1. المقالات
  2. أعمال القلوب
  3. الأرض السليبة

الأرض السليبة

الكاتب : د. صفية الودغيري
تحت قسم : أعمال القلوب
1933 2016/01/24 2024/11/18

تقابَلْنا عند مَعْبر المرور، وكان كلانا يرتدي مِعْطفَ الليل، ويكتحلُ السُّهاد في سكون الأحلام السعيدة، وهدْأَةِ الأنَّات الصارخة!

 

كانت المرايا تُغازِلُ عيونَنا الصغيرة، وتنحني للشباب الغضِّ وهو يَرْفُلُ في أثواب الحُسْن والبهجة.

 

وتلك الصورُ تَشِفُّ عن وجه الصبا وقد أدركه اللُّغوب؛ فرفَّ رِمْشه الخجول لوَميضِ النور، وقد لاح من بعيد.

 

واليوم أعترفُ بأنك قضيَّتي الأولى، وقصتي التي لم تنتهِ فصولُها؛ فأنت همساتُ تاريخي العتيد تسري إلى روحي مع النَّسيمِ، وتَضمُّني إلى رسوم جدرانِك العتيقة؛ فأنتشي شذا البَنفْسِجِ والقُرنْفلِ والورود الذكيَّة.

 

وأنتِ طفلتي الأولى وقطر الندى، وزهرة عمري التي لا يَجِفُّ رحيقُها في بساتيني وحقولي الناضرة.

 

وأنت توءم روحي، ونبضي الخافقُ في كل أركاني وأجزائي، وأنشودةُ الصباح والمساء تُدنْدِنُ على مِهادِ قلبي ولَحْني الشادي على قيثارِ صدري وأشواقي.

 

أما زلتِ تَذْكُرين:

كم ضحكنا معًا في صمت العشيَّات، ولا شيءَ يَفصِلُنا عن موكب الأحلام تنثر حولَنا الورود الزاهرة، ولا شيءَ يَصرِفُنا عن التسالي واللعب بالكرات الملوَّنة، والقفز خلفَ الأسوار العالية؟!

 

أما زلتِ تَذكُرين:

كم ضمَّنا ظلُّ أشجار الزيتون، وسحرُ منظرِها الجليل؟

وكم كنا خفافًا بلا هموم نجوبُ الوهاد والشِّعاب والسهول، ونركضُ وسطَ سنابل الزرع كأننا نسابق الشمسَ قبل أن تغيب؟!

 

أما زلتِ تذكرين:

تلك الكلماتِ الرشيقةَ التي كانت تغرقُنا في بحور يستحمُّ فيها الحِبْرُ والمِداد، ولثَمات الحروف تطبعُ رسمَها على رسائلنا القصيرة، وسطورك المعلَّقة كثريَّات النور والوَشْم المحفور في أعماق ذاتي؟!

 

أما زلتِ تذكُرين رسالتَكِ الأولى؟!

ربما لم تكن الأولى، فأنا لا أذكرُ حينَ ألقاكِ تاريخ العبور ولا تأشيرةَ السفر، ولا الحدود، ولا تاريخ الميلاد.

فشموعُ أيَّامك في قلبي لا تنطفِئُ ولا تذوب، إلا أنني لم أنسَ يومَ وصلتْني رسالتُك كم ذرفتُ من الدموع المحمومة بالذكريات والشجون!

ولم أنسَ حينَ حملتُها وضمَمْتُها إلى صدري كم كان إحساسي عميقًا كعاصفة اجتاحتْ أوصالي واقتلعتْني من الجذور.

كأنها كلماتٌ تناديني من أعماق غور مجوفٍ يفصلني عن خط الشروق!

كأنها أوراقُ الخريف تودِّعُ ما تبقَّى في ذاكرتي من حروف الربيع؛ لترسُمَ على محيَّاي مسحةَ حزنٍ تلاحِقُني كظلِّي الهائم خلفَ ساعي البريد.

وقرأتُ كلماتِك بنبرة تَحشْرجَتْ في حَلْقي كالإبر وأشواك الورد المسموم!

