1. المقالات
  2. أعمال القلوب
  3. من كنز الله لا من كنزك

من كنز الله لا من كنزك

الكاتب : مدحت القصراوي
تحت قسم : أعمال القلوب
2345 2015/08/16 2024/11/18

يبيت طاويًا على صدر حارٍ، يبيت على الجمر، يضيق بخير أعطاه الله لغيره، فيتعذب ويتألم، ثم قد يؤذي من فُضّل عليه.. سواء فضل عليه بدين أو بدنيا.

والسؤال الذي لم يسأله لنفسه هل أعطى الله لأخيك من فضلك أم من فضله؟ وهل أنفق ربنا تعالى من كنزٍ تملكه أم من كنوزه تعالى؟ وهل عطاء الله تعالى لأحد يعني نقصان عطائك؟ هل ضاق ما عنده تعالى بحيث ما أعطاه لغيرك لا يستطيع أن يخلق مثله وأفضل؟!

1) انظر إلى النفوس التي زكت، كيف زكت؟ انظر إلى نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عطاء الله تعالى لغيره واحترامه له، ففضّله الله ورفع شأنه على غيره..

أمسك شيطانًا تفلت عليه صلاته وخنقه حتى وجد برد لعابه على يده الشريفة صلى الله عليه وسلم وهَمّ بربطه بسارية المسجد لكنه تذكر خصيصة أخيه سليمان واحترمها، فلم يتعدّها ولم يضق بها بل قال بانشراح صدر ومحبةٍ «فذكَرتُ دعوةَ أخي سليمانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}» (صحيح البخاري؛ برقم: [3423]).

وقال عن إفاقة موسى يوم القيامة بعد الصعقة وقد وجده آخذًا بقائمة من قوائم العرش: «فلا أدري أفاق قَبلي أم جُزِي بصَعقَةِ الطُّورِ» (صحيح البخاري؛ برقم: [4638])، ويقول عن يوم القيامة «وإن أولَ الخلائقِ يُكسَى يومَ القيامةِ إبراهيمُ» (صحيح البخاري؛ برقم: [4625]).

 

2) وانظر إلى نظرته إلى عطاء الله له؛ لم يدخل في تفاخر بل لما قال: «أَنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ» وقال بعدها «ولا فَخرَ» (سنن الترمذي؛ برقم: [3615])، ولا تأخذ هذه الكلمة بانطباعاتك بمن يقولها اليوم وهو مملوء فخرًا، فقد قالها عليه الصلاة والسلام وهو في قمة تواضعه وبأحسن لهجة تسمعها، ولم يبلّغنا أنه سيد ولد آدم إلا لأنه مأمور أن يبلغنا بهذا فإنه من العلم بما يكون يوم القيامة.

ولما طلب أن نسأل الله له الوسيلة عقب الأذان كان مأمورًا بهذا، وبلّغه لمصلحتنا لأن الله تعالى علّق الشفاعة بأسباب منها هذا السؤال، فبلّعنا ما قضاه الله وأمره ببلاغه لما يصلحنا، لا لحظ نفسه صلى الله عليه وسلم.

ولما كان يأمرنا أن نقول «رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولًا» (سنن أبي داود؛ برقم: [1529]) لم يكن هذا لحظِه بل كان هو نفسه يقول هذا الدعاء ويدعو به لأنه لم يختر نفسه نبيا، وهو كان مأمورًا أن يصدّق أنه رسول الله وأن يقبل هذا، ولو فُرض أنه كذب بما آتاه أو لم يقبله لكان خروجًا عن عبودية أُمر بها، وقد عصمه الله.

هذه كانت نظرته فيما أُعطي، كان متعبدًا قابلًا يضع نفسه حيث وضعه الله تعالى، ولمّا رفعه الله تعالى للسماوات العلى لم يتجاوز ما أُمر بالنظر اليه ولم يقصر عما أُمر به فأثنى عليه ربه بهذه العبودية وهذا الأدب فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم من الآية:17] يعني عما أُمر بالنظر إليه {وَمَا طَغَىٰ} [النجم من الآية:17]، وما تجاوز ذلك إلى ما لم يؤمر به، فكان سببًا في رفعه وتنزيل آيات تتلى إلى يوم القيامة تصف قيامه بهذه العبودية الشريفة.

كان يتعبد بقبول ما أعطاه الله تعالى، وكان يتعبد بسؤال الله من فضله العظيم الذي لا يُحد..

