البحث
قضاء حوائج المسلمين ..العبادة المنسية!
رغم جهود علماء الأمة ودعاتها سلفًا وخلفًا في بيان شمول الإسلام وعدم اقتصاره على جانب حياتي دون آخر، ورغم تركيزهم على التأكيد على عناية دين الله الخاتم بالشرائع التعاملية كعنايته بالشعائر التعبدية، إلا أن الأمة ما زالت بحاجة إلى لفت النظر والتذكير بهذه الحقيقة، إذ ما زالت الوقائع والشواهد من الحياة اليومية تشير بشكل أو بآخر إلى ضعف إدراك المسلمين لهذه الحقيقة عمليًا وربما شرعيًا و نظريًا.
والحقيقة أن نظرة عامة إلى سلوك المسلمين مع العبادات الشعائرية والتعاملية، تشير بوضوح إلى وجود ضعف في التزام المسلمين بالعبادات التعاملية مقارنة بأدائهم للعبادات الشعائرية، ففي الوقت الذي قد لا تجد بين المسلمين من يترك الصلوات الخمس أو يجاهر بالفطر في نهار رمضان أو... - إلا القلة النادرة بناء على الظاهر على الأقل -... تجد تقصيرًا كبيرًا و واضحًا في التزام المسلمين بأداء العبادات التعاملية، حتى غدت الكثير منها عبادات منسية، بل ربما لا يصنفها البعض - بسبب قلة الفقه في دين الله تعالى - ضمن قائمة العبادات أو الطاعات!!
ومن هنا تزداد حاجة الأمة إلى بيان أهمية أمثال هذه العبادات المنسية، وإلى تذكير المسلمين الدائم بمدى التلازم والارتباط بين الصلاة في المسجد والاعتكاف فيه - مثلًا - وبين قضاء حوائج المسلمين والسعي فيما يجلب النفع لهم، وإلى التأكيد على أن الأخلاق وحسن التعامل مع المسلمين ما هو في الحقيقة إلا ثمرة الأداء الصحيح للصلاة والصيام والزكاة والحج، وإلى التنويه بمدى الأثر السلبي الذي يخلفه الفصل بين عبادة شعائرية وأخرى تعاملية.
ولا أظن أني بحاجة إلى ضرب الكثير من الأمثلة من واقع حياة المسلمين المعاصرة في مجتمعاتنا، والتي تشير بوضوح إلى استمرار خطأ وخطر الفصل بين العبادات الشعائرية ونظيرتها التعاملية، إذ ترى الرجل يطيل القيام ويكثر من الركوع والسجود والصيام، لكنه في نفس الوقت غافل ومقصر في أداء العبادات التعاملية، وعلى رأسها قضاء حوائج المسلمين.
وعلى الرغم من كثرة الأحاديث النبوية الصحيحة التي تشير إلى مدى فضل وثواب وأهمية قضاء حوائج المسلمين، ومع تضافر قصص السلف الصالح التي تؤكد ذلك الفضل وتلك المثوبة، إلا أن الكثير من المسلمين قد يغفل عن هذه العبادة لأكثر من سبب، لعل أهمها: عدم الفهم الصحيح لحقيقة شمول هذا الدين.
أول ما يمكن ذكره من الأحاديث في فضل هذه العبادة الجليلة هو قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (صحيح البخاري برقم [2442]).
والحديث واضح في التأكيد على مبدأ "الثواب من جنس العمل"، وأن ثواب الله تعالى لمن يقضي حاجة أخيه في الدنيا لا تقتصر على تفريج كربته وستره في الآخرة فحسب، بل و قضاء حاجته في الدنيا بأفضل مما قضى حاجة أخيه، إذ لا مقارنة بين تولي العبد قضاء الحاجة من تولي الله تعالى قضاء حاجة عبده.
ويأتي حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه ليشير إلى مدى فضل هذه العبادة التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من الاعتكاف شهرًا في مسجده!!
فعن ابن عمر رضي الله عنه: "أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا»" (معجم الطبراني برقم [13468]، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة).
ولعل هذا التوجيه النبوي هو ما دفع ابن عباس رضي الله عنه للخروج من معتكفه لقضاء حاجة أخ له في الله، وهو ما استند عليه فضيلة الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ للقول: "قضاء حوائج المسلمين أهم من الاعتكاف، لأن نفعها متعدٍ، والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، إلا إذا كان النفع القاصر من مهمات الإسلام و واجباته".
لم تكن الأحاديث النبوية القولية وحدها التي بينت فضل قضاء حوائج المسلمين ومكانتها في الإسلام، بل جاءت سيرة المصطفى العملية لتؤكد هذا الفضل وتلك المزية، ففي حديث أَنَسٍ: "أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِى عَقْلِهَا شَىْءٌ فَقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى إِلَيْكَ حَاجَةً"، فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلاَنٍ انْظُرِى أَىَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِىَ لَكِ حَاجَتَكِ»، فَخَلاَ مَعَهَا فِى بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا" (صحيح مسلم برقم [6189]).
بل إن درجة اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقضاء حوائج المسلمين وصلت إلى حد الاستماع لحاجة أحدهم بعد إقامة الصلاة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في محرابة، فقد ورد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَتِ الصَّلاَةُ تُقَامُ، فَيُكَلِّمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ فِي حَاجَةٍ تَكُونُ لَهُ، فَيَقُومُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَمَا يَزَالُ قَائِمًا يُكَلِّمُهُ، فَرُبَّمَا رَأَيْتُ بَعْضَ الْقَوْمِ لَيَنْعَسُ مِنْ طُولِ قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ" (مسند الإمام أحمد برقم [12670]).
لقد فقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح النصوص السابقة وعقلوها، فتنافسوا وتسابقوا في قضاء حوائج المسلمين، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل، وكان مجاهد يقول: "صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني".
وفي مقابل هذه الإدراك الواسع من السلف الصالح لأهمية هذه العبادة، يمكن ملاحظة الغفلة عنها في العصر الحديث الذي نعيشه، رغم أن الحاجة إلى قضاء الحوائج تزداد مع تزايد حاجات المسلمين وتكاثرها جراء المحن والمآسي التي ألمت بهم في السنوات الأخيرة.