البحث
النوافل طريق المحبة
أحب شيء إلى الله أن تتقرب إليه بفعل ما افترضه عليك، وهذا في جميع الأبواب، فبعد الإسلام الصلوات الخمس، وهي أعلى الواجبات، وأعظم القربات، وفي باب النفقات يأتي في مقدمتها الزكوات المفروضات، وفي باب الصيام صوم رمضان، ثم بعد ذلك "حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا"، وهو مرة فمن زاد فهو مطوع.
وهذه الفرائض عليها قوام الدين، وهي أسه وأعمدته التي يقوم عليها بناؤه، فإن تركتها هدمت دينك أو ركنا من أركانه.
وليست هذه كل الواجبات والمفروضات، بل كل ما أوجبه الله فهو داخل فيها، ويحب سبحانه من عبده أن يتقرب به إليه، كعدل الحاكم في رعيته، ورعاية الوالد لأبنائه، وقيام المرأة بحق زوجها وأولادها، والإحسان إلى الجار، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، وغيرها.
الفرائض أولًا:
وكل من هذه الواجبات جعل الله له نوافل من جنسه، غير أنه لا تقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة:
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "لا يقبل الله نافلة حتى تؤدى فريضة".
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله".
وقال عمر بن عبد العزيز: "أفضل العبادة: أداء الفرائض، واجتناب المحارم".
يقول الإمام سفيان الثوري: "إن لله حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يَقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة".
وقال عون بن عبد الله: "اجعلوا حوائجكم التي تهمكم في الصلاة المكتوبة، فإن فضل الدعاء فيها، كفضلها على النافلة
لا بد من النقص:
غير أن هذه الفرائض مهما حاول الإنسان إكمالها وإتمامها والإتيان بها على وجهها، فلا بد أن يعتريها نقص ويدخل عليها خلل، إما كمًّا بنسيان بعضها، أو تركه زمن الصبا قبل التوبة والمواظبة، وإما في صفاتها وهيئاتها وأركانها وسننها، أو في خشوعها وصدق النية فيها والإخلاص لله تعالى فيها، وقد دل على وجود هذا الخلل حديث عمار بن ياسر في المسند قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلا نِصْفُهَا، ثُلُثُهَا، رُبْعُهَا، خُمْسُهَا، سُدُسُهَا، عُشْرُهَا» (رواه أحمد والطبراني). قَالَ جَعْفَرُ بْنُ الْحَارِثِ: قُلُتْ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: لا يُتِمُّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا وَلا الرُّكُوعَ وَلا السُّجُودَ.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الوابل الصيب: "وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها".
ويوم القيامة أول ما يحاسب الله عليه عباده الفرائض والواجبات، كما ورد في المسند وسنن أبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا عز وجل للملائكة وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا، قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع، قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك». أي أن الصيام كذلك، والزكاة كذلك، وبقية الواجبات.
فأول فائدة من فوائد المحافظة على النوافل هي إتمام الفرائض وجبر نقصها، قال عليه الصلاة والسلام: «من صلى صلاة لم يتمها زيد عليها من سبحاته حتى تتم» (حسنه ابن حجر وصححه الألباني).
قال ابن تيمية رحمه الله: "من قصر في أداء الفوائت، فليكثر من النوافل؛ فإن الله يحاسب بها يوم القيامة". (جامع المسائل: 4/109).
ترك النوافل خذلان وقلة دين:
ولهذا كان ترك السنن والمداومة على تفويتها خذلانًا وقلة دين، ومخالفةً لهدي الصحابة والسابقين:
يقول ابن حجر: "كان صدر الصحابة ومن تبعهم يواظبون على السنن مواظبتهم على الفرائض، ولا يفرقون بينهما في اغتنام ثوابهما".
قال ابن عقيل الحنبلي رحمه الله: "الاستمرار على ترك السنن خذلان".
قال ابن قاسم (٢ /٢١١): "تركها يدل على قلة الدين".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"من أصر على ترك السنن الرواتب دل ذلك على قلة دينه، وردت شهادته".
