عليها وهذا من أمحل المحال بل لو كان ذلك واقعا لكان نقله كنقل عدد الصلوات وعدد الركعات والجهر والإخفات وعدد السجدات ومواضع الأركان وترتيبها والله الموفق والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه جهر وأسر وقنت وترك وكان إسراره أكثر من جهره وتركه القنوت أكثر من فعله فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين ثم تركه لما قدم من دعا لهم وتخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين فكان قنوته لعارض فلما زال ترك القنوت ولم يختص بالفجر بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب ذكره البخاري في صحيحه عن أنس وقد ذكره مسلم عن البراء وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال قنت رسول الله شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على حي من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه ورواه أبو داود وكان هديه القنوت في النوازل خاصة وتركه عند عدمها ولم يكن يخصه بالفجر بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل ولإتصالها بصلاة الليل وقربها من السحر وساعة الإجابة وللتنزل الإلهي ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها الله وملائكته أو ملائكة الليل والنهار كما روي هذا وهذا في تفسير قوله تعالى ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) الإسراء 78
وأما حديث ابن أبي فديك عن عبدالله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن ابي هريرة قال كان رسول الله إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية يرفع يديه فيها فيدعو بهذا الدعاء اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت فما أبين الإحتجاج به لو كان صحيحا أو حسنا ولكن لا يحتج بعبدالله هذا وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت عن أحمد ابن عبدالله المزني حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك فذكره نعم صح عن أبي هريرة أنه قال والله لأنا أقربكم صلاة برسول الله فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول سمع الله لمن حمده فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار
ولا ريب أن رسول الله فعل ذلك ثم تركه فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة وأن رسول الله فعله
وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها ويقولون هو منسوخ وفعله بدعة فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها وهم أسعد بالحديث من الطائفتين فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله ويتركونه حيث تركه فيقتدون به في فعله وتركه ويقولون فعله سنة وتركه سنة ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه ولا يكرهون فعله ولا يرونه بدعة ولا فاعله مخالفا للسنة كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ولا يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفا للسنة بل من قنت فقد أحسن ومن تركه فقد أحسن وركن الإعتدال محل الدعاء والثناء وقد جمعهما النبي فيه ودعاء القنوت دعاء وثناء فهو أولى بهذا المحل
وإذا جهر به الإمام أحيانا ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك فقد جهر عمر بالإستفتاح ليعلم المأمومين وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة ومن هذا أيضا جهر الإمام بالتأمين وهذا من الإختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة وأنواع النسك من الإفراد والقران والتمتع وليس مقصودنا إلا ذكر هديه الذي كان يفعله هو فإنه قبلة القصد وإليه التوجه في هذا الكتاب وعليه مدار التفتيش والطلب وهذا شيء والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز ولما لا يجوز وإنما مقصودنا فيه هدي النبي الذي كان يختاره لنفسه فإنه أكمل الهدي وأفضله فإذا قلنا لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر ولا الجهر بالبسملة لم يدل ذلك على كراهية غيره ولا أنه بدعة ولكن هدية أكمل الهدي وأفضله والله المستعان وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس قال ما زال رسول الله يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في المسند والترمذي وغيرهما فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره وقال ابن المديني
وقال لي شيخنا ابن تيمية قدس الله روحه وهذا الإسناد نفسه هو إسناد حديث ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ) الأعراف 172 حديث أبي بن كعب الطويل وفيه وكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم فأرسل تلك الروح إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فأرسله الله في صورة بشر فتمثل لها بشرا سويا قال فحملت الذي يخاطبها فدخل من فيها وهذا غلظ محض فإن أرسل إليها الملك الذي قال لها ( إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ) مريم 19 ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى بن مريم هذا محال والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحب مناكير لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث البتة ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء فإن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع كما قال تعالى ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) الروم 26 وقال تعالى ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) الزمر 9 وقال تعالى ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) التحريم