إن عطاء الله مفتوح ولم يكن محظورًا، فلا تنظر إلى ما يعطيه لغيرك فليس فضلك أعطاه لغيرك، بل فضله واسع وعطاؤه غير محدود، وقد أَمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُعظم المسألة من الله تعالى، فإن الله تعالى لا يتعاظمه عطاء، فإن عطاءه كلام ومنعه كلام (يعني كن فيكون).

3) النظر إلى غيرك خصيصة الشيطان حيث نظر إلى غيره (خلقتني، وخلقتَه) فإذا أدركتك هذه فعالجها بخصيصة الملائكة؛ انظر إلى خصيصة الملائكة تدعو للمصلي لأنه فقط مصلي، وتحبه فقط لطاعته، فتقعد بعد صلاتك ما دمت جالسًا في محل صلاتك ولم تُحْدث؛ فتقول الملائكة «اللهُمَّ اغفرْ لهُ، اللهُمَّ ارْحمْهُ» (صحيح البخاري؛ برقم: [477])، ولا علاقة لها بك غير أنك أطعت، وتدعو لك وأنت لا تعرفها وتطلب من الله تعالى أن يعطيك أعظم أمرين: المغفرة: لوقاية الشرور، والرحمة: لجلب الخيرات لك.

تدعو لأخيك بظهر الغيب، فيقول الملك «آمينَ، ولكَ بمِثْل» (صحيح مسلم؛ برقم: [2732])، ولا علاقة لها بك سوى أنك أطعت ربك ووصلت أخاك فيصلك هو ويدعو لك، وليس بينك وبين الملك معرفة ولا نسب، بل فقط طاعة الله..

فإذا أدركتك خصية الشيطان فداوِها بخصيصة الملَك.

4) وانظر إلى الصالحين كيف اتسعت نفوسهم لغيرهم من الخلق بالخير، انظر إلى موسى عليه السلام أُعطي أعلى درجة بشرية من الصلاح وهي النبوة بل ومع النبوة خصيصة التكليم، فلم يضق صدره أن يسألها لأخيه حتى وهب الله تعالى النبوة لأخيه {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53] وهل خسر شيئًا بعطاء أخيه؟ بل بقي مرفوعًا لدرجته {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا . وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:51-53] .. لم يخسر موسى شيئًا بعطاء الله لأخيه نبيًا بل رفعه الله ورفع أخاه وتزكى موسى بنفسه الشريفة التي ما ضاقت بخير الله لأحد، بل جُعلت آية تتلى ومثالًا يحتذى وخصيصة له ومنة من الله عليه.

5) انظر إلى الشهداء في الجنة، لما وصلوا لم يتمنوا أن تكتفي الجنة بهم وتغلق أبوابها عليهم!! بل سألوا لإخوانهم الذين تركوهم أن يلحقوا بهم ويحوزوا فضلهم وأن ينالوا كما نالوا {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:170].

وانظر إلى من تبوءوا الدار دار الإيمان، وهم الأنصار كان وصفهم الذي تفردوا به شامة بين الخلق {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم} [الحشر من الآية:9]، وهذا الإيثار ليس وهم في سعة بل وهم في احتياج خاص لهذا {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر من الآية:9].

إن محبة الله تعالى ومحبة المؤمنين فيه تفسح الصدور، وتشرحها للخلق، وقد أمر الله تعالى بفسحة الصدور وفسحة المكان، ووعد تعالى عليها فسحة أخرى في نفوسهم ودنياهم وأخراهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} [المجادلة من الآية:11].

"والغرض هو إيجاد الفسحة في النفس قبل إيجاد الفسحة في المكان. ومتى رحُب القلب اتسع وتسامح، واستقبل الجالس إخوانه بالحب والسماحة، فأفسح لهم في المكان عن رضى وارتياح"، "وعلى طريقة القرآن في استجاشة الشعور عند كل تكليف، فإنه يعِد المفسحين في المجالس بفسحة من اللّه لهم وسعة: {فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ}" (في ظلال القرآن).

لماذا ترى عطاء الله لغيرك نقصانًا من عطائك ورفع الله لغيرك يأتي على حسابك؟

إن الميدان مفتوح وفضل الله تناله النفوس المنشرحة والقلوب المتسعة ومحبي الخير للخلق.. فاللهم اجعلنا منهم.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day