فوائد المحافظة على النوافل:
وإذا كان من فوائد المداومة على السنن والنوافل جبر نقص الفرائض وصيانة الدين من النقص، فإن لها أيضًا منافع أخرى كثيرة منها:
أولًا: النوافل سياج لحفظ الفرائض:
فالنوافل سياجٌ منيع للمكتوبات، ومن حافظ عليها عَظم قدر الفرائض في قلبه، فهي لها كالحمى، والصيانة والحفظ، من داوم عليها وحافظ عليها، كان أكثر محافظة على الفرائض، ولا تفوت الفرائض إلا على من ضيع النوافل، وقلّ أن يترك عبدٌ النوافل تركًا تاما إلا امتحن بتركِ الفرائض.
يقول الإمام العابد يونس بن عبيد:"ما استخف رجل بالتطوع إلا استخف بالفريضة".
وقال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "ملازَمة الاقتَصَار على الفرائضِ وتَركُ التَنفُل يفضِي إلى إيثارِ البطالة، وعدمِ النشاطِ إلى العبادة".
ثانيًا: عظم أجرها وكبير ثوابها:
قال عليه الصلاة والسلام: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»، قال أهل العلم: هما الركعتان قبل الفريضة. وقال: م «ن صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر كله».
وقال: «من تصدَّقَ بعدْلِ تمرةٍ من كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولا يقبَلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبُ، فإنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بيمينِهِ، ثم يُربيها لصاحبها، كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّهُ، حتى تكونَ مثلَ الجبلِ» (البخاري).
وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
ثالثًا: تفتح لصاحبها أبواب المغفرة:
النوافل تفتح لك أبواب المغفرة، وتيسر لك طريق السعادة، وبها تقضى الحاجات، وتقال العثرات، ويستجاب الدعاء، وتزول الأمراض والأدواء، وبها ينزل صاحبها في رحاب الجنة؛ روى البخاري في صحيحه عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وفي الصحيحين: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». و «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وقال عليه الصلاة والسلام: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهما، إذا اجتنبت الكبائر».
«من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»، «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما».
«صوم يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده»، «صوم يوم عاشوراء يكفر السنة التي قبله».
رابعًا: توصل صاحبها إلى الجنة:
روى البخاري في الصحيح عن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال لبلالٍ عندَ صلاةِ الفجرِ: «يا بلالُ، حدِّثْنِي بأَرْجَى عملٍ عَمِلْتَهُ في الإسلامِ، فإنِّي سمعتُ دُفَّ نعليْكَ بينَ يديَّ في الجنةِ». قال: "ما عملتُ عملًا أَرْجَى عندي أنِّي لم أَتَطَهَّرَ طَهورًا، في ساعةِ ليلٍ أو نهارٍ، إلا صلَّيتُ بذلكَ الطَّهورِ ما كُتِبَ لي أن أُصلِّي".
خامسًا: النوافل طريق محبة الرحمن:
«ومَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ». ولو لم يرد في المحافظة على النوافل والسنن إلا هذا الحديث لكان حريًا على كل مسلم أن يسعى إليها، وأن يداوم عليها ويتمسك بها، فليس شيء في الوجود أعظم من أن يحبك الله، فمن أحبه الله فماذا فقد؟ ومن أبغضه الله فماذا وجد؟ كما ذكر ابن القيم أنه روي في بعض الآثار "لعله يقصد الإسرائيلية": "ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء".
من فاته أن يراك يومًا فكل أوقاته فوات
وأثر هذه المحبة وثمرتها -فضلًا أن تورثه محبة أهل السماء وأهل الأرض- هو ما ذكره الله تعالى في هذا الحديث: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» (صحيح البخاري).
فمن أحبه الله أدناه إليه، وقربه منه، وأعانه على طاعته، وشغله بذكره، ووفقه وسدده، ورقّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة ربه، ومحبته، وتعظيمه، وخوفه ومهابته، وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك زال منه كل تعلق بكل ما سوى الله، ولم يبقَ للعبد تعلق بشيء من هواه، ولا إرادة إلا ما يريده منه ربه ومولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع بالله، وإن نظر نظر بالله، أي بتوفيق الله له في هذه الأمور؛ فلا يسمع إلا ما يحبه الله، ولا يبصر إلا ما يرضي الله، ولا يبطش بيده ولا يمشي برجله إلا فيما يرضي ربه ومولاه.
اللهم وفقنا لطاعتك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.