وقال أفضل الصلاة طول القنوت وقال زيد بن أرقم لما نزل قوله تعالى ( وقوموا لله قانتين ) البقرة 238 أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وأنس رضي الله عنه لم يقل لم يزل يقنت بعد الركوع رافعا صوته اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره ويؤمن من خلفه ولا ريب أن قوله ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله قنوت وتطويل هذا الركن قنوت وتطويل القراءة قنوت وهذا الدعاء المعين قنوت فمن أين لكم أن أنسا إنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت ولا يقال تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها وأنس خص الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت ولا يمكن أن يقال إنه الدعاء على الكفار ولا الدعاء للمستضعفين من المؤمنين لأن أنسا قد أخبر أنه كان قنت شهرا ثم تركه فتعين أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوت المعروف وقد قنت أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والبراء بن عازب وأبو هريرة وعبدالله بن عباس وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم والجواب من وجوه أحدها أن أنسا قد أخبر أنه كان يقنت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري فلم يخصص القنوت بالفجر وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء فما بال القنوت اختص بالفجر
فإن قلتم قنوت المغرب منسوخ قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة وكذلك قنوت الفجر سواء ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلا على نسخ قنوت الفجر سواء ولا يمكنكم أبدا أن تقيموا دليلا على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوت الفجر فإن قلتم قنوت المغرب كان قنوتا للنوازل لا قنوتا راتبا قال منازعوكم من أهل الحديث نعم كذلك هو وكذلك قنوت الفجر سواء وما الفرق قالوا ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوت نازله لا قنوتا راتبا أن أنسا نفسه أخبر بذلك وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة ثم تركه ففي الصحيحين عن أنس قال قنت رسول الله شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه الثاني أن شبابة روى عن قيس بي الربيع عن عاصم بن سليمان قال قلنا لأنس بن مالك إن قوما يزعمون أن النبي لم يزل يقنت بالفجر قال كذبوا وإنما قنت رسول الله شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء العرب وقيس بن الربيع وإن كان يحيى بن معين ضعفه فقد وثقه غيره وليس بدون أبي جعفر الرازي فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا وقيس ليس بحجة في هذا الحديث وهو أوثق منه أو مثله والذين ضعفوا أبا جعفر أكثر من الذين ضعفوا قيسا فإنما يعرف تضعيف قيس عن يحيى وذكر سبب تضعيفه فقال أحمد بن سعيد ابن أبي مريم سألت يحيى عن قيس بن الربيع فقال ضعيف لا يكتب حديثه كان يحدث بالحديث عن عبيدة وهو عنده عن منصور ومثل هذا لا يوجب رد حديث الراوي لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين
الثالث أن أنسا أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون وأن بدء القنوت هو قنوت النبي يدعو على رعل وذكوان ففي الصحيحين من حديث عبدالعزيز بن صهيب عن أنس قال بعث رسول الله سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له بئر معونة فقال القوم والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله فقتلوهم فدعا رسول الله عليهم شهرا في صلاة الغداة فذلك بدء القنوت وما كنا نقنت فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه القنوت دائما وقول أنس فذلك بدء القنوت مع قوله قنت شهرا ثم تركه دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوت النوازل وهو الذي وقته بشهر وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهرا كما في الصحيحين عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله قنت في صلاة العتمة شهرا يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف قال أبو هريرة وأصبح ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له فقال أو ما تراهم قد قدموا فقنوته في الفجر كان هكذا سواء لأجل أمر عارض ونازلة ولذلك وقته أنس بشهر
وقد روي عن أبي هريرة أنه قنت لهم أيضا في الفجر شهرا وكلاهما صحيح وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس قنت رسول الله شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ورواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح وقد ذكر الطبراني في معجمه من حديث محمد بن أنس حدثنا مطرف بن طريف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب أن النبي كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها وقال الطبراني لم يروه عن مطرف إلا محمد بن أنس انتهى وهذا الإسناد وإن كان لا تقوم به حجة فالحديث صحيح من جهة المعنى لأن القنوت هو الدعاء ومعلوم أن رسول الله لم يصل صلاة مكتوبة إلا دعا فيها كما تقدم وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك وأن دعاءه استمر في الفجر إلى أن فارق الدنيا