 

أما زلتِ تَذكُرين ماذا كتبتِ بالكحل في رماد العيون؟!

فذُبْتُ وذابَ القلب الكسير في محراب قلمِك الكسيف!

سأقرأ رسالتك، فربما تذكرين، أو ربما لا تَذكُرين العهود!

لن تتكرَّر فينا اللحظاتُ ولا الأحداثُ ولا النَّبضاتُ، وسيرحلُ كلُّ شيء إلى منفاه البعيد، وستحملُني إليكِ العَبراتُ على مراكب النسيان السَّحيق، كما كنت تحملينني بين ذراعَيْك؛ فأشعرُ بدفء أيامي وبعدك كلُّ شيء تجمَّد كالصقيع!

 

ولن تتكرَّر حكاياتنا القديمةُ، وسيظلُّ صداها يَطفَحُ بين الرُّؤى والأحلام، ونستجدي قصصَ البطولة وما كان لنا، وما كنَّا، حينَ كنَّا لا نهابُ أصداءَ الرُّعود، ولا قصفَ البنادق، ولا الخطوب وجسارتُنا جارحةٌ كالصقور، وقاماتُنا كانت تنتصِبُ في اعتزاز وشموخٍ حين كنا نغضبُ ونثورُ، وفي عروقنا صبيب الدماء يفور انتصارًا للدين والحق والعدل، ووفاءً للشرف والعرض ومواثيق العهود.

 

واليوم تستجدي الأرضُ السليبةُ رغيفَ الخبز اليابس، وفُتاتَ الطعام الناشف في سراديب الخوف والجوع!

وأطفالُنا يَحْلُمون بالثوب الجديد، والكعك بطعم السكر والليمون، والدُّمى تتراقص جدائلها في أيَّام الأعياد!

وأجسادُنا العليلة تبحثُ عن خيام لم تمزِّقْها مخالبُ الغدر والخنوع، وبيوت تسعُ القلوب ولو من قش المكانس، وعِيدان الحطب اليابس!

وأعشاش لفِراخٍ لم تخلَعْ عنها ريشَها الناعم لتلبسَ جلدًا مُمزَّقًا ملأته الخدوشُ والجروح،

وتَحْلُم أن تكبر كما كَبِرْنا وهَرِمْنا وشيَّبتْنا الأهوال والحروب!

وتَحْلُم أن تتعلَّم كيف تُصفِّقُ بأجنحتها، وتُغرِّد لنشيد السلام بلا صوتٍ مبحوحٍ.

 

واليوم تستغيثُ حبَّاتُ التراب بهُطولِ المطر؛ كي تسقيَ العُشْب الأصفرَ وسنابل الزرع الجاف، والثمرَ اليابس، وأوراق الزيتون.

كي تتفتَّح الزهورُ، ويُجبَرُ الساقُ المكسور، ويطيب الغُصْن الممدود، والجلد الذي تيبَّس، ويتطهَّر هذا السيل من البركان الثائر والهائج في كل أجزاء خارطتي الممزَّقة بالحروب، وتَمتلِئ ينابيع الأنهار والوديان والمصبَّات والمجاري التي جفَّت منذ عهود قديمة.

ويعودُ النَّغمُ لخرير المياه يَعزِفُ على أوتار الآذان فصولًا جديدة من قصص الجدّات في ليالي الشتاء البارد!

لتتكرَّر الصور، وتجيش بمشاعر ثَكْلى تنعى ألوان طفولتِنا المنعَّمة بالأفراح، وتسكبُ العيونُ دمعاتِ الخريف، وتَملَأُ ساقيات الحداد.

ويعصفُ تاريخنا المنسيُّ برسائل الحبِّ والسلام وقد يَتَّمَها الانتحابُ في محراب الحزن الطويل.

وتُذكِّرنا تلك الرسائل كيف كنَّا وكيف كان حبُّنا ينتصر على المواجع!

 

واليوم أعترفُ بأنك أرضي الحرة، ووطني الأكبر، وجغرافيتي الأولى، وتاريخي الأمجد، وهُويَّتي التي لا تفصلني عن شراييني وجذوري، وفصول حبِّي التي لا تتكرَّر.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day