الوجه الرابع أن طرق أحاديث أنس تبين المراد ويصدق بعضها بعضا ولا تتناقض وفي الصحيحين من حديث عاصم الأحول قال سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة فقال قد كان القنوت فقلت كان قبل الركوع أو بعده قال قبله قلت وإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت قنت بعده قال كذب إنما قلت قنت رسول الله بعد الركوع شهرا وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم وسائر الرواة عن أنس خالفوه فقالوا عاصم ثقة جدا غير أنه خالف أصحاب أنس في موضع القنوتين والحافظ قد يهم والجواد قد يعثر وحكوا عن الإمام أحمد تعليله فقال الأثرم قلت لأبي عبدالله يعني أحمد بن حنبل أيقول أحد في حديث أنس إن رسول الله قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول فقال ما علمت أحدا يقوله غيره قال أبو عبدالله خالفهم عاصم كلهم هشام عن قتادة عن أنس والتيمي عن أبي مجلز عن أنس عن النبي قنت بعد الركوع وأيوب عن محمد بن سيرين قال سألت أنساوحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه وأما عاصم فقال قلت له فقال كذبوا إنما قنت بعد الركوع شهرا قيل له من ذكره عن عاصم قال أبو معاوية وغيره قيل لأبي عبدالله وسائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع فقال بلى كلها عن خفاف ابن إيماء بن رحضة وأبي هريرة قلت لأبي عبدالله فلم ترخص إذا في القنوت قبل الركوع وإنما صح الحديث بعد الركوع فقال القنوت في الفجر بعد الركوع
وفي الوتر يختار بعد الركوع ومن قنت قبل الركوع فلا بأس لفعل أصحاب النبي واختلافهم فأما في الفجر فبعد الركوع فيقال من العجب تعليل هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ والإحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي وقيس بن الربيع وعمرو بن أيوب وعمرو بن عبيد ودينار وجابر الجعفي وقل من تحمل مذهبا وانتصر له في كل شيء إلا اضطر إلى هذا المسلك فنقول وبالله التوفيق أحاديث أنس كلها صحاح يصدق بعضها بعضا ولا تتناقض والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير القنوت الذي ذكره بعده والذي وقته غير الذي أطلقه فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة وهو الذي قال فيه النبي أفضل الصلاة طول القنوت والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء فعله شهرا يدعو على قوم ويدعو لقوم ثم استمر يطيل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا كما في الصحيحين عن ثابت عن أنس قال إني لا أزال أصلي بكم كما كان رسول الله يصلي بنا قال وكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة يمكث حتى يقول القائل قد نسي فهذا هو القنوت الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا
ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل بل كان يثني على ربه ويمجده ويدعوه وهذا غير القنوت الموقت بشهر فإن ذلك دعاء على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة وأما تخصيص هذا بالفجر فبحسب سؤال السائل فإنما سأله عن قنوت الفجر فأجابه عما سأله عنه وأيضا فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات ويقرأ فيها بالستين إلى المائة وكان كما قال البراء بن عازب ركوعه واعتداله وسجوده وقيامه متقاربا وكان يظهر من تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذا الإعتدال كما تقدمت الأحاديث بذلك وهذا قنوت منه لا ريب فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا ولما صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثر الناس هو هذا الدعاء المعروف اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم ونشأ من لا يعرف غير ذلك فلم يشك أن رسول الله وأصحابه كانوا مداومين عليه كل غداة وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء
وقالوا لم يكن هذا من فعله الراتب بل ولا يثبت عنه أنه فعله وغاية ما روي عنه في هذا القنوت أنه علمه للحسن بن علي كما في المسند والسنن الأربع عنه قال علمني رسول الله كلمات أقولهن في قنوت الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت قال الترمذي حديث حسن ولا نعرف في القنوت عن النبي شيئا أحسن من هذا وزاد البيهقي بعد ولا يذل من واليت ولا يعز من عاديت ومما يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيام للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب حدثنا أبو هلال حدثنا حنظلة إمام مسجد قتادة قلت هو السدوسي قال اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح فقال قتادة قبل الركوع وقلت أنا بعد الركوع فأتينا أنس بن مالك فذكرنا له ذلك فقال أتيت النبي في صلاة الفجر فكبر وركع ورفع رأسه ثم سجد ثم قام في الثانية فكبر وركع ثم رفع رأسه فقام ساعة ثم وقع ساجدا وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء وهو يبين مراد أنس بالقنوت فإنه ذكره دليلا لمن قال إنه قنت بعد الركوع فهذا القيام والتطويل هو كان مراد أنس فاتفقت أحاديثه كلها وبالله التوفيق وأما المروي عن الصحابة فنوعان أحدهما قنوت عند النوازل كقنوت الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلمة وعند محاربة أهل الكتاب وكذلك قنوت عمر وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام الثاني مطلق مراد من حكاه عنهم به تطويل هذا الركن للدعاء والثناء والله أعلم